الحرة بيروت ـ بقلم: جريس حنينه، خبير محاسبة – محلّف لدى المحاكم
تُعدّ السلطة القضائية حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي يسعى لتحقيق العدالة وضمان الحقوق. عبر التاريخ، تطورت هذه المؤسسة لتعكس طموحات المجتمعات نحو بناء نظام قانوني عادل وفعال. وفي لبنان، شكّلت السلطة القضائية أحد الأعمدة الرئيسية لضبط العلاقات الاجتماعية والسياسية المتشابكة في بلد يتميز بتعدديته وتعقيداته. ومع ذلك، فإن دور القضاء اللبناني لم يسلم من أزمات متراكمة عرقلت أداءه وأثّرت على استقلاليته.
يشهد القضاء اللبناني اليوم تحديات غير مسبوقة تعكس تدهوراً ملحوظاً في قدرته على تحقيق العدالة الناجزة. ويأتي هذا التدهور كنتيجة مباشرة للتدخلات السياسية، والفساد الإداري، وضعف البنية التحتية للمؤسسات القضائية. في هذا السياق، تسعى هذه الدراسة إلى استعراض التطور التاريخي للسلطة القضائية وتأثيرها في لبنان، وتحليل دورها الحالي في ظل الظروف المتأزمة، مع تسليط الضوء على المعوقات التي تقف حائلاً أمام أدائها. وختاماً، تقدّم الدراسة رؤية شاملة لمقترحات إصلاحية تهدف إلى إعادة بناء ثقة المواطن اللبناني بالقضاء، كخطوة نحو تعزيز دولة القانون والمؤسسات.
بعد أن تناولنا في الجزء الأول من الدراسة (https://hura7.com/?p=40619) السلطة القضائية عبر التاريخ وأثرها في لبنان، نناقش في هذا الجزء دور هذه السلطة ومهامها لبنانياً كما الإصلاحات التي شهدها القضاء اللبناني والتحديات التي تواجهه.
دور السلطة القضائية في لبنان
بعد نيل لبنان استقلاله، ورث نظامه القانوني تنوعاً قانونياً غنياً نتيجة لتاريخ البلاد الطويل والانعكاسات الخارجية المتعددة، حيث لا يزال هناك بعض التأثيرات للقانون العثماني في بعض المجالات القانونية. كذلك ورث إرثاً فرنسياً في نظامه المدني مع بعض التعديلات التي تناسب خصوصية المجتمع اللبناني، كما تم بناء بنية تحتية قضائية أساسية خلال فترة الانتداب الفرنسي، شملت المحاكم والنيابات العامة. هذا وتمّ ترسيخ مبادئ قانونية أساسية مثل مبدأ فصل السلطات ومبدأ استقلالية القضاء.
إستمر لبنان في نهج التمييز الديني والمحافظة على الاعتبارات الطائفية والمذهبية عبر تطبيق نظام المحاكم الروحية للطوائف الدينية في المسائل الشخصية ما أدّى إلى تعددية في التشريعات القضائية والتمييز في التعيينات القضائية.
وقد صنّف الدستور اللبناني السلطة القضائية بمثابة صمام للأمان الذي يحول دون استبداد السلطة أو انتهاك حقوق المواطنين.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، حددت المادة 20 من الدستور اللبناني السلطة القضائية كإحدى مكونات الدولة تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة. أما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعينها القانون. وقد أعطت هذه المادة القضاة الاستقلالية في إجراء وظيفتهم بحيث تصدر القرارات والأحكام عن المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني.
أدوار السلطة القضائية
توزعت أدوار السلطة القضائية على الشكل التالي:
- دور رقابي للسلطة القضائية ممثل بالأجهزة التالية:
- مجلس شورى الدولة: يعتبر مجلس شورى الدولة أعلى هيئة قضائية إدارية في لبنان، وأحد أهم الأجهزة الرقابية التابعة للدولة وله صلاحيات واسعة في مراقبة أعمال الإدارة العامة ومشاريع القوانين والأنظمة. فهو يقوم بمراجعة القرارات الإدارية للتأكد من مطابقتها للقانون، ويحمي حقوق الأفراد في مواجهة الإدارة.
