france24ـ في 23 سبتمبر/أيلول قام سلاح الجو الإسرائيلي بشن هجوم جوي شامل على لبنان وبخاصة على معاقل حزب الله في الجنوب وفي البقاع تضمن أكثر من 600 طلعة جوية ومهاجمة أكثر من 1300 هدف في البلاد. مثلت هذه الهجمات نقلة نوعية في الصراع بين الجانبين الذي تحول إلى حرب استنزاف منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول دعما لحركة حماس بعد الحرب التي أطلقتها إسرائيل على قطاع غزة ردا على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. ويعود تاريخ الصراع بين إسرائيل ولبنان بقيادة حزب الله حتى إلى أكثر من عقدين قبل تأسيس حزب الله رسميا عام 1985.
في 17 سبتمبر/أيلول قررت إسرائيل تصعيد الصراع مع حزب الله اللبناني ونقل جهدها العسكري من قطاع غزة إلى الجبهة الشمالية المواجهة للحزب على الحدود الجنوبية للبنان. استهلت تل أبيب هجومها بسلسلة من تفجير خمسة آلاف من أجهزة النداء الآلي “البيجر” عن بعد التي يستخدمها عناصر حزب الله في اتصالاتهم ما أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى وآلاف الجرحى. في البوم التالي لهذا الهجوم حدثت موجة أخرى من التفجيرات، ولكن هذه المرة لأجهزة اللاسلكي وسقط أيضا مئات الإصابات في صفوف أعضاء حزب الله. يوم الجمعة 20 سبتمبر/أيلول هاجمت إسرائيل مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث كان كبار قادة قوة الرضوان، قوات النخبة في الحزب، يجتمعون وقتلت إبراهيم عقيل الرجل الثالث في الحزب و16 قياديا آخر بالحزب.
مثلت هذه الهجمات نقلة نوعية في الصراع بين الجانبين، توجتها إسرائيل صباح الإثنين 23 سبتمبر/أيلول بهجوم جوي شامل على لبنان وبخاصة على معاقل حزب الله في الجنوب وفي البقاع تضمن أكثر من 600 طلعة جوية ومهاجمة أكثر من 1300 هدف في البلاد بحسب الجيش الإسرائيلي. لكن هذا الهجوم، المستمر إلى هذه اللحظة، قد طال كافة أنحاء لبنان ولم يقتصر فقط على معاقل الحزب.
بعد الهجوم المفاجئ الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأسفر عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي بين عسكري ومدني وأسر أكثر من 250 إسرائيليا واقتيادهم إلى داخل قطاع غزة، شنت إسرائيل في اليوم نفسه هجوما كاسحا على القطاع مطلقة حربا لا هوادة فيها ضد حركة حماس والفصائل الأخرى المتعاونة معها كالجهاد الإسلامي وضد سكان القطاع الذين قتل منهم في الغارات الإسرائيلية ما يقرب من 41 ألف شخص وإصابة أكثر من 100 ألف شخص معظمهم من النساء والأطفال.
حزب الله على خط المواجهة
منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، سارع حزب الله اللبناني بالدخول على خط المواجهة أمام إسرائيل دعما وإسنادا لجبهة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من منطلق مفهوم “وحدة الساحات” وفي إطار ما يسمى “بمحور المقاومة” الذي تتزعمه إيران ويضم جماعة “أنصار الله” اليمنية (الحوثيون)، والميليشيات العراقية الشيعية (حزب الله العراقي، والحشد الشعبي) إلى جانب حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية.
لكن عند العودة السريعة إلى تسلسل الأحداث، نجد أن الصراع بين إسرائيل ولبنان بقيادة حزب الله ليس وليد اليوم ولم يبدأ تحديدا في هذا التاريخ. فالصراع بين حزب الله والدولة العبرية يتخطى المواجهة بين الطرفين ويعود تاريخه حتى إلى أكثر من عقدين قبل تأسيس حزب الله، ولا ينفصل بحال من الأحوال عن التدخل الإسرائيلي المستمر في البلاد.
