الثلاثاء, أبريل 29, 2025
16.4 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

جمال مرعشلي ـ صدفةٌ ستجعل أوروبا تَشُبّ عن الطوق

الحرة بيروت ـ بقلم: جمال مرعشلي

في مكالمة هاتفية امتدت لأكثر من ساعتين ونصف الساعة وتعكس عودة الحرارة إلى العلاقات بين سيّد البيت الأبيض ورئيس روسيا، البلد التي لا تزال على “القائمة البرتقالية” الأميركية (تضم الدول الخاضعة لقيود على السفر إلى أميركا ولم يُقطع الاتصال بها بشكل كامل، وهي تتوسط القائمتين الحمراء الممنوعة قطعًا والصفراء الممنوحة 60 يومًا لتصحيح وضعها)، بحث الرئيسان فلاديمير بوتين ودونالد ترامب قضايا البلدين، وعلى رأسها تحسين العلاقات وأزمة أوكرانيا، التي أكّد بيان الكرملين التزام بوتين بحلّها سلميًّا شرط وقف تدفق الأسلحة إليها، فيما أكّد البيان الأميركي حولها أهمية وقف النار 30 يومًا، والتعاون الاقتصادي بين البلدين، وضرورة منع إيران من تشكيل تهديد لإسرائيل.

لكن القراءة بين سطور رؤوس الأقلام التي وردت في البيانين الروسي والأميركي تكشف تعقيدات كبيرة تكمن في تحفظات عواصم أوروبية كبرى على أي اتفاق يمس استقلال أوكرانيا ويهدد نفوذها، وبخاصة مع ما درج بوتين على تكراره في مناسبات عدة من أنه لن يكتفي بتطمينات لفظية، بل عبر دستور جديد في أوكرانيا يضمن حيادًا حقيقيًّا فيها، وبسحب القوات الغربية المنتشرة في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق منذ 1997.

ومع مواصلة الجيش الروسي تقدُّمَه في هجمات كورسك وتصاعد إجمالي خسائر أوكرانيا، وظهور دلائل واضحة على سياسة أميركية جديدة محتملة لانسحابٍ من الشراكة الأمنية مع أوروبا، بدأ استنفار دول الاتحاد الأوروبي سياسيًّا وإعلاميًّا على أرفع المستويات، وكانت أكثرهم تحفّزًا في ذلك بريطانيا، التي اعتُبرت حتى وقت قريب جدًّا من أكثر دول الاتحاد تماهيًا مع سياسة الولايات المتحدة، حتى باتت هذه الدول وحكامُها كما وصفتهم “نيويورك تايمز”: “منخرطين في نقاش جدّي بشأن شكل الدفاع النووي للقارة”. وهو استنفار استقطب حتى كندا القاصية، التي جمعتها بالاتحاد الأوروبي سياسةُ التحدي التي يتبعها الرئيس ترامب في حق الطرفين، والتي أوصلت العلاقات الأميركية-الكندية إلى درجة من التوتر دعت رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني (شغل المنصب في 14 آذار/ مارس الحالي) إلى مراجعة تفكير بلاده في شراء أسطول طائرات F-35 من شركة “لوكهيد مارتن” (Lockheed Martin) الأميركية بقيمة 7.5 مليارات دولار واستبدال طائرات حربية أوروبية بها، وذلك في ظل حرب تجارية متصاعدة بين البلدين الجارين.

وهو ما ساهم في بلوغ العلاقة بينهما قاعًا غائرًا من السوء دفع كارني، وفي سابقة خطيرة، إلى تجاهل الولايات المتحدة في أولى رحلاته الخارجية، وتخصيص فرنسا والمملكة المتحدة اللتين شكل شعباهما كندا، ثم الأراضي القطبية في نونافوت بها، معلنًا أن الرحلة تهدف إلى “تعزيز اثنتين من أقوى شراكاتنا الاقتصادية والأمنية وأطولها، وإعادة تأكيد سيادة كندا وأمنها في المنطقة القطبية”، في تلميح شديد الوضوح إلى الإعلان المقلق لترامب منذ عودته عن رغبته في السيطرة على غرينلاند وتوسيع النفوذ الأميركي في المنطقة القطبية وضم كندا، التي اعتبرها الولاية الأميركية الـ51، كما أعلن كارني عن تشكيل تحالف “كندي – أسترالي – نيوزيلندي” داعم لأوكرانيا، وتحدث مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين عن دور كندا في “إعادة تسليح أوروبا وتعزيز دفاعها”.