- المجلس الدستوري: يتولى المجلس الدستوري النظر في الطعون المقدمة على دستورية القوانين والانتخابات، وبالتالي يضمن احترام الدستور وصلاحيات السلطات المختلفة.
- ديوان المحاسبة: يتولى ديوان المحاسبة مراقبة الحسابات العامة للدولة والمؤسسات العامة، والتأكد من صحة الإجراءات المالية والإدارية كما يقوم بفحص المشاريع الاستثمارية والتأكد من فعاليتها.
- المحاكم العدلية: تقوم المحاكم العدلية بالنظر في القضايا الجزائية والمدنية والتجارية، وبالتالي تلعب دوراً في مراقبة تطبيق القوانين وحماية حقوق الأفراد.
- التفتيش القضائي: بصفته أحد أهم ركائز النظام القضائي يلعب التفتيش القضائي دوراً محورياً من خلال الرقابة على القضاة والموظفين القضائيين والتحقيق في الشكاوى الواردة وتقييم أداء القضاة واقتراح الإصلاحات وحماية إستقلال القضاء.
- مهام فصل النزاعات وحل الخلافات:
- النزاعات المدنية والتجارية: تنظر المحاكم في القضايا المتعلقة بالحقوق المدنية والتجارية، مثل العقود، والتعويضات، والمسؤولية المدنية.
- النزاعات الجنائية: تتولى المحاكم الجزائية النظر في الجرائم المختلفة وتطبيق العقوبات على مرتكبيها.
- النزاعات العمالية: تحل المحاكم العمالية النزاعات التي تنشأ بين العمال وأصحاب العمل.
- حماية الحقوق والحريات: تضمن المحاكم تطبيق القوانين بشكل عادل ومتساوٍ على الجميع كما تحمي حقوق الإنسان الأساسية، مثل الحق في الحياة، والحرية، والعدالة، والتعبير.
- توفير الأمن والاستقرار: تساهم المحاكم في الحفاظ على النظام العام من خلال الفصل في النزاعات وحل الخلافات بشكل سلمي كما الردع عن الجريمة من خلال تطبيق العقوبات على المجرمين، وردع الآخرين عن ارتكاب الجرائم.
- تطوير المجتمع: تساهم المحاكم في تطوير التشريعات من خلال تفسير القوانين وتكييفها مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية كما تساهم في تعزيز ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها عندما يشعر المواطنون بأن حقوقهم محفوظة وأن هناك جهازاً قضائياً مستقلاً يحميهم.
الإصلاحات القضائية التي شهدها لبنان
شهد لبنان عدة محاولات للإصلاح القضائي، من أبرزها:
- إنشاء مجلس القضاء الأعلى عام 1967
- قانون تنظيم القضاء العدلي عام 1983
- إنشاء المحاكم المتخصصة: المحاكم التجارية عام 1993 والعقارية عام 1994
- قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد عام 2001
- مشروع مكننة المحاكم عام 2002
- إطلاق استراتيجية إصلاح وتطوير القضاء عام 2012
التحديات التي واجهت القضاء اللبناني عبر التاريخ
واجه القضاء اللبناني تحديات كبيرة عبر تاريخه، أبرزها:
- الحرب الأهلية بين عامَي 1975 و1990 التي أدّت إلى تعطيل عمل المحاكم في مناطق عديدة وتدمير سجلاتها.
- الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وتأثيره على عمل المؤسسات القضائية.
- أزمة ما بعد الحرب بين عامَي 1990 و2000 وتحديات إعادة بناء المؤسسات القضائية.
- الأزمة السياسية بين عامَي 2005 و2008 وتأثيرها على استقرار العمل القضائي.
- الأزمة الاقتصادية والمالية المستمرة منذ عام 2019 وتأثيرها على أداء المحاكم وهو ما سوف نسرده في المحور الثالث من هذا المقال.