LCCC – الحرب المستمرة في لبنان وكل الدمار الذي ينتج عنها هو نتيجة تمسّك النظام الإيراني بآخر أوراقه الفاعلة، ألا وهي الورقة اللبنانية، أي ورقة “حزب الله”. فهو خسر الورقة الفلسطينية في غزة، ويستعد لخسارة الورقة اليمنية، التي لا بدّ من التنازل عنها كونها تؤثر على طريق رئيسي من طرق المواصالات الدولية يتضرر منها الجميع، من الصين إلى الهند وتجارة شرق آسيا مع أوروبا، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح دول المنطقة، خاصة مصر والسعودية وبقية دول الخليج، زيادة على تجارة النفط والغاز العالمية. وهذا ما سينتهي بمزيد من الضغط إذا ما ظهر أي تقدم في العلاقات السعودية – الإسرائيلية تحت مظلة الرئيس ترامب مستقبلاً.
تبقى إذاً الورقة اللبنانية التي، إن سقطت، قد تطيح أيضاً بالورقة العراقية، ولو أن العراق جار قريب لإيران حيث يسهل بسط النفوذ والسيطرة. لا بل هناك سوابق تاريخية منذ ما قبل الفتح العربي حيث كانت “المدائن” عاصمة دولة “كسرى” تقوم فيها، وكانت عقدة فرض الإسلام على الفرس مؤلمة لا بل أثرت كثيراً في حركة التاريخ، منذ الفتح إلى ثورة العباسيين والدولة البويهية وحتى الحركة الصفوية أيام الشاه اسماعيل.
من هنا تمسّك إيران بورقة “حزب الله” والتحضيرات الكثيرة، لا بل الآمال الكبيرة التي بنيت عليها منذ أيام الإمام الخميني، صاحب نظرية استعادة الهيمنة والتوسع. ويقول البعض بأن فكرة تمدد النفوذ الإيراني كانت بدأت زمن الشاه، حيث أُرسل الإمام موسى الصدر لتنظيم الوجود الشيعي في لبنان وزيادة التأثير على الساحة التي كانت تسيطر عليها القوى اليسارية المرتبطة بشكل أو بآخر بالاتحاد السوفياتي، خاصة مع تنامي قوة المنظمات الفلسطينية والتي ارتكز تسليحها على الكتلة الشرقية.
اليوم، وبعد الضربات الشديدة التي أطاحت بتنظيم “حزب الله” من رأسه حتى أخمص قدميه، ومن ضمنها مخازن أسلحته وتحصيناته ومراكز تمويله، اضطر الحرس الثوري للنزول إلى الأرض والسيطرة على قرارات الحزب الفعلية، لا بل استقدم بعض العناصر من سوريا لدعم صمود مواقع الحزب ومنع ظهور أي نوع من أنواع الاستسلام أو الهزيمة لكي يمرر المرحلة المقبلة ويقطف أي نصر ممكن، ولو كان فقط التفاوض مع النظام في طهران على الترتيبات المستقبلية. وهو مستعد، إن أُعطي استمرار سيطرته داخل إيران، أن يقبل بأي شروط تطلبها إسرائيل وشركاؤها من القوى الغربية، لا بل إجراء إصلاحات داخل النظام نفسه وإرضاء المجتمع الدولي مع محاولة استيعاب تحركات الشعب الإيراني المستقبلية.
ولهذا نرى التصريحات المتلاحقة ثم التراجع عنها، وكثرة الوفود التي تزور لبنان، ومحاولات الظهور بمظهر الساعي للسلم وغير المعني بالحرب مهما كان الثمن، وحتى لو كان من ضمن ذلك التنازل في ملف المواقع النووية والعودة إلى فتحها أمام المراقبين الدوليين كما أعلن مؤخراً.
