الحرة بيروت ـ بقلم: المحامي جان نمّور
خلال زيارة رئيس الحكومة، السيد نواف سلام إلى الجنوب، شهدت المنطقة تحركات شعبية حادة بتحريض من حزب الله، حيث تمّ تنظيم تجمعات لمهاجمته وانتقاده. وقد لفت الأنظار أحد المواطنين الذي واجه رئيس الحكومة بتحدٍّ مباشر، متسائلاً عن كيفية تحرير إحدى النقاط المحتلة عبر الدبلوماسية، وكأن الحكومة الحالية هي المسؤولة عن الاحتلال والدمار والموت، متجاهلاً حقيقة أن حزب الله، الذي طالما تباهى بامتلاكه 100 ألف مقاتل و150 ألف صاروخ، لم يتمكن من حماية الأرض، لا بل مُني بهزيمة ثقيلة لم يجرؤ حتى على الاعتراف بها، مكتفياً ببيع بيئته السياسية (التي لا نعلم حتى كيف تمكنت من تصديقه) وهمًا أطلق عليه اسم “انتصار”.
التسويق لهذه السرديات لا يعدو كونه نوعًا من العنف الفكري الذي يفوق خطورة القذائف والصواريخ، فهو يعمل على تشويه الوعي الجماعي، وتحويل المأساة الإنسانية إلى مجرد أداة للدعاية السياسية. بدلًا من احتضان المحزونين والوقوف إلى جانبهم على أنقاض منازلهم، يتم استغلالهم في تعبئة الشارع بخطابات بعيدة عن المنطق والواقع. والمفارقة أن حزب الله، الذي يعجز حتى عن حماية كوادره من الاغتيالات، كما كشفت تقارير إعلامية لبنانية مؤخرًا، يصرّ على جرّ بيئته نحو حرب غير متكافئة، كان ثمنها الأكبر على جمهوره نفسه.
كان الأجدر برئيس الحكومة أن يردّ على المواطن قائلاً: “لتستمر المقاومة إذن”، ويعرض على مجلس الوزراء تكليف حزب الله رسميًا بمهمة تحرير النقاط المحتلة، فهل كان الحزب سيقبل بذلك؟ وهل يتحمل مسؤولية أي تبعات سياسية وعسكرية لهذه الخطوة؟ قليل من التواضع، أيها السادة!
حماية لبنان لا تكون إلا عبر الالتزام بالقانون الدولي، سواء بالامتثال لقرارات مجلس الأمن، أو من خلال تبنّي تموضع سياسي متوازن على الساحة الدولية والعربية، قائم على مبدأ الحياد الإيجابي. فمن ينسى خطاب السفير اللبناني غسان تويني في الأمم المتحدة عام 1978، عندما خاطب ضمير العالم قائلاً: “دعوا شعبي يعيش“، ودفع مجلس الأمن لإصدار القرار 425؟ هذه الصرخة كانت أقوى من مئة ألف مقاتل و150 ألف صاروخ!
لبنان ليس الدولة الوحيدة التي تواجه مشاكل حدودية، فالإمارات العربية المتحدة لديها نزاع مع إيران حول ثلاث جزر، وتركيا واليونان تتنازعان على مناطق بحرية، لكن هذه الدول اعتمدت الدبلوماسية كوسيلة ناجعة، كما فعل لبنان نفسه في قضية تحرير الأسرى الخمسة. كذلك لجأت بعض الدول إلى المحاكم الدولية، مثل المحكمة الخاصة التي كان يرأسها رئيس الوزراء اللبناني الحالي، بدلًا من تشكيل أذرع عسكرية تقوم بعمليات خارج الحدود.
يبدو أن إسرائيل لن تنسحب من الأراضي اللبنانية إلا ضمن إطار ترتيبات شبيهة باتفاقية سلام، وهنا تبرز معضلة حزب الله الذي يرفض تحمّل المسؤولية، ويلوذ بالتحايل على القوانين والاتفاقيات التي كان طرفًا في توقيعها. لبنان بحاجة إلى مظلّة قانونية دولية، وليس إلى مغامرات غير محسوبة يقوم بها البعض.
المقلق حقًا هو الخطاب الذي يتردد في أوساط حزب الله، والذي يعكس انفصالًا واضحًا عن الواقع، وأفكارًا معلّبة تعكس عمق الأزمة الفكرية في بيئته. هذه الأزمة لا بد أن تُواجَه من خلال فرز طبقة سياسية جديدة تطلق مشروع مقاومة ثقافية شاملة، تضع لبنان على طريق استعادة دوره كمنصة للتعددية والانفتاح وكمساحة حاضنة للتنوع، بدلًا من زجّه في صراعات عقائدية عقيمة.