نبذة تاريخية عن تدخل إسرائيل عسكريا في لبنان
بدأ التدخل العسكري الإسرائيلي في لبنان للمرة الأولى في 28 ديسمبر/كانون الأول عام 1968 بقصف مطار بيروت الدولي الذي خلف تدمير 13 طائرة مدنية وذلك ردا على اختطاف مقاتلين من منظمة التحرير الفلسطينية لطائرة شركة العال المتجهة لأثينا. واستمرت إسرائيل بعد ذلك في التدخل في لبنان كلما دعت مصلحتها في حربها ضد الفصائل الفلسطينية المقاومة.
في 10 أبريل/نيسان 1973 قامت قوة من رجال الكوماندوس الإسرائيليين باغتيال ثلاثة من القادة الفلسطينيين، كمال عدوان وكمال ناصر ويوسف النجار، في بيروت ردا على مقتل رياضيين إسرائيليين في أولمبياد ميونيخ عام 1972. بعد هذه العملية، قام الفلسطينيون وحتى عام 1978 بعمليات جريئة داخل إسرائيل قضت على عدد كبير من جنود جيش الدفاع، وهو ما دفع تل أبيب للتفكير والتخطيط جديا للتدخل عسكريا في لبنان.
في 14 مارس/آذار عام 1978 فيما يعرف بعملية الليطاني وفق الإعلام العبري. زجت تل أبيب آنذاك بجيشها في جنوب لبنان من أجل طرد الفصائل الفلسطينية – وتحديدا مقاتلي منظمة التحرير – التي كانت تهاجم شمال إسرائيل وتسبب صداعا مزمنا للدولة العبرية. نتج عن هذه العملية تراجع قوات الفصائل الفلسطينية إلى شمال نهر الليطاني ومقتل نحو 300 من عناصرها، ونزوح ما يقرب من ربع مليون لبناني عن مدنهم وقراهم.
جاء التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر في جنوب لبنان ردا على عملية “كمال عدوان” التي وقعت في 11 مارس/آذار 1978 حينما تسلل 11 مقاتلا من أعضاء حركة فتح إلى شواطئ حيفا وقَتلوا سائحاً أمريكياً ثمّ اختطفوا حافلة على الطريق الساحلي واستولوا بعدها على حافلة ثانية في طريقهم إلى تل أبيب. بعد مطاردة شرسة مع المقاتلين الفلسطينيين، قتل 37 إسرائيليا وجُرَح 76 آخرون.
احتلت القوات الإسرائيلية المنطقة وحتى جنوب نهر الليطاني لمدة ثلاثة أشهر قبل أن تعود وتنسحب منها جزئيا، نتيجة للضغط الدولي وانصياعا لقراري مجلس الأمن رقمي 425 و426 اللذين شكلت على إثرهما قوة الأمم المتحدة للفصل بين المتنازعين (اليونيفيل) في جنوب لبنان. سلمت إسرائيل المناطق التي احتلتها لميليشيات جيش لبنان الجنوبي بزعامة حليفها الرائد سعد حداد خالقة بذلك حزاما أمنيا في الجنوب.
في السادس من يونيو/حزيران عام 1982 وفي عملية أطلقت عليها “سلام الجليل”، غزت إسرائيل لبنان مجددا. متذرعة بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن من قبل مجموعة فلسطينيّة منشقة، اجتاح الجيش الجنوب بداية بأوامر رئيس الوزراء مناحيم بيغين ووصل حتى بيروت في العاشر من يونيو/حزيران ودخل القصر الرئاسي في بعبدا في 13 من الشهر نفسه. كانت أهداف الاجتياح كما أعلنتها إسرائيل هي طرد منظمة التحرير الفلسطينية وفرض اتفاق سلام مع لبنان. في يوليو/تموز فرضت القوات الإسرائيلية حصارا شديدا على بيروت الغربية حيث يوجد الفلسطينيون وواصلت قصفها المستمر للمدينة مسجلة خسائر فادحة في الأرواح حتى 19 أغسطس/آب عام 1982 بعد التوصل لاتفاق برعاية السفير الأمريكي في لبنان فيليب حبيب يتضمن إجلاء الفلسطينيين من المدينة بحريا.
