الجمعة, أكتوبر 4, 2024
11.2 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

ثقافة القضيّة اللبنانية. بقلم الدكتور ميشال الشمّاعي

بقلم الدكتور ميشال الشمّاعي

لا يختلف اثنان حول فداحة الوضع الذي يعصف بوطننا لبنان. ولعلّ ما نعيشه يأتي نتيجة لخيارات خاطئة، اتّخذها فريق من اللبنانيّين. إلّا أنّ المؤسف في ذلك كلّه أنّ هذه النتيجة تحمّلها اليوم اللبنانيّون كلّهم، على اختلاف تنوّعاتهم الحضاريّة وخياراتهم السياسيّة. يبقى أنّنا أبناء القضيّة اللبنانيّة التي انبثقت من رحم معاناة شعب ما عرف الموت، بل عانق القيامة حتّى استطاع أن يجسّدها في نمطيّة حياته. هذه النمطيّة التي بدأت صراعها مع الطبيعة الوعرة والقاسية، فجعل منها اللبنانيّ حرزًا له. تحصّن به. تنسّك. تعبّد. قاوم. صمد. وانتصر. غلب الموت الحضاريّ، بحضارة القيامة التي جسّدها بتعاطيه مع الذين ارتضى أن يشاركهم هذه الحياة؛ بغضّ النّظر عن اختلافه عنهم. لكنّ إرادة الحياة جعلتهم متشابهين.

ومن وسط ازدحام المعارك، وعويل الأرامل، وبكاء الأطفال، ودويّ الانفجارات، وضيق الانفراجات، عادت لتتجسّد ثقافة القضيّة اللبنانية بين اللبنانيّين. وهذا ما تجلّى في الاحتضان الذي أبدته المناطق اللبنانيّة المختلفة للنازحين الذين تركوا مناطق الصراع في الجنوب وضاحية بيروت الجنوبيّة والبقاع وبعلبك والهرمل.

لأربعين سنة خلت، ما انفكّت بيئة ما كان يعرف بالمقاومة الإسلاميّة في لبنان، تكيل أشنع صفات العمالة والأمركة والأسرلة لكلّ الذين يخالفونها الرأي، ولاسيّما البيئة المسيحيّة. حيث كانت حاضرة دائمة مصطلحات العمالة والتخوين على تنوّعها. حتّى إنّ هذه البيئة مجّدت القاتل وقتلت الشهيد مليار مرّة كلّ يوم لمجرّد أنّ فخامة الرئيس بشير الجميّل قرّر الدّفاع عن مجتمعه عندما تكتّل الكلّ عليه.

تباهت هذه البيئة المنتفخة بالشعارات الفارهة بتجاوزاتها. حتّى إنّها وزّعت البقلاوة اللبنانيّة يوم اغتيل جبران تويني ورفاقه من ثورة الأرز. جعلت من الذين اتّهمتهم المحكمة الدّوليّة بقتل دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري قدّيسين. واعتبرت الاعتداء على بيروت يومًا مجيدًا. حتّى صار هتك الكرامات البشريّة عندها واجبًا وطنيًّا خدمة لمقاومتهم، جسّدته في أحداث الطيّونة. تلك المظلوميّة نجحوا بتحويلها إلى عنجهيّة وتعالٍ وطنيّ وصل إلى حدّ الاستكبار.

إلّا أنّ ثقافة القضيّة اللبنانيّة المترسّخة في جينات اللبنانيّين المقاومين الأصيلين، أخفت هذه العورات الوطنيّة، لا بل دفنتها في دياجير أحقادهم. وتعالت فوقها. وجعلت من معتنقي هذه الثقافة جسر العبور الذي تحتاجه ثقافة الموت لتعبر إلى الحياة. فتحت الكنائس، والمدارس صارت صفوفها فنادق. والجمعيّات تهافتت إلى مساعدة اللبنانيّين كلّهم، من دون أيّ سؤال. بالكاد مُلئت استمارة إحصاء للإفادة عن وجود، أصرّ أبناء القضيّة اللبنانيّة على جعله حضورًا فاعلًا. ولو من تحت الرّكام، وعلى وقع هدير الطائرات وجداراتها الصوتيّة الهشّة.

نحن قوم لا نرضى أن نعيش بمذلّة. ولا نقبل لمن ارتضينا مشاركتهم بالوطن أن يعيشوا أذلّاء. كرامتنا من كرامة أيّ لبنانيّ من النّاقورة جنوبًا حتّى آخر قرية في وادي خالد شمالًا ومرورًا ببقاع البقاع اللبناني كلّها. هذه ثقافتنا. هذه أخلاقنا. هذه لبنانيّتنا. نسامح. ولا ننسى لنتّعظ ونتعلّم. لأنّ الحياة استمراريّة. ولا نعرف إلّا أن نبقى ونستمرّ مع الذين ارتضينا أن نبقى ونستمرّ معهم ليبقى لبنان وطننا ووطن اللبنانيّين كلّهم.

