الحرة بيروت ـ بقلم: جريس حنينه، خبير محاسبة – محلف لدى المحاكم
“إذا كان القضاء بخير فإن فرنسا ستنهض”. إن إيمان ديغول بالقضاء المستقل والنزيه هو الذي شجع، بعد الحرب العالمية الثانية، على الاستثمار ودعم النمو الاقتصادي الذي وفّر بيئة قانونية مستقرة للمؤسسات.
بعد أن تناولنا في الجزء الأول السلطة القضائية اللبنانية عبر التاريخ (https://hura7.com/?p=40619)، وفي الجزء الثاني دور السلطة القضائية في لبنان إضافة إلى الإصلاحات التي شهدها القضاء اللبناني والتحديات التي تواجهه (https://hura7.com/?p=40793)، وفي الجزء الثالث المعوقات التي تعتري أداء هذا القضاء (https://hura7.com/?p=40923) ما يمكننا من أخذ العبر من تاريخ الإرث القضائي اللبناني العريق ودراسة واقعه المرهق عبر مرآة المجتمع الحاضر، نناقش في هذا الجزء الرابع والأخير آليات الإصلاح التي هي، برأينا، غير مستعصية، وذلك عبر وضع نهج للنهوض الشامل ومتعدد الجوانب.
هناك حاجة لإصلاحات قانونية تواكب التطورات التكنولوجية، الصناعية والنظم المالية الحديثة بالإضافة إلى تحديد المعوقات والصعوبات التي واجهها الجسم القضائي، أهمها إصدار قوانين فعالة تعزل القضاء عن تدخلات السياسيين وأصحاب النفوذ بما يتوافق والصلاحيات الدستورية المعطاة. هذا التطور من شأنه تحديث النظم القانونية عبر معالجة جميع الثغرات.
هنالك حاجة أيضاً إلى مكننة آلية ضبط الملفات القضائية وإدخال الذكاء الإصطناعي لإصدار مقترحات خلاصات أحكام تتوافق والمناهج المعتمدة لكل قاضٍ في كل محكمة. هذا الأمر من شأنه تحقيق الإدارة الرشيدة للملفات من قِبَل القضاة كما وتحسين التخطيط من قِبَل الإدارة بشكل عام وتسهيل تواصل المتداعين والمحاكم والدولة في ما بينهم، ما يساهم في تسريع البت بالملفات وضمان الكفاءة التشغيلية خصوصاً بما يتعلق بالجريمة المنظمة، وبالتالي تحسين النقدية في وزارة العدل.
كذلك، فالحاجة ماسة إلى تفعيل دور هيئات الرقابة المستقلة والتحقيق في إنتاجية جميع أفراد الجسم القضائي وتفعيل دور معهد الدروس القضائية في وزارة العدل عبر إجراء تدريبات متخصصة بكل محكمة للقضاة وللمساعدين القضائيين ولخبراء الإختصاص بشكل دوري وقبل أي تشكيلات، خصوصاً لحالات تتضمن العولمة وتطور التكنولوجيا، وهو ما يسهّل معالجة مزاعم الأخطاء وسوء السلوك.
أضف إلى ذلك ضرورة تحريك قضاة النيابات العامة دعاوى الحق العام اللبناني وتعيين خبراء لبنانيين ومن أصحاب الإختصاص والنزاهة لإجراء تدقيق جنائي شامل لجميع عمليات مصرف لبنان وأي جهة أخرى مناطة إليها أحد صلاحياته، سواء كانت عمليات داخلية أو مع أي جهة أخرى، خصوصاً في ظروف عدم المصادقة على حسابات الموازنة اللبنانية حسب الأصول منذ سنوات.
ثم هناك الشبهات الواردة في تقرير التدقيق الجنائي الأولي الصادر بتاريخ 7 آب 2023، والشبهات التي تعتري تطبيق أحكام المادة 91 من قانون النقد والتسليف، والمتعلقة بالمقترحات المقدمة من مصرف لبنان إلى الحكومة حول التدابير التي من شأنها الحدّ من القروض التي قد تتسبب بعواقب اقتصادية سيئة، وخاصة الحد من تأثيرها، في الوضع الذي أعطيت فيه، على قوة النقد الشرائية الداخلية والخارجية، وذلك بعد أن استقرضت الحكومة من المصرف المركزي.