في 1985 انسحبت إسرائيل من لبنان وأنشأت حزاما أمنيا زرعت فيه جيش لبنان الجنوبي بقيادة أنطوان لحد وباشرت إدارته بنفسها.
نشأة وجذور حزب الله اللبناني
في هذا السياق الملتهب، نشأ حزب الله اللبناني.
طرحت فكرة إنشاء تنظيم مسلح لمواجهة التدخل الإسرائيلي المتكرر في لبنان في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي على يد رجال اللبنانيين المتحمسين للثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني لا سيما وأن معظم هؤلاء درسوا في مدينة النجف الأشرف العراقية التي تضم مرقد الإمام علي بن أبي طالب والتي كانت مقرا للإمام الخميني ودعوته.
كان لمحمد حسين فضل الله، رجل الدين الشيعي الكبير في جبل عامل بلبنان، دور كبير في تهيئة المناخ والبيئة الفكرية الحاضنة لفكرة حزب الله عبر الدعوة والتبليغ والنشاط العلمي الدؤوب الذي توج بإنشاء المجلس الأعلى الشيعي عام 1967 بالتعاون مع الإمام موسى الصدر مؤسس حركة أمل الشيعية.
تأسس الحزب فعليا عام 1982 باسم حركة “الأمل الإسلامية” ورسميا عام 1985 باسم “حزب الله”، كانت البدايات انشقاقا عن حركة أمل الشيعية التي كانت تقود لواء المقاومة ضد إسرائيل كما كانت فاعلا رئيسيا في الحرب الأهلية اللبنانية منذ عام 1975. وحصلت الحركة الجديدة على دعم عسكري وتنظيمي كبير من عناصر الحرس الثوري الإيراني في سهل البقاع. تقلد الشيخ صبحي الطفيلي رئاسة الحركة منذ العام 1982 حتى 1991. أقصي الشيخ الطفيلي عن قيادة الحزب بسبب اختلاف توجهاته مع توجهات الحزب وانتخب الشيخ موسى الموسوي خلفا له. اغتالت إسرائيل الموسوي عام 1992 ما دعا إلى انتخاب قيادة جديدة برئاسة الشيخ حسن نصر الله الذي لا يزال قائدا أوحد لحزب الله إلى اليوم.
اعتمدت الحركة منذ نشأتها أيديولوجية ولاية الفقيه الشيعية وبايعت الإمام الخميني كمرجعية دينية وحيدة ثم تحولت إلى حزب مصدرة بيانها التأسيسي رسميا في 16 فبراير/ شباط 1985 أعلنت فيه أن الحزب “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”. وتبنى قادة الحزب الاسم الذي اختاره الإمام الخميني لهم “حزب الله”.
انخرطت حركة “الأمل الإسلامية” (حزب الله) سريعا في الصراع مع إسرائيل وشنت هجمات على الجيش الإسرائيلي وحلفائه، مثل “جيش لبنان الجنوبي” (أنطوان لحد). كما أنها متهمة بالوقوف وراء تفجيرات السفارة الأمريكية ومقر قوات البحرية الأمريكية عام 1983، التي راح ضحيتها 258 أمريكياً، و58 فرنسياً وأدت إلى انسحاب قوات حفظ السلام الغربية من المنطقة.
بزوغ نجم حزب الله كفاعل مهم على الساحة السياسية اللبنانية
يتكون حزب الله من جناحين مهمين، الأول هو الجناح العسكري ويطلق عليه “مجلس الجهاد” والثاني هو الجناح السياسي ويدعى حزب “كتلة الوفاء للمقاومة” والممثلة نيابيا في البرلمان اللبناني.
