د. محمد حلاوي
جريدة الحرة ـ بيروت
منذ زيارته الأولى إلى لبنان، اعتاد اللبنانيون سماع عبارات التفاؤل من المبعوث الأميركي توم باراك، إلى جانب إظهاره ارتياحًا تجاه الموقف الرسمي اللبناني عقب لقائه الرؤساء الثلاثة. لكن سرعان ما تحوّل هذا التفاؤل إلى خيبة أمل، بمجرد مغادرته بيروت. فهل سيتكرّر السيناريو ذاته في زيارته الثالثة؟
الزيارة الثالثة: لا جديد يُذكر
أعربت مصادر أميركية عن خيبة أملها من نتائج زيارة باراك الأخيرة، موضحةً أن المسؤولين اللبنانيين يصرّون على مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، وهو ما ترفضه إسرائيل، وترفضه واشنطن كذلك. فقد أبلغ باراك مضيفيه صراحةً أنه لا يستطيع الحصول على أي ضمانات من تل أبيب، وأن المطلوب من لبنان هو تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية، وعلى رأسه حصر السلاح بيد الدولة.
وأوضح المبعوث الأميركي أن على الحكومة اللبنانية أن تحسم خياراتها، مشيرًا إلى أن المساعدة الدولية للبنان — سواء من الولايات المتحدة أو من دول الخليج والدول المجاورة — مشروطة بتحقيق الاستقرار الداخلي أولًا.
وفي لقائه مع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، الأربعاء الماضي في بكركي، قال باراك: “الجميع يبذل ما بوسعه لمساعدة لبنان، لكن الأمور تبقى معقّدة أمام القيادات اللبنانية كما أمام غيرهم”، معربًا عن أمله باستمرار التواصل، ومتفهمًا الصعوبات القائمة.
وشدّد باراك على ضرورة تسليم جميع الميليشيات في لبنان سلاحها، معتبرًا أن هناك عوائق كبيرة تحول دون التطبيق الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار، وأن وجهات النظر ما زالت متباينة في هذا الشأن.
وبذلك، سيكون لبنان أمام سيناريوهات غامضة، بين الترقب الأميركي والتسارع والتهوّر الإسرائيلي، بعد أن وعدت حكومة نتنياهو سكان شمال فلسطين المحتلة بالعودة إلى منازلهم وفتح المدارس في أيلول المقبل.
نزع سلاح حزب الله: بين نرجسية نتنياهو والأخطار الوجودية
المعضلة الأساسية التي يواجهها باراك تكمن في الرفض الإسرائيلي القاطع لمبدأ “الخطوة مقابل الخطوة”، ورفضها لأي مبدأ “تكافؤ” مع الجانب اللبناني. فتل أبيب تعتبر نفسها “منتصرة” في هذه الحرب، وترى أن المطلوب من حزب الله هو الاستسلام التام والقبول بالمقترح الأميركي-الإسرائيلي.
إلا أن مبدأ الاستسلام مرفوض قطعيًّا في عقيدة حزب الله، بحسب ما أكّده أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، في آخر خطاب له، حيث أشار إلى خيارين لا ثالث لهما: “المواجهة أو الشهادة
لكن، ما هو مفهوم “الانتصار” الإسرائيلي في هذا السياق؟
لا يُنكر أحد التفوّق التكنولوجي والعسكري الإسرائيلي، ولا قدرتها التدميرية الهائلة التي دمّرت قرى جنوبية بأكملها، وامتدت ضرباتها إلى بيروت والبقاع.
إلا أن فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه الميدانية، ولا سيما عجزه عن التقدّم نحو مجرى الليطاني بعد 66 يومًا من القتال، شكّل عامل قوة تفاوضية للطرف اللبناني، ما يفسّر قبول حزب الله بوقف إطلاق النار ضمن شروط سياسية لا عسكرية.
