الأحد, يونيو 22, 2025
24.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

حزب الله بين الإنسان والسلاح… والدولة التي لا تُختصر بخط ثالث

 

داود رمال

 

جريدة الحرة ـ بيروت

في إطلالة بالغة الأهمية والدلالة، خرج رئيس المجلس السياسي في حزب الله السيد إبراهيم أمين السيد بمواقف تُعدّ الأكثر صراحة منذ فترة، تضمنّت مراجعات داخلية وانتقادات لافتة، فضلاً عن إشارات سياسية تتقاطع مع التطورات الإقليمية والدولية. هذه الإطلالة لم تأتِ في لحظة فراغ، بل جاءت في ظل واحدة من أكثر المراحل اللبنانية دقة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وفي لحظة تتقاطع فيها محاور الصراع الإقليمي مع أسئلة الداخل اللبناني حول موقع الدولة ودورها وحدود تأثير القوى غير الشرعية في مسار القرار الوطني.

ورغم ما حملته تصريحات السيد من نَفَس عقلاني نسبي وإشارات نقدية داخلية، إلا أن القراءة المتأنية تكشف ثغرات جوهرية في الطرح، أبرزها: اختزال دور الدولة، تبرير الإمساك بالسلاح، إرجاء الحوار الوطني، وطرح شراكات غير متوازنة تُشرعن تغوّل اللامؤسسات على المؤسسات.

  1. الإنسان أولاً… ولكن أين الدولة التي تحمي هذا الإنسان؟

حين يؤكد السيد إبراهيم أمين السيد أن “الإنسان هو أهم عنصر في الحرب”، فهو يخرق الخطاب التقليدي الذي طالما قدّم السلاح كحل لكل مأزق. هذا التوصيف بحد ذاته تطور مهم في العقلية الحزبية، لكنه يظلّ ناقصاً إن لم يترافق مع اعتراف بأن كرامة هذا الإنسان وحمايته لا تكتمل إلا بدولة قادرة، عادلة، وقائدة، لا في ظل ازدواج سلطوي أمني واقتصادي وأيديولوجي. فما قيمة الإنسان في ظل قضاء مسلوب، واقتصاد مرتهن، وتعليم منهار، وقرار حرب وسلام لا يعود إليه؟ الإنسان الذي يخيف العدو كما يقول السيد، يجب أن يكون هو نفسه المستفيد من الاستقرار والسلام الداخليين، من التنمية، ومن استقرار مؤسسات الدولة لا مناصرتها عندما تضعف ومنافستها عندما تقوى.

  1. البيئة ليست خلف الحزب بل أمامه… اعتراف متأخر ولكنه مطلوب
إعادة الإعمار

تعبير “البيئة أمامنا لا خلفنا” هو أحد أكثر تعابير السيد أهمية، لأنه يلامس عمق التحول في المزاج الشيعي، تحديداً الجنوبي والبقاعي، الذي سئم الحروب المتكررة والخطابات التي لا تصرف في الأمن أو في فرص العمل. هذه البيئة، التي طالما كانت خزان الحزب البشري والسياسي، بدأت تُعيد النظر في موقعها، خصوصاً بعد أن دفعت وحدها كلفة الحرب والتشريد والدمار، بينما تحصد القيادات والأطراف الأخرى الحصص والتحالفات. لكن الإقرار بأن البيئة هي مَن يُفترض أن تُرشد القرار لا يكفي نظرياً، بل يجب أن يُترجم عملياً عبر تفويض القرار إلى مؤسسات الدولة التي تُعبّر عن هذه البيئة مجتمعة، لا إلى أي قيادة مغلقة على ذاتها وخياراتها العابرة للحدود لأي جهة انتمت هذه القيادة.

  1. “لا ربط بين الإعمار والسلاح”… حقيقة أم مناورة؟

يحاول السيد أن يفصل بين عملية إعادة الإعمار وسلاح المقاومة، في تبرئة مسبقة لأي تهمة قد توجه للحزب بتعطيل النهوض أو ابتزاز الدولة، لكن هذا الفصل نظري ولا ينسجم مع الواقع. فالإعمار، إن لم يكن تحت مظلة الدولة، سيكون خاضعاً لمعادلات سياسية إقليمية. وهل يمكن فعلاً المضي بإعمار حقيقي فيما قرار الحرب والسلم لا يزال خارج يد الدولة؟ كيف يمكن للمستثمر، المحلي أو الأجنبي، أن يضخ الأموال في الجنوب أو الضاحية أو غيرهما إذا كان يعلم أن هذه المناطق قد تُستهدف في أي لحظة نتيجة قرار لا يُتخذ في مجلس الوزراء؟ الربط بين السلاح والإعمار واقع مفروض، لا يمكن إنكاره عبر التصريحات فقط.

  1. الدولة ليست طرفاً… بل المرجع الوحيد
الدولة ليست طرفاً

قال السيد إن “الإعمار يتم عبر ثلاثة خطوط: حزب الله، الأصدقاء، والدولة”، وهذا أخطر ما ورد في الإطلالة، لأنه يضع الدولة في مرتبة واحدة مع فاعلين غير شرعيين. الدولة ليست خطاً ثالثاً في مثلث، بل قاعدة المثلث وأساسه. هذه المقاربة تُصغّر موقع الدولة وتحوّلها إلى مجرد قناة تنفيذية، بينما المطلوب هو الاعتراف الصريح بأن أي مشروع إعمار أو إنقاذ أو تسوية لا يمكن أن يقوم إلا من بوابة الدولة وبسلطة مؤسساتها الشرعية، وليس بتفاهمات ثلاثية لا تخضع لمحاسبة شعبية أو قانونية.