في الإليزيه، أكد كارني الأهمية القصوى لإقامة “الدولة الأكثر أوروبية من بين الدول غير الأوروبية” وعنى بلادَه “علاقات يمكن الاعتماد عليها مع حلفائها الأوروبيين، وسنكون إلى جانب فرنسا لضمان أمن أوروبا وتحقيق السلام”، وأعلن دعوة بلاده التي ترأس مجموعة السبع هذا العام، الرئيسَ الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للمشاركة في “قمة السبع” بكندا في حزيران/ يونيو المقبل.

وعلّق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على كلام ضيفه بالقول إن “التجارة الدولية العادلة أكثر فاعلية من الرسوم (الجمركية)، التي تؤدي إلى التضخم وتضر بسلاسل الإنتاج وتكامُل اقتصاداتنا”، وهو كان صرّح لصحيفة “لوباريزيان” بأن “الدول الأوروبية قد ترسل قوات ومدربين إلى أوكرانيا في حال طلبها من دون موافقة روسيا، التي ليس لها أن تقرر عكس ذلك”.

وفي الجزء الثاني من رحلته إلى المملكة المتحدة، قال كارني في مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، إنّه يتعيّن للوصول إلى محادثات مع ترامب حول التجارة والأمن توقّف ترامب عن تعليقاته “غير المحترمة” بشأن كندا.

أما في ما خصَّ واشنطن، فقد صرّح كارني لوكالة “أسوشييتد برس” بأنه لا يعتزم زيارتها في الوقت الحالي، وأنه مستعد للقاء ترامب إذا أظهر احترامًا للسيادة الكندية، لكنه يأمل في إجراء مكالمة هاتفية معه قريبًا.

وسعى كارني في رحلته الأولى إلى تعزيز روابط بلاده مع البلدين الأهم في أوروبا في مجالات الاقتصاد والتجارة والذكاء الاصطناعي، والمعادن الأساسية، والطاقة النظيفة، بالإضافة إلى نية الأطراف الثلاثة “دعم التجارة القائمة على القواعد”، وبخاصة أن فرنسا لم تصادق بعد على اتفاقية التجارة الحرة بين كندا والاتحاد الأوروبي “سيتا” (Comprehensive Economic and Trade Agreement – CETA)، كما أن محادثات كندا مع المملكة المتحدة بشأن اتفاق تجارة حرة مستقل لا تزال مجمّدة.

وكانت صحيفة “التليغراف” البريطانية أكدت في عددها الصادر في 15 آذار/ مارس الجاري ما كان قاله ستارمر في قمة “تحالف الراغبين” (The Coalition of the Willing) (وهو تحالف 18 دولة تعهّدت في 2 آذار الجاري في لندن بدعم أوكرانيا ضد العدوان الروسي مع أو من دون الرئيس الأميركي دونالد ترامب) من أن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يرغب في السلام”. وأوردت الصحيفة أسبابًا لتأكيدها هذا تنحصر في: تجاوز بوتين داخليًّا عقدة “أمهات روسيا” الثكالى اللواتي أَجبَرن الكرملين على الانسحاب من أفغانستان عام 1984 بعد تكبده 17 ألف قتيل، وتحقيقه تقدمًا على معظم خطوط التماس وادّعائه النصر، ومطالبته بمعالجة ما يسميه “الأسباب الجذرية” للحرب، وهو وجود الناتو في دول البلطيق السوفياتية الثلاث (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا) وسعيه لضم أوكرانيا، عبر انسحابه من هذه الدول، وبالاعتراف الدولي بالأراضي الأوكرانية التي ضمها خلال الحرب، وسعيه الدؤوب لفصل الولايات المتحدة عن أوروبا، الذي يبدو أنه حقق فيه بعض النجاح. وتابعت الصحيفة: “بوتين لا يتفاعل إلا مع القوة، ولن يوقفه إلا التزام الناتو كليًّا بفرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا ونشر قواته على أرضها”، وختمت بدعوة الغرب “إلى فهم حقيقة موقف بوتين والتخطيط بناءً عليه”.