فثقافة القضيّة اللبنانيّة تنبض في عروقنا. نحن الذين اعتذرنا عن آثام الحرب الأهليّة التي لم نرتكبها. ونحن الذين صافحنا الأخ الذي أسلمنا بثلاثين من فضّة وجعلناه كاهن الهيكل المقدّس. وحتّى لو أنّه عاد وطعننا. نحن مستعدّون لمسامحته سبعين مرّة سبع مرّات. واليوم نسامح الذين أغدقوا علينا صفات العمالة والتخوين، ونفتح قلوبنا قبل كنائسنا ودساكرنا لنحفظ كرامتهم، لأنّ كرامتهم من كرامتنا. ومن حقّهم علينا أن نرجعهم إلى لبنانيّتهم.

لو أنّهم رفضوا لبناننا. وأرادوا من لبنان أن يكون ولاية في إيديولوجيّتهم الرجعيّة البائدة. نحن بثقافتنا اللبنانيّة قبلناهم. ودرنا لهم الأيسر. ووقفنا على أسطح منازلنا ننتظر عودتهم، عودة الابن الشاطر. هذا الابن الذي شطر ميراث الكيانيّة اللبنانيّة. وعندما قرروا أن يعودوا إلى منازلنا، ألبسناهم عباءتنا اللبنانيّة الوطنيّة، ووضعنا في أياديهم خاتمنا الوطنيّ، لا ذاك الأسود الذي لا يشبه لبنانيّتهم ولبنانيّتنا، وذبحنا لهم العجل المثمّن، وأقمنا لهم عرسًا سماويًّا.

هؤلاء هم أبناء لبناننا. وهذه ثقافة القضيّة اللبنانيّة التي تسري في عروقنا. لا نشمت بمأساة أحد. ورهبة الموت نحترمها، لأنّنا لا نختارها بل تختارنا. وليس لنا أن ندين لأنّنا نؤمن أنّنا كما ندين سنُدانُ. هذه ثقافتنا. نحن نختار لبنان الـ10452 كم2 اليوم اليوم وليس غدًا. لأنّه إن لم نختر هذا اللبنان فغدًا لن يكون لنا لبنان يأوينا.

لذلك نحن اخترنا لبنان. وفيه باقون. ولن نتنازل قيد أنملة عن حبّة تراب منه. ولا نقبل بأن يشتري كرامتنا أحد، كي لا يبيعها على مذبح المفاوضات الدّوليّة كما حدث اليوم. لذلك نصلّي لربّنا ونقول له: “نجّنا من هذه التّجارب.” ونرفع صلاتنا اليوم على نيّة الذين لم يتعلّموا من تجارب التّاريخ. ونسأل ربّ القوّات السماويّة أن ينير العقول اللبنانيّة كلّها. ويحلّ فيها نعمة المحبّة والسلام والرجاء. وأعظمها المحبّة.

فالبناء الجديد إن لم يُبْنَ على أسس المحبّة، سيعود ويقع من جديد عند أوّل هزّة وطنيّة. وهذا ما لا نريده. لأنّ ثقافة القضيّة اللبنانيّة التي اعتنقناها دينًا وطنيًّا لنا، تأبى ذلك. لبنان القضيّة آتٍ لا محالة. ولن نقبل بأن نضع خرقة بالية في ثوبنا الجديد، ولا خمرة جديدة في زقاقنا العتيق لأنّه “ليس أحد يخيط رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، وإلا فالملء الجديد يأخذ من العتيق فيصير الخرق أردأ. وليس أَحدٌ يجعل خمراً جديدة في زقاق عتيقة، لئلّا تشقّ الخمر الجديدة الزقاق، فالخمر تنصبّ والزقاق تتلَف. بل يجعلون خمراً جديدة في زقاق جديدة”.

هذه ثقافة القضيّة اللبنانيّة التي على أسسها سنبني لبنان الجديد. نعم؛ إنّ انتظارنا طال. لقد صبرنا أربعين سنة لنعبر الصحراء الوطنيّة ولنقطع بحر الدّماء هذا. وكلّنا إيمان أنّ مخلّصنا الذي سكن مع رسل علّيّة صهيون أربعين يومًا بعد القيامة وقبل الصعود، لم يتركنا نحن أيضًا في هذه الأربعين سنة العجاف. صمنا أربعين سنة. وكلّنا يقين أنّنا سننجو من كلّ الطوفانات كما نجا نوح من الطوفان الأربعيني حتّى تكاثرت المياه ورُفِعَتِ الفُلْكُ. فارتَفَعَ عنِ الأرض. فمن يصبر إلى المنتهى يخلص.  ونحن صبرنا إلى هذا المنتهى بالذات، لذلك نحن حتمًا مخلَّصونَ لأنّنا أبناء الأمَة، وأمتنا هي القضيّة اللبنانيّة.

https://hura7.com/?p=34270

الأكثر قراءة