الحرة بيروت ـ بقلم:جريس حنينه، خبير محاسبة – محلّف لدى المحاكم
تُعدّ السلطة القضائية حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي يسعى لتحقيق العدالة وضمان الحقوق. عبر التاريخ، تطورت هذه المؤسسة لتعكس طموحات المجتمعات نحو بناء نظام قانوني عادل وفعال. وفي لبنان، شكّلت السلطة القضائية أحد الأعمدة الرئيسية لضبط العلاقات الاجتماعية والسياسية المتشابكة في بلد يتميز بتعدديته وتعقيداته. ومع ذلك، فإن دور القضاء اللبناني لم يسلم من أزمات متراكمة عرقلت أداءه وأثّرت على استقلاليته.
يشهد القضاء اللبناني اليوم تحديات غير مسبوقة تعكس تدهوراً ملحوظاً في قدرته على تحقيق العدالة الناجزة. ويأتي هذا التدهور كنتيجة مباشرة للتدخلات السياسية، والفساد الإداري، وضعف البنية التحتية للمؤسسات القضائية. في هذا السياق، تسعى هذه الدراسة إلى استعراض التطور التاريخي للسلطة القضائية وتأثيرها في لبنان، وتحليل دورها الحالي في ظل الظروف المتأزمة، مع تسليط الضوء على المعوقات التي تقف حائلاً أمام أدائها. وختاماً، تقدّم رؤية شاملة لمقترحات إصلاحية تهدف إلى إعادة بناء ثقة المواطن اللبناني بالقضاء، كخطوة نحو تعزيز دولة القانون والمؤسسات.
تتضمن هذه الدراسة المنشورة عبر أربعة أجزاء معلومات علنية واردة إما في المراجع أو يتم تداولها داخل أقلام وأروقة وقاعات المحاكم اللبنانية بشكل عام، ولا تتطرق لأي ملف محدّد بأي شكل من الأشكال. أما الهدف منها فهو خلق صدمة إيجابية تعيد إحياء قلب الوطن عبر المساهمة في التوعية الاجتماعية دون التطرق لأي من الممنوعات التي قد تعتبر إما إفشاءً لسرية التحقيق وإما تشهيراً بالجسم القضائي.
تاريخ النظام القضائي
منذ فجر التاريخ، بحث الإنسان عن آليات لحلّ النزاعات وتحقيق العدالة بعدما سادت الفوضى والظلم وشريعة القوي على الضعيف. اجتمعت العشائر في الحضارات القديمة لحلّ الخلافات بطرق منصفة، حيث ظهر مفهوم الشفرات القانونية التي حاولت تنظيم العلاقات بين الأفراد. ومع تطور المجتمعات وتعدد مصالحها، ازدادت الحاجة إلى نظام قضائي يواكب التغيرات.
البدايات القديمة: أول القوانين المدوّنة
في حضارة بلاد ما بين النهرين القديمة، برز قانون حمورابي (حوالي 1754 ق.م) كأحد أقدم القوانين المدوّنة. فقد دوّن الملك حمورابي نحو 300 قانون على لوح حجري، مؤكداً على مبدأ العدالة الجزائية: “العين بالعين”. هدف هذا القانون إلى تقديم حلول متوقعة للنزاعات ووضع أسس القوانين المكتوبة.
أما في مصر القديمة، فكانت فكرة “ماعت” تجسد النظام والحق والعدالة، حيث كان يُنظر إلى الفراعنة كقضاة إلهيين.
إنتقالاً إلى الصين القديمة التي طوّرت الأنظمة مستندة إلى الفلسفة الكونفوشيوسية، مع التركيز على الانسجام الأخلاقي بدلاً من العقوبات الصارمة.
الفترة الكلاسيكية (1000 ق.م – 476 م)
قدّمت الحضارة اليونانية فكرة الديمقراطية القضائية، حيث شارك المواطنون في المحاكم كأعضاء هيئة محلّفين، ما جسّد مبدأ المساواة أمام القانون. وقد أسهم الفلاسفة مثل أرسطو في تعزيز مفهوم العدالة كفضيلة أساسية لتحقيق التوازن المجتمعي.
