الثلاثاء, يناير 21, 2025
0.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

جريس حنينه ـ جذور قضائية لبنانية واستشراف للمستقبل: المعوقات التي تعتري أداء القضاء اللبناني (3 من 4)

الحرة بيروت ـ بقلم: جريس حنينه، خبير محاسبة – محلف لدى المحاكم

تُعدّ السلطة القضائية حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي يسعى لتحقيق العدالة وضمان الحقوق. عبر التاريخ، تطورت هذه المؤسسة لتعكس طموحات المجتمعات نحو بناء نظام قانوني عادل وفعال. وفي لبنان، شكّلت السلطة القضائية أحد الأعمدة الرئيسية لضبط العلاقات الاجتماعية والسياسية المتشابكة في بلد يتميز بتعدديته وتعقيداته. ومع ذلك، فإن دور القضاء اللبناني لم يسلم من أزمات متراكمة عرقلت أداءه وأثّرت على استقلاليته.

يشهد القضاء اللبناني اليوم تحديات غير مسبوقة تعكس تدهوراً ملحوظاً في قدرته على تحقيق العدالة الناجزة. ويأتي هذا التدهور كنتيجة مباشرة للتدخلات السياسية، والفساد الإداري، وضعف البنية التحتية للمؤسسات القضائية. في هذا السياق، تسعى هذه الدراسة إلى استعراض التطور التاريخي للسلطة القضائية وتأثيرها في لبنان، وتحليل دورها الحالي في ظل الظروف المتأزمة، مع تسليط الضوء على المعوقات التي تقف حائلاً أمام أدائها. وختاماً، تقدّم الدراسة رؤية شاملة لمقترحات إصلاحية تهدف إلى إعادة بناء ثقة المواطن اللبناني بالقضاء، كخطوة نحو تعزيز دولة القانون والمؤسسات.

بعد أن تناولنا في الجزئين الأول (https://hura7.com/?p=40619) والثاني (https://hura7.com/?p=40793) السلطة القضائية عبر التاريخ، كما دورها ومهامها في لبنان، إضافة إلى الإصلاحات التي شهدها القضاء اللبناني والتحديات التي تواجهه، نتطرّق في هذا الجزء الثالث إلى المعوقات التي تعتري أداء هذا القضاء. ولطالما كان النظام القضائي مرآة تعكس واقع المجتمع إلّا أنه واجه العديد من المشكلات المنهجية في لبنان، ما أدّى إلى إرهاق الجسم القضائي وإضعافه.

فمع بداية الأزمة الاقتصادية عام 2019، تفاقمت الأوضاع بشكل كبير، حيث شكلت الأزمة ضربة قاضية لأي عزيمة أو قدرة على العمل. تأثرت القدرة التشغيلية للقضاء بشكل مباشر، إذ شهد القضاة وموظفو المحاكم والعاملون في القطاع القانوني انخفاضاً كبيراً في قيمة رواتبهم. أما بالنسبة للخبراء القضائيين، فباتت بعض قرارات تحديد بدل الأتعاب بمثابة إهانة لغالبيتهم، ما دفع بالعديد منهم إلى الاختيار بين العمل مجاناً أو رفض مهمات قد لا تغطي مصاريف الخبرة. كما اضطر جزء كبير من العاملين في هذا القطاع إلى ترك وظائفهم، تعديل أسلوب عملهم، أو البحث عن مصادر دخل بديلة.

هذا وازداد خطر غياب النزاهة وإحقاق العدالة بسبب انحصار القرار بيد رئاسة المجالس في ظل استمرار شغور مناصب عدة لأعضاء هيئة المجالس مع غياب التشكيلات القضائية المعطاة صلاحياتها لرئاسة الجمهورية، لا سيما مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة وغيرها. أضف إلى ذلك سبب تأخير الفصل وتراكم وعرقلة الملفات، في ظل غياب التشكيلات القضائية اللازمة.

فنجد على سبيل المثال في قلم إحدى المحاكم محاكمات مفتوحة منذ عشرات السنوات دون البت بها، والأخطر أنه يتم تعيين موعد جلسة تالية بحلول العام 2026، أي بعد 24 شهراً من تاريخه، أو تبقى المتابعة بالملفات مرهونة بتشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز للبت بدعاوى المخاصمة المقدّمة.

علاوة على ذلك، تدهورت البنية التحتية والمادية لقصور العدل بسبب شح الموارد، وبتنا نرى، ولأول مرة منذ استقلال لبنان، إنعقاد جلسات هيئة المحاكم على ضوء الشموع وإنارة بطاريات الهواتف وغياب الصيانة واللوازم الأساسية اليومية للمحاكم، ما زاد من الخطر الجرمي وقلل من كرامة وسلطة المؤسسات القضائية. كل ذلك والمواطن يرزح تحت عبء أزمات ارتفاع معدلات الفقر وارتفاع تكاليف التقاضي ما حرمه فعلياً من حقه في اللجوء إلى القانون. فبات يساهم بنفسه في تهديم المجتمع على حساب مصلحته الشخصية نتيجة غياب الدولة، وبات يتقصد تلويث قصور العدل.

التدخل السياسي وأصحاب النفوذ وغياب الاستقلالية

من أبرز التحديات التي تواجه القضاء اللبناني التدخل المستمر في التعيينات القضائية وصنع القرار من قِبَل السياسيين وأصحاب النفوذ. وقد زادت الأزمة الاقتصادية من تعميق هذه المشكلة، حيث يسعى البعض إلى تعزيز سيطرته على المؤسسة القضائية وخلق حالة من عدم الاستقرار. ولا يخفى على أحد أنه غالباً ما يتعرض القضاة لضغوط للتوافق مع مصالح المؤثرين، ما يقوّض قدرتهم على إصدار قرارات محايدة.

