الحرة بيروت ـ بقلم: جمال مرعشلي
لا يزال الشدّ والجذب في ملف غزة يبلغان يوميًّا مديات أبعد ويكتسبان أبعادًا جديدة، بعد أن لامس التوتر الناتج عنهما حتى العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، إثر اللقاء الذي جمع المبعوث الأميركي إلى غزة آدم بولر مع أعضاء من “حماس” دون علم الطرف الإسرائيلي في محاولة لحل الصراع الدائرة رحاه منذ سنتين على أرض غزة والضفة الغربية، وبخاصة بعد تفوّهه بعبارات اعتبرتها إسرائيل وبعض أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ مسيئة.
فقد صرّح لإحدى قنوات التلفزة بأن بلاده ليست عميلاً عند تل أبيب، وبأنها تتحرك وفق مصالحها ومصالح مواطنيها، كما وصف أعضاء حماس بـ”اللطيفين”، فضغطوا على البيت الأبيض وفق موقع “أكسيوس” الإخباري لعدم تعيين بولر لمنصب المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الأسرى. وهو ما دفعه إلى تقديم طلب إقالته من المهمة الموكلة إليه، الذي يبدو أنه رُفض من الإدارة الأميركية، بعد تصريح السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارولين ليفيت بأن بولر باق في مهمة الإشراف على ملف الأسرى الأميركيين، مضيفة أنه لعب دورًا حاسمًا في عودة مارك فوغل من روسيا وسيواصل العمل لإطلاق كافة الأسرى حول العالم.
كما نقلت “واشنطن بوست” عن مسؤول بالبيت الأبيض أن بولر لا يزال يتمتع بثقة مطلقة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يسعى، منذ بداية سنوات ولايته الثانية الأربع بكل قوة وعزم، لوضع حد لحروب الأقاليم والبلدان التي تعتبرها واشنطن حساسة لمصالحها لأجل التفرغ لهدف أساسي وجوهري هو الملف الصيني. ومن ضمن هذه الحروب حرب غزة، التي يضاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فيها الرغبة الأميركية ويسعى بالسبل كافة إلى إبقاء جذوتها مستعرة، هربًا من إنهاء حياته السياسية في حال توقفها. إلا أن ما يظهر أن لا مهرب له، فهو سيلقى هذا المصيرَ المحتوم إن بإنهاء الحرب عاجلًا باختياره، أو عاجلًا بفرض إيقافها عليه، بعد أن تكالبت عليه الأعداء خارجيًّا وداخليًّا، وبخاصة مع ما نقلته القناة 12 الإسرائيلية عن معارضة النيابة العامة الإسرائيلية طلبه إلغاء جلستَي محاكمته الأسبوع المقبل.
هذا وتستمر الريح بالجريان بما لا تشتهي سفن حكومته المتطرفة، مع قطع إسرائيل علاقاتها الدبلوماسية مع إيرلندا التي انضمت إلى الدعوى القضائية المرفوعة من جنوب أفريقيا وتتهم إسرائيل بارتكابها جرائم إبادة جماعية، وتعالي أصوات في إيرلندا مطالِبة بطرد السفير الإسرائيلي. إضافة إلى عودة التظاهرات الحاشدة الداعمة لفلسطين في لندن، بعد قمع نظيرتها في بلاد العم سام الذي يراه المراقبون مؤقتًا. كما تصاعُد حملة عائلات الأسرى الإسرائيليين بعد أن دلّ توجه نتنياهو نحو استئناف الحرب على عدم اكتراثه بأرواح أبنائهم، لقناعتهم بأن الحرب ستقتلهم، ولإجباره على السير باقتراح وافقت عليه حماس بإعادة الإسرائيليين الـ59 دفعة واحدة، وبأن إطلاق المزدوجي الجنسية فقط – كما صرح والد جندي أسير- لن يُبقيَ أي وسائل ضغط في أيدي الأهالي للإفراج عن بقية المختطفين.