إن نتائج هذا التدقيق الشامل سوف تحدد مدى ضرورة إلقاء الحجوزات وتعيين حراس قضائيين على حسابات أي جهة، ومشاركة السلطة القضائية الدستورية بوضع أسس نقدية ومالية تعالج الأزمات. هذا التطور يؤدي أيضاً إلى كبح تداعيات الأزمة والحد من الشكوك في ظل غياب الشفافية والتواصل.
الدعوى مفتوحة لاستنباط العبر من توقّف المصارف عن الدفع عبر التاريخ
بتاريخ 9/5/1967 تم إنشاء المؤسسة الوطنية لضمان الودائع بموجب القانون رقم 67 الذي أعطى، وبسبب توقفه عن الدفع، دائني الفرع امتيازاً على موجوداته يهدف إلى حماية حقوق المودعين والحفاظ على الاستقرار المالي.
- بنك إنترا
بتاريخ 14/10/1966، أي بعد ثلاث سنوات على إصدار قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي اللبناني، توقف بنك إنترا عن الدفع نتيجة هجوم شرس للمودعين لسحب أموالهم. فبعد تشكيل لجنة تحقيق لتقييم الخسائر تم إقرار تشريعات جديدة وقدمت الحكومة الدعم المالي للمصارف المتضررة التي عملت على تعزيز استقرار النظام المصرفي.
كانت ممتلكات بنك إنترا تشكل أكبر الإمبراطوريات المالية في المنطقة حيث تضمنت تنوعاً مهماً في الإستثمارات شملت، على سبيل المثال لا الحصر، عقارات فاخرة في العديد من العواصم العالمية، بالإضافة إلى حصة كبيرة في شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، كما وحصة كبيرة في كازينو لبنان، واستثمارات في فنادق عديدة فاخرة، بالإضافة إلى امتلاك حوض بناء سفن كبير في فرنسا وغيرها. وبعد تأميم المصرف تم توزيع ممتلكاته بطرق مختلفة، حيث انتقلت بعضها إلى الدولة اللبنانية وهي لا تزال تشغلها حتى اليوم، وبعضها الآخر تم بيعه أو تصفيته.
- بنك بيروت والشرق الأوسط (BBME)
خلال سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً خلال الحرب الأهلية اللبنانية، انخفضت السيولة لدى بنك بيروت والشرق الأوسط بشكل حاد بسبب زيادة عمليات السحب من الودائع. وتفاقمت الأزمة بسبب الأوضاع الأمنية وتراجع ثقة العملاء في النظام المصرفي.
عندها قامت الحكومة اللبنانية والبنك المركزي بمحاولات لإنقاذ البنك عبر تقديم دعم مالي من خلال قروض وضمانات. لكن، وعلى الرغم من هذه الجهود، ظل البنك يعاني من صعوبات مالية هيكلية.
وفي التسعينيات تمت إعادة هيكلة المصرف ما أدّى إلى استعادة نشاطه المصرفي بشكل تدريجي. وفي العام 2002 اندمج مع “بنك لبنان والمهجر”، ما ساهم في تعزيز استقراره المالي.
- بنك التمويل (Banque de Crédit Populaire)
مع بداية تسعينيات القرن الماضي، تعرض بنك التمويل لمشاكل مالية عميقة نتيجة منحه، وبشكل مفرط، قروضاً للمشاريع الصغيرة والمتوسطة دون اتخاذ التدابير المناسبة لإدارة المخاطر. وفي أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، بدأ البنك يعاني من مشكلات مالية نتيجة التوسع السريع وسوء الإدارة المالية. وإذ تدهورت جودة محفظة القروض، تعرض البنك للعديد من القروض المتعثرة، بالإضافة إلى ضعف الرقابة على العمليات المالية، ما أدّى إلى نقص حاد في السيولة وتراجع ثقة العملاء والمودعين به.
وبحلول أوائل التسعينيات، لم يتمكن البنك من تلبية التزاماته تجاه المودعين والدائنين، ما نتج عنه توقفه عن الدفع حيث تدخلت وقتها المؤسسة الوطنية لضمان الودائع لتصفيته وحماية أموال المودعين ومنع انهيار أكبر في النظام المالي. وهكذا تمت تصفية بنك التمويل رسمياً في العام 1993.
