الحرة بيروت ـ بقلم: المحامي جان نمّور
منذ تسلُّم رئيس الحكومة السيد نواف سلام لمسؤولياته، سمعنا منه، وفي عدّة مناسبات، تطرقه إلى مسألة إلغاء الطائفية السياسية، مما أثار أكثر من علامة استفهام حول توقيت هذا الطرح وأهميته على الصعيدين السياسي والإصلاحي في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ لبنان. هذا الطرح يعيد إلى الأذهان الخطاب السياسي لليسار اللبناني في منتصف الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين اعتُبرت الطائفية العلّة الأساس في لبنان.
خلال تلك المرحلة، انتشرت عدّة نظريات سياسية تتمحور حول فكرة وجوب ذوبان الفرد لصالح المجموعة، كما في حزب البعث، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والناصرية، وغيرها من التيارات التي دعت إلى انصهار الأقليات الإثنية والطائفية في مشروعٍ أوسع. إلا أن هذه النظريات تجاوزها الزمن، لصالح مقاربات جديدة تحرص على صَون حقوق الأقليات، انسجاماً مع توجه المجتمع الدولي نحو تبنّي معاهدات دولية تُعنى بحماية هذه الحقوق، لا سيّما منذ إنشاء الاتحاد الأوروبي واندفاع العولمة. وقد ذهبت بعض الطروحات الفكرية المعاصرة إلى حدّ تقديس فكرة فرادة الفرد بمعزل عن الجماعة.
هذه الأفكار الداعية إلى إلغاء الطائفية السياسية، والتي يتداولها بعض من النخب الفكرية، تشكّلت في بيئة فكرية واجتماعية وسياسية متأثرة بالجامعة الأميركية في بيروت، حيث درّس كمال صليبي، وقسطنطين زريق، وألبرت حوراني، وغيرهم. وهي البيئة نفسها التي نشأ فيها رئيس الحكومة، ما يُجيز تسمية هذه الطروحات بـ”نوستالجيا رأس بيروت”.
غير أنّ إلغاء الطائفية السياسية، كفكرة، يصطدم بمفهوم الإنسان كمركّب من عدّة أبعاد، وبارتباطه العضوي بالمكان الذي يعيش فيه، وبما يتوارثه من صدمات اجتماعية عبر الأجيال. فاللبناني، عندما يشعر بالخطر، يتهافت، دون وعيٍ منه، إلى تخزين المواد الغذائية، وهو سلوك يربطه بعض خبراء علم النفس الاجتماعي بالمجاعات التي عرفها لبنان قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً. فكيف انتقلت إلينا هذه الذاكرة الجمعية؟
في السياق ذاته، هاجر الأديب الفلسطيني إدوارد سعيد إلى الولايات المتحدة الأميركية وهو في الرابعة من عمره، إلا أن الحنين إلى فلسطين طبع جميع كتاباته. فهل يُعقل أن تؤثر أربع سنوات فقط إلى هذا الحد؟ المثال نفسه ينطبق على الكاتب اللبناني جبران خليل جبران، الذي أمضى معظم حياته في الولايات المتحدة، ومع ذلك كتب: “لو لم يكن لبنان وطني لاخترت لبنان وطني”، وأوصى بأن يُدفن في دير مار سركيس في لبنان، الأقرب إلى قريته بشري، وإلى قلبه. فما سرّ هذا التعلّق؟ من المؤكد أن للدين، والمكان، والزمان، والجماعة التي ينتمي إليها الفرد، دوراً حاسماً في تكوين هويته الاجتماعية، وانعكاس ذلك على التزامه الاجتماعي والسياسي. وقد لخّص كمال صليبي في كتابه “بيت بمنازل كثيرة” تعقيدات هذه الهوية الطائفية، ويمكن القول إن الإنسان اللبناني هو “بأبعاد كثيرة”، فهل يمكن سلخه عن هذه الأبعاد؟
تُظهر التجارب الاجتماعية ضرورة الحفاظ على الهويات المجتمعية، لا تذويبها. وما يميّز لبنان حقاً هو هذا النسيج المتعدّد من الهويات المتعايشة. لذا، فإن صدور مثل هذه الطروحات عن رئيس حكومة جال العالم يثير الاستغراب. فمعظم الدول ذات التنوع المجتمعي عمدت إلى إبراز هذا التنوع من خلال اعتماد النظام السياسي المناسب: بعضها اعتمد النظام الاتحادي أو الفيدرالي، وبعضها الآخر اختار اللامركزية الإدارية الموسعة. نذكر على سبيل المثال جزيرة كورسيكا ضمن الدولة الفرنسية، وعدداً من المناطق الإيطالية التي تتمتع بصيغ متقدمة من اللامركزية. أما في آسيا، فقد تم اعتماد النظام الفيدرالي في الهند، وباكستان، وبنغلادش، التي انفصلت لأسباب إثنية ودينية. وكذلك الإمارات العربية المتحدة، التي اعتمدت النموذج الفيدرالي، رغم وحدة اللغة والدين بين مكوناتها.
إن هذا التوصيف الخاطئ للمشكلة اللبنانية، أي حصرها في الطائفية السياسية، كان من الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى الحرب الأهلية. لأن إلغاء الطائفية السياسية، في صيغته المطروحة، يُترجم إلى مشروع غلبة عددية على حساب التنوع، مما يدل على أن هذا الطرح ليس هو الحل للأزمة البنيوية في النظام اللبناني. بل يطرح السؤال الجوهري: دولة الرئيس، لماذا يُفترض أن ينجح مشروع تذويب الهويات المجتمعية في لبنان، وقد فشل في كل أنحاء العالم؟
يقول أحد آباء اتفاق الطائف إن المادة 95 غير قابلة للتطبيق، وإنها وُضعت فقط لامتصاص النقمة السياسية للمسلمين. فكيف نُقدم على إلغاء الطائفية السياسية، فيما لم ننجح حتى في تمرير قانون يرفع سن الزواج لمنع تزويج القاصرين؟ وهو أمر يُعدّ من بديهيات القرن الحادي والعشرين! وقد تم سحب القانون من جدول الأعمال، بعد تدخلات من مراجع دينية! فكيف نُقنع الناس بإمكانية إلغاء الطائفية السياسية في ظل هذا الواقع؟
خلال ما تبقّى من عمر هذه الحكومة، من الأفضل تجنّب الطروحات الكبيرة والرنانة، أو الشعارات الأيديولوجية الفضفاضة، والتركيز بدلاً من ذلك على التعيينات والمشاريع المحدودة. ولْنترك مسألة إلغاء الطائفية جانباً، ريثما نتمكن من تطوير النظام السياسي بوسائل إصلاحية أخرى، بعيداً عن الضغوط الداخلية والخارجية التي هيمنت على القرار اللبناني حتى الأمس القريب. ولعل إقرار اللامركزية الإدارية الموسعة يشكّل خطوة حقيقية في اتجاه الإصلاح البنيوي للنظام، وتساهم في التخفيف من الأثر السلبي للطائفية، من خلال إتاحة المجال أمام كل طائفة لتعبّر عن نفسها ضمن إطار وطني جامع.