والأهم من ذلك وأخطره انفلات توتر متصاعد بين رئيس وزراء في الدولة العبرية ورئيس جهاز الشاباك من الضبط والسرية ووصوله إلى التراشق الإعلامي العلني أولًا، ثم الإقالة بتبليغ شفهي ومن دون لجنة تحقيق ثانيًا، ما يُعتبر ظاهرة فريدة وأولى من نوعها في التاريخ السياسي لدولة الاحتلال منذ إنشائها في عام 1948. وهو توتر كان بدأ منذ تحميل رئيس الشاباك رونين بار في تقريره حول أحداث السابع من أكتوبر حكومةَ نتنياهو مسؤولية ما حدث واتهامها بتجاهل متعمد وطويل الأمد لتحذيرات جهاز الشاباك (بخلاف تقرير ثان للجيش حمّل الأجهزة الأمنية هذه المسؤولية) وبإشاعة أخبار عن احتواء حماس وعدم تشكيلها خطرًا حقيقيًّا على إسرائيل. وهي الإقالة الثالثة ولكنْ الصاخبة هذه المرة في سلسلة بدأت بيؤاف غالانت ثم بهرتسي هاليفي، باستثناء الاستقالات الطوعية التي حدثت، ما فجّر صراعًا داخليًّا جديدًا في إسرائيل قد يسبب زلزالاً في أساس علاقة الحكومات بالأجهزة الأمنية مستقبلًا.
وبين مدافع عن بار ومناوئ له، سارع الوزيران المتطرفان المستقيل إيتامار بن غفير والعامل بتسلئيل سموتريتش إلى مباركة خطوة نتنياهو، فيما أبلغت المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية غالي بهراب ميارا (التي لم تكن سلِمَت أيضًا من “القصف” النتنياهوي، بعد تسلمها رسالة في أول آذار الجاري من وزير العدل ياريف ليفين بالسعي إلى حجب الثقة عنها “لعرقلة عمل الحكومة وازدواجية المعايير في تنفيذ القوانين”) رئيسَ الوزراء بأن طريقته في إقالة بار “تعسفية”، وبأنها لن تكون سارية من دون مراجعتها القانونية المسبقة. وطالبت نتنياهو بإطلاعها على حيثيات طلبه، الذي وصفته بـ”سابقة خطيرة وتنطوي على مخاطر قانونية”، مشددة على أن “رئيس الشاباك ليس موظفًا يخضع للثقة الشخصية لرئيس الوزراء”، حسبما ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”.
أما بار، فقد رفض قرارَ نتنياهو، وأوضح أنه ليس بسبب أحداث 7 أكتوبر، بل “بسبب انعدام ثقة مستمر ازداد بمرور الوقت” أولًا، كما صرح نتنياهو نفسه للإعلام، ولعدم استطاعته ضمان ولاء بار الشخصي له ثانيًا، فيما أكد نائب القاضية ميارا، غيل ليمون، لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، أن الإقالة لن تمرّ إلا بمراجعة قانونية حكومية ومصادقة الحكومة كاملة ودعمها بأسباب موضوعية واضحة تستند إلى حقائق راسخة، وخالية من أي دوافع سياسية أو شخصية، وهو ما لم يحدث بعد. وقوبل قرار نتنياهو كذلك باستنكار شديد من شخصيات معارضة، وعلى رأسهم زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد ورئيس حزب “معسكر الدولة” بيني غانتس، اللذين دعيا نتنياهو إلى الاعتذار، وأكدا أن الأخير “يحاول إلقاء اللوم على الآخرين”.
وقد تسببت الحملة الشعواء على نتنياهو بهروبه إلى الأمام، بعدم وفاء حكومته بما تعهدت به من الشروع في تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق الحمساوي-الإسرائيلي برعاية أميركية مصرية قطرية بمجرد انتهاء أجل المرحلة الأولى (في 1 آذار/ مارس الجاري) ووقفها البروتوكول الإنساني وفرضها حصارًا مذذاك الحين على دخول أي مساعدات إلى غزة، ناهيك بتعطيشها الغزيين، بعد تهديدها – وفق بيان بلدية غزة – بوقف خط مياه مكروت الذي يغذي المدينة بنحو 70% من احتياجاتها اليومية، ورفضها الذهاب نحو المرحلة الثانية وتنفيذ ما توصل إليه الوسيط الأميركي ستيف ويتكوف مع حماس من الإفراج عن جندي إسرائيلي-أميركي هو عيدان ألكسندر و4 جثامين لمزدوجي الجنسية مقابل رفع الحصار، واستمرار نتنياهو في شروطه التعجيزية، مثل إفراج حماس الفوري عن خمسة أسرى أحياء بينهم ألكسندر، وعشر جثث مقابل الإفراج عن “أسرى” فلسطينيين لم يذكر عددهم، ووقف العمليات العسكرية بين 42 و50 يومًا، على أن تخضع المنظمات الإنسانية في عملها بعد هذا، وفق الواشنطن بوست، لشروط جديدة قال مراقبون إنها تهدف لتقليص عملها.