في عام 1989 وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها بتوقيع اتفاق الطائف الذي طالب بنزع السلاح عن الميليشيات. اتجه حزب الله آنذاك لإعادة تقديم جناحه العسكري على أنه قوة “مقاومة إسلامية” تهدف إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبلاد، ما سمح له بالإبقاء على تسليحه.
في عام 1990 فرض الجيش السوري، المتحالف مع إيران، التهدئة ووقف الاقتتال في لبنان، وهو ما سمح لحزب الله بشن حرب عصابات انطلاقا من جنوب لبنان ضد القوات الإسرائيلية المحتلة، كما سمح له أيضا بتدشين وجوده في الحياة السياسية اللبنانية. في عام 1992 شارك حزب الله للمرة الأولى في الانتخابات العامة في البلاد عن طريق جناحه السياسي “كتلة الوفاء للمقاومة”.
وخلال عشر سنوات متتالية، واصل حزب الله ضغطه العسكري على القوات الإسرائيلية وحليفها جيش لبنان الجنوبي عبر عمليات متواصلة سببت خسائر فادحة في صفوفهما. كبَّدت تلك العمليات العسكرية الناجحة لحزب الله الجيش الإسرائيلي خسائر سنوية بلغت ما بين 22 و23 قتيلاً، وعددا كبيرا من الجرحى والأسرى.
ضربات موجعة لإسرائيل في جنوب لبنان
تشير مصادر حزب الله إلى أن متوسط العمليات العسكرية التي شنها في الفترة من 1989 وحتى 1991 بلغت 292 عملية، وفي الفترة بين عامي 1992 و1994 بلغت 465 عملية، أما في الفترة بين 1995 و1997 فقد بلغت تلك العمليات 936، وكان نصيب الجناح العسكري لحزب الله نحو 736 عملية.
أما المصادر الإسرائيلية فتشير إلى أن إسرائيل فقدت في عام 1988 وحده 36 جنديًا وجرح لها 64 آخرون، وخطف منها جنديان. وفي الإجمال كانت حصيلة القتلى الإسرائيليين على مدى 18 عاماً حوالي 1200 قتيل.
استخدم حزب الله في عملياته العسكرية ضد إسرائيل أسلوب حرب العصابات والعمليات الفدائية، والتي في الأغلب تستعمل الكمائن والعبوات الناسفة والمدافع بالإضافة إلى صواريخ الكاتيوشا التي اشتهر الحزب باستعمالها ضد المستوطنات الإسرائيلية. وتميزت أعمال المقاومة العسكرية لحزب الله بالدقة في تحديد الأهداف والمفاجأة وتأمين خطوط الانسحاب، وساعدهم في كل ذلك جهاز استخباراتي مدرب.
كانت أشهر عمليات الحزب وأنجحها هي معركة “أنصارية” عام 1997 عندما استدرجت طائرة هليكوبتر على متنها ستة عشر مقاتلا من القوات الإسرائيلية الخاصة وأبادتهم جميعا.
بدأت إسرائيل خطواتها الأولى باتجاه الانسحاب نتيجة لهذه العمليات في وقت مبكر، فكان الانسحاب الأول الكبير في عام 1985، ثم تلته انسحابات أخرى لاحقة كان أبرزها كذلك الانسحاب من منطقة “جزين” اللبنانية. وخلقت داخل المجتمع الإسرائيلي تياراً شعبياً قوياً يطالب بالانسحاب من “المستنقع اللبناني”، وكانت من أشهر الحركات المطالبة بالانسحاب “الأمهات الأربع”.
دفع كل ذلك الجيش الإسرائيلي في 24 مايو/أيار عام 2000 إلى الانسحاب من جنوب لبنان وسقوط ميليشيات جيش لبنان الجنوبي وهروب عناصرها إلى إسرائيل أو استسلامهم للجيش اللبناني النظامي.