- بنك الشرق الأوسط والخليج (MEGB)
خلال تسعينيات القرض الماضي تعرض بنك الشرق الأوسط والخليج لمشكلات مالية كبرى بسبب سوء الإدارة المالية وسوء توجيه الاستثمارات. وتأثرت أعمال البنك بتقلبات السوق اللبناني في تلك الفترة التي شهدت حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
بدأت الأزمة مع تزايد الديون المتعثرة وتراجع جودة الأصول، ما أدى إلى انخفاض الثقة في البنك من قِبَل المودعين والمستثمرين. ومع تفاقم الوضع، تعرض البنك إلى أزمة سيولة حادة، حيث لم يتمكن من تلبية طلبات السحب المتزايدة من قبل المودعين، ما أدى إلى إعلان توقفه عن الدفع. وهكذا، قامت المؤسسة الوطنية لضمان الودائع بتصفية الأعمال. وقد أثرت هذه الأزمة بشكل كبير على النظام المصرفي اللبناني وأدت إلى تعزيز الرقابة على المصارف لضمان عدم تكرار مثل هذه الأزمات في المستقبل.
ندعو أصحاب الإختصاص لأخذ العبر من هذه التجارب وإحقاق الحق، خصوصاً في ظروف إبطال الهيئة الإتهامية في جبل لبنان، بتاريخ 26/12/2024، الادعاء بجرم تزوير حسابات مصرف لبنان بسبب مخاصمة حاكمه السابق الدولة بتاريخ سابق للإدعاء.
أمام السلطات مجتمعة اليوم إمتحان صعب يكمن في إلقاء الحجز لصالح الخزينة اللبنانية على أية أصول مرتبطة بعمليات تبييض للأموال، لا سيما أموال المصرف المركزي السوري التي لا يزال الغموض يحيط بقيمها، خصوصاً في ظل ما نشهده من تفلت للحدود. وهو أمر مشابه لأكبر عملية سرقة في التاريخ وهي سرقة أموال المصرف المركزي العراقي عام 2003 المقدرة بمليار دولار أميركي.
كما ويجب تعيين حراس قضائيين على الممتلكات المرتبطة بقروض متعثرة أو بودائع محتجزة بمفهوم المادة 122 من قانون النقد والتسليف، سواء كانت في لبنان أم في الخارج. هذا الإجراء من شأنه أن يؤثر أيجاباً عبر زيادة النقدية في حسابات الدولة لدى مصرف لبنان، وبالتالي تعافي أسعار الصرف بعد تدهور بلغ 5,837% منذ العام 2019 حين كان سعر الصرف 1507,5 ل.ل./د.أ. ليصبح 89500 ل.ل./د.أ. وقد وصل هذا التدهور إلى نسبة 2,905,744 % منذ العام 1964، أي تاريخ استلام المصرف المركزي مهامه حين كان سعر الصرف 3,08 ل.ل./د.أ. وبالتالي، فحل الأزمة المصرفية عبر تأميم جميع المؤسسات المالية المتعثرة والمحجوزة لتصبح جزءاً من أعمال المصرف المركزي اللبناني.
في خضم التغييرات الجذرية للسياسات العالمية بشكل عام والشرق أوسطية بشكل خاص، تلوح أمام القضاة الشرفاء فرصة حقيقية يجب العمل عليها عبر اقتلاع أوصال الفساد ونفض غبار التبعية. ويكون ذلك من خلال ثورة قضائية شاملة تجهّز لتسليم جيل يتغنى بأمجاد الليرة اللبنانية والاقتصاد التنافسي، كما من خلال سعي رجالات الاستقلال والسياسيين والقانونيين الذين نترحّم على فقداننا أقلامهم التشريعية كلما تعمقنا في أي قانون صادر منذ تلك العهود.
ختاماً، وانطلاقاً من إيماننا بعدالة السماء وبأن الله سوف يحاسبنا جميعاً على أفعالنا، فإننا مدعوون، كل منا بحسب موقعه، للسعي لتحقيق عدالة الأرض من خلال أعمالنا وأقوالنا. وعليه، نرى أن الظرف والوقت مؤاتيان لتجديد الدعوة من خلال هذا المنبر الحر لتنفيذ خطة وطنية شاملة، لبنانية الصنع، كما وفرض نهج المضي بالمصلحة الوطنية العامة على حساب ما كان يسود من مصالح خاصة، وتحسين الحركة الاقتصادية وزيادة الناتج المحلي وتقوية القيمة الشرائية لليرة اللبنانية.