وتشمل هذه الشروط طلب تأشيرات للعاملين فيها، وتسجيلهم في الأراضي الفلسطينية، وألا تكون سبقت لهم مهاجمة إسرائيل أو أي دعوات لمقاطعتها، وهو ما دفع هذه المنظمات إلى القول، ودائمًا وفق واشنطن بوست، إن القيود الجديدة قد تجبرها على التوقف عن العمل، وهو ما سيشكل كارثة حقيقة على الشعب الفلسطيني. وبذلك يكون لسان حال نتنياهو في هذا كمن يقول: أعطونا الأسرى لنقتلكم، كما نفعل اليوم بأهليكم المساكين، الذين نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن مصادر أن قرارًا بشن عمليات عسكرية “محدودة” في غزة للضغط على “حماس” قد اتُّخذ، وهي “محدودية” أدت إلى مجزرة طاولت تسعة أبرياء في شمال القطاع، وقصف مسيرة إسرائيلية بيت لاهيا وقتلها ثلاثة بينهم صحافي، إضافة إلى شهداء بلا حساب يسقطون في الضفة الغربية التي قسّمها المحتل أجزاء بحواجز كثيرة، وهم شهداء يضافون في الفاتورة الثقيلة لشعب أبى برغم ظلمه الفادح إلّا الاستمرار على أرضه، حيث افتتح عبر “الأونروا” 130 مقراً تعليميًّا في غزة ما أتاح التعلم المباشر لنحو 47 ألف طفل.
في وقتٍ من المقرر أن تستمر مفاوضات أطراف الصراع في القاهرة بمجرد وصول وفد “حماس” التي أفادت مصادر أمنية صحيفة يديعوت أحرونوت بأن قبضتها تتعزز على مناطق القطاع يومًا بعد يوم، تزداد “جعجعات” نتنياهو بلا طحين الذي، بعد أن خال نفسه ملك إسرائيل غير المتوَّج، يحصد الخيبة تلو الأخرى يوميًّا بعد خروجه خاليَ الوفاض من عدوان غزة. فلم يقضِ على حماس ولم يحرر الأسرى بالقوة، وها هو يملأ الدنيا صراخًا عن الجبهات السبع التي يحارب فيها، وهي الضفة وغزة وإيران وحماس وحزب الله والحوثيون والعراق وسوريا.
قد يكون نتنياهو اليوم يطلق رصاصته الأخيرة على رونين بار، والتي ربما ترتد إليه، فلا هو سيحافظ على حكومته، ولا هو سيفتت الجسم القضائي. وإن تمنّع عن حضور جلسات محاكمته بسبب تبوئه الرئاسة واستمرار الحرب فإنه لن يستطيع منع مساعديه الذين يحقق معهم الشاباك حول أحداث السابع من أكتوبر من الحضور، لكنه قطعًا لن يستطيع إقصاء بار للظهور بمظهر من أتم المحاسبة عن المسؤولين عن 7 أكتوبر، وسوف ينبرى لفضح عواره من نجوا من سعار الجنون الذي فرضته الحكومة المتطرفة الحالية من بعض الشخصيات الإسرائيلية ذات الشأن. فها هو وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس الأركان الأسبق لجيش الاحتلال موشيه يعالون يتهم في مقابلة مع القناة 13 الإسرائيلية الحكومة بأنها “ترسل جنودنا لقتل الرضّع” في قطاع غزة، وإنها “تقوم بتطهير عرقي في شمال قطاع غزة، حيث لم يعد هناك بيت لاهيا أو بيت حانون، وجباليا على هذا الطريق”، مضيفًا أن “نتنياهو يقود إسرائيل نحو الخراب”.
أخيرًا نقول لنتنياهو إن الجبهات التي تقاتل عليها ربما تكون سبعًا، لكنها بغير مسمّاك، فأنت تقاتل على جبهات: قتل المدنيين العزل، وقتل الشيوخ، وقتل الأطفال الأبرياء، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية، ونشر الكراهية، وإن سقوط حكومتك المدوي لقريب، فلنرتقب ونرَ.