أما الرومان، فقد طوّروا الفكر القانوني بشكل غير مسبوق، مع وضع جداول القانون الاثني عشر (451-450 ق.م) الذي ضمن الشفافية والاتساق. وكانت مبادئ القانون الطبيعي التي دعا إليها شيشرون حجر الأساس لفكرة العدالة العالمية.
العدالة في العصور الوسطى (476-1500 م): التأثير الديني والقانون العام
خلال العصور الوسطى، تأثر النظام القضائي بالعقائد الدينية في المجتمعات الإسلامية، فبرز القانون الشرعي المستمدّ من القرآن الكريم والحديث النبوي. أما في أوروبا، فقد حكمت الكنيسة الكاثوليكية العديد من جوانب الحياة من خلال القانون الكنسي. وفي إنجلترا، ظهر مفهوم القانون العام، الذي أسس لمبدأ السوابق القضائية.
عصر التنوير (1650-1800 م)
شهد عصر التنوير تطوراً ملحوظاً في الفكر القانوني حيث أثّرت أفكار جون لوك ومونتسكيو على الأنظمة القضائية الحديثة، مدافعة عن حقوق الأفراد واستقلال القضاء. وكان قانون نابليون 1804 مثالاً بارزاً على الوضوح والمساواة في القانون، ما أثّر على الأنظمة القانونية حول العالم.
الأهمية التاريخية للنظام القضائي اللبناني
لعب لبنان دوراً محورياً في تطور الأنظمة القضائية بفضل موقعه الجغرافي والثقافي المميز. فمنذ العصر الفينيقي وحتى العصر الحديث، كان لبنان مركزاً للتقاليد القانونية المبتكرة.
- الإرث الفينيقي (1500-300 ق.م): تأسيس قانون التجارة
اشتهر الفينيقيون بتطوير قوانين التجارة والعقود لضمان تنفيذ الاتفاقيات، وقد أثرت هذه القوانين على تطور القوانين التجارية في العالم القديم.
- القانون الروماني (64 ق.م – 395 م)
عُرفت بيروت في العهد الروماني بلقب “أم الشرائع (Berytus Nutrix Legum)، إذ احتضنت إحدى أهم مدارس القانون في الإمبراطورية الرومانية. وانعكست مبادئ القانون الروماني، مثل العدالة والمساواة، على النظام القضائي اللبناني الحديث.
- التزاوج بين القانون البيزنطي والإسلامي
بعد الحقبة الرومانية، أثرت القوانين البيزنطية والإسلامية على التقاليد القضائية اللبنانية، ما خلق نظاماً قانونياً تعددياً استوعب التنوع الثقافي والديني.
- نظام الملل العثماني (1516 – 1918م)
تميز النظام القضائي خلال العهد العثماني بالتعددية القانونية حيث أتاح نظام الملل لكل طائفة إدارة شؤونها وفق قوانينها الخاصة، مع الالتزام بالإطار القانوني العثماني في القضايا الجنائية والإدارية.
- فترة الانتداب الفرنسي (1943 – 1920م)
خلال الانتداب الفرنسي، تحولت بيروت إلى مختبر قانوني لدمج القانون الفرنسي الحديث مع القوانين العثمانية والأعراف المحلية. وأُنشئت أول كلية حقوق حديثة في المشرق العربي، ما أسهم في تطوير النظام القضائي اللبناني.
لبنان الحديث: منارة التنوع القانوني
في القرن العشرين، أصبح النظام القضائي اللبناني نموذجاً هجيناً يجمع بين القانون المدني الفرنسي، القانون الإسلامي، والتقاليد العرفية. هذا ويعكس الدستور اللبناني (1926) مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما يُبرز دور لبنان كجسر بين الأنظمة القانونية وهو ما سوف نسرده في المحور الثاني من هذه الدراسة.