زيارة لاريجاني إلى لبنان، والتي سُرّب بأنها كانت لمساعدة الحزب ببعض الأموال من أجل تخطي المرحلة الدقيقة التي يمر بها ودعم أجزاء من بيئته المهجّرة والتخفيف من حركات الرفض الناتجة عن الدمار والمعاناة التي يعيشها أبناء الطائفة، جاءت أيضا للظهور بمظهر القادر على التأثير على مجريات الأمور، ولفهم ما يدور بين اللبنانيين والقوى الفاعلة والتي تؤثر على ما ستقوم به إسرائيل، وتأكيداً على دور طهران وفعاليتها في مجريات الأحداث، لا بل جهوزيتها للتفاوض والتنازل بما أنها لا تزال قادرة على حسم الأمور. وما تمرير قضية تفتيش الوفد التي قام بها عناصر الأمن في المطار بدون ضجيج أو اعتراض كبير إلا من قبيل هذا التغيير.
ولكن هل إن قدرة إسرائيل على وقف خطر مستقبل المشروع النووي الإيراني اليوم، وخلال هذه الفرصة الفريدة وحتى بدون ضربه، سيمنع إعادة إحياء دور نظام الملالي، مموّل الإرهاب العالمي وداعم نظريات الرفض التي لا تزال تسيطر منذ قيام دولة إسرائيل على علاقات دول الشرق الأوسط؟ أم أن تقديم التنازلات والقبول بالشروط الدولية سيسمح بإمكانية نشر السلام الحقيقي والتعاون بين مركبات المنطقة وشعوبها، كما باستمرار هذا النظام، على أن ينضم إلى حركة التطور ويتخلى عن طروحاته التوسعية ومشاريع التسليح الصاروخي والنووي، لتصبح المنطقة واحة نمو وازدهار قادرة على اللحاق بالحركة الاقتصادية العالمية والانضمام إلى قطار المدنية الجديدة؟
إن أي تعنّت من قِبل نظام طهران سيجرّه إلى الصدام الفعلي الذي يحتّم التخلص منه نهائياً، ومن كل إفرازاته أيضاً. في لبنان أولاً، وفي اليمن والعراق وسوريا تباعاً. وما الحرب الدائرة اليوم إلّا للتخلص من الترسانة العسكرية التي كدّسها هذا المحور خلال الأربعين سنة الماضية بهدف فرض سياسته على المنطقة بأسرها ومنها على العالم. ولكننا نرى نهاية لعهد التوسع الإرهابي وبداية لمشروع السلام الحقيقي الذي تسعى إليه الدول والشعوب. وكل من لا يزال يؤمن بحلول العنف سيتأخر عن الركب ولن يقدر على مجاراة التطور ولا على الانضمام إلى المجموعات المتنافسة على الإنتاج وتقاسم الثروة.
إن هؤلاء الذين أقاموا نظام القوة وتجارة الممنوعات واعتمدوا على نشر الذعر والخوف من خلال مخططاتهم التدميرية، سيسقطون في شر أعمالهم. لذا على اللبنانيين، خاصة أبناء الطائفة الشيعية، الذين سمم “حزب الله” حياتهم وقهر أولادهم ونكّل بالأحرار بينهم، أن يستفيقوا من ثباتهم ومن سكرتهم بالعز المؤقت، ويروا ما حلّ بهم وإلى أين يسيرون، فيتقوا الله ويوقفوا الحرب اليائسة، ويعملوا على الالتزام بقواعد وشروط بناء الدولة.
نحن لن نتوقف عند المطالبة بوقف إطلاق النار وتسليم سلاح “حزب الله” وترك مهمة حماية الحدود ومصالح اللبنانيين للجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية وتنفيذ القرارات الدولية، ولا فقط لاستعادة العمل باتفاقية الهدنة. إن صناعة المستقبل تبدأ بقرار صحيح والتاريخ سيذكر هذه المرحلة على أنها المخاض الحقيقي لولادة دولة لبنان الحديث. فليكن لأبناء الجنوب شرف المشاركة بفعل الخير وإسكات المدافع والتخلص من الحقد ومشاريع التزلّم لمن يريد استخدام الشعب اللبناني في تجاربه، وليكن لبنان محصناً بأبنائه المتعاونين على الخير والبناء لا على الهدم والدمار.