  1. لا حوار قبل زوال العدوان. ولكن هل القرار لبناني أم إقليمي؟

يربط السيد انطلاق الحوار الوطني بزوال الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، وكأننا دولة تنتظر الانفراج الخارجي لتُقرر مصيرها الداخلي. لكن هل نربط مستقبلنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي بصراعات لا قدرة لنا على التأثير فيها؟ الحوار يجب أن يكون نابعاً من الحاجة اللبنانية لترتيب البيت الداخلي، خصوصاً بعد التجربة الكارثية التي مرّ بها البلد منذ 2005 حتى اليوم. وإذا كان السلاح يُشرَّع بذرائع خارجية، فإن إسقاط الحوار بذرائع مشابهة يُبقي البلد في حلقة مفرغة من الشلل والانهيار.

  1. الدور الأميركي… بين النقد والتبرير؟

قال السيد إنه لا يرى أن للأميركي مصلحة في الفوضى في لبنان، وهو موقف مفاجئ نسبياً في خطاب حزب الله الذي طالما حمّل واشنطن مسؤولية الانهيار والعدوان. قد يكون ذلك انعكاساً للتفاهمات غير المعلنة في إطار التفاوض الإيراني الأميركي حول الملف النووي، لكنه أيضاً طرح ينطوي على تناقض: فهل مَن يُفترض أنه عدو استراتيجي يصبح ضامناً للاستقرار؟ وهل يمكن لحزب يُحمّل الأميركي كل مصائب المنطقة أن يقول إن الأميركي لا يريد فوضى في لبنان؟ هذا الموقف إما نتيجة تحول سياسي خطير، وإما جزء من لغة براغماتية تسعى لتقليل التوتر في لحظة حرجة إقليمياً.

  1. الرسالة إلى الرئيس جوزاف عون… مناشدة أم تحذير؟

من أبرز ما ورد في حديث السيد إبراهيم السيد رسالته إلى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، حين قال له: “بيتك هو الوطن، واللبنانيون أولادك، لا تسمح لأحد أن يتآمر عليك في بيتك”. هذه العبارة، رغم صياغتها العاطفية، تُخفي مضموناً بالغ الخطورة، إذ توحي بأن هناك أطرافاً داخلية أو خارجية تحاول “التآمر” على رئيس الجمهورية، وفي خلفيتها موقف مساعدة نائب وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس التي هاجمت حزب الله من قصر بعبدا وردّت يومها الرئاسة في بيان توضيحي حاسم. لكن الرسالة تحمل أيضاً دعوة مبطنة للرئيس عون بأن لا يقف على الحياد، وأن يُثبت موقعه ضمن توازنات داخلية وخارجية دقيقة، وهو أمر يهدد بفصل الرئاسة الأولى عن دورها الوطني كحكم عادل تحكم باسم الدستور والقانون وتحويلها إلى جزء من صراع المحاور.

  1. النقد الداخلي… هل ينضج إلى إصلاح؟

انطوت الإطلالة أيضاً على نقد واضح لسلوك بعض قيادات الحزب في التعامل مع البيئة والمناصرين، حين دعاهم إلى “التعامل بالرأفة والمودة وليس بالصلاحيات”. هذا الكلام لا يُستهان به، لأنه يؤشر إلى احتقان داخلي وربما إلى تململ من تحوّل القيادات الوسطى إلى أدوات تسلط لا خَدمة. لكن السؤال: هل يسمح الهيكل التنظيمي الصارم للحزب بإصلاح داخلي حقيقي؟ أم أن هذا النقد سيبقى في إطار التهدئة النفسية دون أي أثر فعلي؟

لبنان بحاجة إلى دولة… لا إلى خطوط موازية

إطلالة السيد إبراهيم أمين السيد كسرت الصمت وأطلقت نقاشاً مهماً، لكنها في النهاية لم تنسف المعضلة الأساسية: لا دولة تُبنى من خطوط ثلاثية، ولا حوار يُعقد بشروط خارجية، ولا إعمار يتم بظل سلاح منفلت من يد الشرعية. لبنان أمام مفترق خطير: إما العودة الصريحة والواضحة إلى مرجعية الدولة الجامعة، أو الاستمرار في استنزاف ما تبقى من قدرات ومؤسسات تحت مسميات حماية المقاومة أو الدفاع عن القضايا الكبرى.

إن الدولة ليست خياراً ثالثاً بل الخيار الوحيد، وكل محاولة لتقاسم دورها، أو تجزئة سلطتها، أو تعليق عملها بانتظار التفاهمات الخارجية، هي خيانة لمفهوم الوطن والمواطنة.

فإما أن نعيد الاعتبار للدولة بمفهومها الكامل غير القابل للتشاطر والتجزيء…
وإما أن نستعد للغرق معاً في قارب بلا قبطان.

https://hura7.com/?p=54113

الأكثر قراءة