وكان الأمين العام للناتو مارك روته أكد خلال استقباله الجمعة 14 آذار/ مارس الجاري أعضاء “الجمعية البرلمانية للناتو” (Nato Parliamentary Assembly – NPA)  في مقر الحلف ببروكسل، أن “الحلف يقف صامدًا ومتحدًا في مواجهة التحديات”، ودعا أعضاء البرلمانات إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، مؤكدًا ضرورة مواصلة تقديم دعم قوي لأوكرانيا لضمان تمتعها بموقف قوة يمكِّنها من تحقيق سلام دائم”. كلام روته جاء بعد استقباله الممثل الأميركي الخاص لشؤون أوكرانيا وروسيا كيث كيلوغ، الذي “أجرى مشاورات بشأن تحقيق سلام عادل ودائم في أوكرانيا”، كما كتب روته في صفحته على منصة “إكس”. إلا أن ما أثار قلق القادة الأوروبيين تصريح كيلوغ السبت بشأن استبعاد الاتحاد الأوروبي من محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا، ما دفع الرئيس ماكرون للدعوة إلى اجتماع في باريس الإاثنين المقبل يضم الاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” والمملكة المتحدة.

ومقالة “التليغراف” عالية النبرة هذه تَوَّجت سلسلةَ تحذيرات أوروبية من ترك الولايات المتحدة الأوروبيين لمصيرهم في وجه الروس، كان أحدها ما دعت إليه وزيرة الصحة في ولاية بافاريا الألمانية جوديث غيرلاخ في تصريح لصحيفة “أوكسبورغر ألغماينه”، من ضرورة تجهيز النظام الصحي الألماني لمواجهة “حرب محتملة نتيجةَ التهديد الروسي وانسحاب ترامب المحتمل من الشراكة الأمنية”.

وكانت صحيفة “التايمز” نقلت عن ستارمر استعداده لنشر آلاف الجنود البريطانيين ضمن قوات أوروبية لحفظ السلام في أوكرانيا، فيما أفاد مصدر “حكومي بريطاني رفيع المستوى” لم تذكر الصحيفة اسمه، أن هذا الالتزام سيكون “طويل الأمد”، برغم رفض الرئيس ترامب مرارًا تقديم ضمانات لدعمه. أما الـ”فايننشال تايمز”، فقد أجرت بعد تعليق ترامب تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا هذا الشهر، والذي أظهر المدى الكبيرَ لاعتماد أوروبا على الولايات المتحدة استخباراتيًّا، مقابلة مع مفوض الدفاع والفضاء في الاتحاد الأوروبي أندريوس كوبيليوس قال فيها إنه “نظراً للتغيرات في الوضع الجيوسياسي، ستوسع المفوضية الأوروبية قدراتها في مجال الأقمار الاصطناعية لتحسين الدعم الاستخباراتي الجغرافي للأمن” عبر نظام “سيخصَّص للكشف عن تحرك القوات ولتنسيق العمل العسكري، وتحديث معلومات بوتيرة أعلى من نظام كوبرنيكوس الحالي”.

يروى أن أميرًا كان يراقب تدرُّبَ ولده على ركوب الخيل صرخ في الجنود الذين هبوا لمساعدة الصغير عند سقوطه من على ظهر الحصان بأن يدَعوه يعتليه وحدَه، فإنه إذا اعتاد المساعدة فلن يستطيع التصرف في المواقف الصعبة، وقيل أيضًا: إذا أردت تعليمَ الطفلِ السباحةَ فارمه في الماء وراقبه فقط. في حالة الولايات المتحدة وأوروبا يبدو أن الولايات المتحدة لم تساعد الأوروبيين بعد تحريرها بلادهم في الحرب العالمية الثانية في اعتلاء الحصان فحسب، بل كانت تمنعهم من اعتلائه إلا بمساعدتها لكي يبقوا خاضعين لها، لكنّ صدفة الغزو الروسي لأوكرانيا ومجيء رئيس متنمّر كترامب كانت خيرًا من ألف ميعاد لوضعهم في السكة الصحيحة التي يبنون فيها اتحادًا أوروبيًّا قويًّا يقارع مراكز النفوذ والقوة في العالم ويغيّر وجه التاريخ الحديث، وكم من صدفة في التاريخ غيرت وجهه وكانت لنا خيرَ معتبَر.

https://hura7.com/?p=47327

 

 

الأكثر قراءة