تأثير الفساد وفشل المحاسبة

لا يزال الفساد داخل القضاء عقبة كبيرة أمام الإصلاح. وقد زادت الأزمات وتيرة تعرّض القضاة وموظفي المحاكم بعضهم لبعض وأدّى الجو العام إلى كسر إرادة كل شريف وتآكل الثقة العامة في القضاء وتقويض نزاهته.

لفشل معالجة الفساد المنهجي تداعيات أوسع على الحوكمة وسيادة القانون في لبنان، فبات يُنظر إلى القضاء على أنه فاسد أو غير فعال نتيجة استمرار اعتماد الآلية الورقية لضبط الملفات أو بسبب ظروف محدودية الإمكانيات، أو عبر تفسيرات مجتزأة أو خاطئة للنصوص، والأهم غياب التقييم الدوري والتدريب لكل فرد إضافة لانعدام وجود محاكم متخصصة رغم إنشائها قانوناً، مثل المحكمة الخاصة بالأسواق المالية المحددة مهامها في الباب الثالث من قانون الأسواق المالية رقم 161 الصادر بتاريخ 17/8/2011 وغياب إصدار التشريعات والمراسيم التطبيقية المواكبة للتطور واستقلالية التعيينات القضائية، ما أضعف قدرة الدولة على تطبيق القوانين، وحماية الحقوق، وجذب الاستثمارات الدولية وزاد من تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية.

التدقيق الدولي والدعوات للإصلاح

واجه القضاء اللبناني تدقيقاً متزايداً من المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية التي سلّطت الدعوات لإجراء تحقيقات مستقلة شاملة محايدة وشفافة وفق النصوص المرعية الإجراء. وقد أدت هذه الإخفاقات إلى توتر علاقات لبنان مع المانحين الدوليين وأعاق جهود البلاد للحصول على المساعدة المالية.

نادي قضاة لبنان يرفع الصوت

علت صرخة نادي قضاة لبنان الممثل برئيسته القاضي نجاة أبو شقرا معتبرة أن التعاميم الصادرة عن رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل خلال الحرب الأخيرة هي إجرائات ترقيعية لا تعالج جذور المشكلة. وأضافت أنه من غير المقبول أن يستمر الاعتماد على حلول مؤقتة من دون العمل على خطط شاملة ومستدامة تحمي المؤسسة القضائية من تداعيات الأزمات.

يطالب القضاة بتعيينات عاجلة لسد الشغور في مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة معبّرين عن قلقهم من ترك رئيس المجلس منفرداً في إتخاذ القرارات.

نشأ نادي قضاة لبنان بتاريخ 29/1/2019 من رحم القضاء كجمعية لا تتوخى الربح تحت علم وخبر رقم 138، وكان من الأجرأ في مواكبة مواقف وإجرائات ذات نهج تغييري منها طلبات الحراك المدني بتجميد الحسابات المصرفية للأشخاص المكشوفين سياسياً (PEP) عبر هيئة التحقيق الخاصة والمطالبة ببدء تحقيقات جدية فيها، وهو لا يزال يتعرض منذ نشأته لمواقف سلبية صادرة عن المنظومة.

ندعم مواقف نادي قضاة لبنان التي هي بمثابة شعلة صمود جيش العدالة في وجه الحروب، متمنين ثورة القلم الحر عبر اعتماد آلية أكثر قساوة تشمل رفع هيبة القضاء خصوصاً أثناء تفيذ أحكام المادة 127 من قانون أصول المحاكمات المدنية عبر استعمال السقف الأعلى للغرامات والحكم للقاضي أو الخبير بتعويض يليق بسمعته عند ثبوت عدم الأحقية في طلبات الرد المقدمة، خصوصاً بعد تزايد اعتماد مبدأ المخاصمة لوقف السير بالملفات وذلك في ظل غياب أي بيانات إحصائية تبيّن حجم ذلك.

الخيانة الوطنية

يُعتبر خائناً للوطن كل قاضٍ استلم منصباً ولم يقم بجميع الإجرائات التي تراعي التطورات العامة لحفظ حقوق جميع المتداعين، وحفظ الحق العام وأرشيف المحاكم، أو التوسع في التحقيق، أو اتخاذ التدابير الإحترازية اللازمة، أو تقسيم الملفات الحساسة إلى عدة أجزاء عند المقتضى.

يُعتبر خائناً للوطن كل قاضٍ اتّبع مصلحته الخاصة، سياسية كانت أم مالية أم شهرة مؤقتة أو غيرها، على حساب الملف المعروض أمامه.

يُعتبر خائناً للوطن كل ممثل لأي سلطة لم يعمل بجهد مثبت لإجراء انتخابات أو تشكيلات أو تعديلات للقوانين تواكب الصلاحية الدستورية الممنوحة للسلطة القضائية، كما وتضمن استمرار العمل القضائي مسبباً بذلك فراغاً من شأنه أن يكبح سير العدالة.

فاقمت الأزمة الاقتصادية في لبنان التحديات الطويلة الأمد التي تواجه النظام القضائي في البلاد، ما شكل تهديدات كبيرة لسيادة القانون والوصول إلى العدالة. على الرغم من هول هذه التحديات، إلا أنها ليست مستعصية على الحل، وهو ما سوف نسرده في المحور الرابع والأخير من هذا المقال.

https://hura7.com/?p=40923

 

 

 

 

 

الأكثر قراءة