إسرائيل لا تكتفي بالمطالبة بنزع الأسلحة الثقيلة والصاروخية، بل تتطلع إلى نزع أي سلاح فردي بحوزة اللبنانيين. وهي تُدرك أن الحرب القادمة قد لا تكون نزهة، كما كشفت التجربة القاسية في غزة منذ 7 أكتوبر، والتي عجز فيها الجيش الإسرائيلي عن تحقيق نصر ميداني حاسم رغم تفوّقه الجوي.
أما المعضلة الثانية التي تواجه واشنطن، فهي ما يصفه المسؤولون الشيعة بـ”الخطر الوجودي” المحدق بحزب الله، وبالطائفة الشيعية عمومًا، وهو ما أكّده رئيس مجلس النواب اللبناني للمبعوث الأميركي خلال لقائهما يوم الثلاثاء الماضي.
فأهل الجنوب اللبناني يواجهون خطرًا وجوديًا، وأطماعًا إسرائيلية تاريخية تتعلّق بالأرض والمياه. واليوم، يواجهون خطرًا جديدًا مرتبطًا بالتطوّرات السورية، خصوصًا بعد مجازر الساحل السوري التي راح ضحيتها نحو 1700 من أبناء الطائفة العلوية.
وقد ازداد الاهتمام الشيعي بالتطوّرات في الجنوب السوري، بسبب التداخل الجغرافي والعسكري مع الحدود الشرقية اللبنانية. وهناك حديث متداول في الكواليس عن سعي إسرائيلي لتحويل الجنوب السوري إلى منطقة عازلة منزوعة السلاح، تمتد حتى مزارع شبعا والناقورة.
وبحسب مصادر مطّلعة، فإنه في الفترة التي تلت تثبيت النظام الحالي في دمشق، كان حزب الله يوحي بأن خروجه من سوريا سيكون نهائيًا. لكن هذه الرؤية تراجعت بفعل المتغيرات الميدانية، من حوادث السويداء إلى التفلت الأمني في الساحل السوري.
وبات واضحًا أن حكّام دمشق الحاليين يتعاملون مع الوضع بوصفه وظيفةً أمنية، لا مشروع حكمٍ جديد. وهذا ما دفع القوى الشيعية في لبنان إلى رفع منسوب الحذر، خصوصًا تجاه احتمالات التصعيد أو التدخل عبر الحدود الشرقية، إذا ما سارت تطورات الجنوب السوري بعكس ما يطمح إليه النظام.
التمدد الإسرائيلي في سوريا والمباركة الأميركية
يُعدّ سلاح حزب الله إحدى العقبات الأساسية أمام المشروع الإسرائيلي لفرض منطقة عازلة في الجنوب السوري ولبنان.
وما جرى في السويداء، من استغلالٍ إسرائيلي لمشكلة الأقليات في سوريا، ليس سوى بداية لمشروع أكبر، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد ألمح إليه حين قال في شباط الماضي، بعد لقائه بنيامين نتنياهو: “مساحة إسرائيل أصغر من قلم على الطاولة، ومكتبي هو الشرق الأوسط.”
وجاء هذا التصريح ردًا على سؤال حول احتمال ضمّ الضفة الغربية، ما يوضح أن التوسع الجغرافي الإسرائيلي هو خيار مدعوم أميركيًا.
ميدانيًا، كشفت تقارير عن توغلات إسرائيلية غير مسبوقة داخل الأراضي السورية، حتى وصلت قواتها إلى بلدة قطنا، على بُعد 11 كم من دمشق، مرورًا بقرى درزية في ريف العاصمة.
كما نفّذ الجيش الإسرائيلي عمليات تفتيش عن السلاح، وجرف أراضٍ لتثبيت مواقعه، ونشر بطاريات هاوتزر داخل الأراضي السورية — في سابقة منذ عام 1973 — ما يفتح الباب أمام احتمال شنّ هجوم بري على العاصمة دمشق.
وتُشير التقديرات إلى أن إسرائيل رفعت عدد جنودها في مناطق الجولان وجبل الشيخ والقنيطرة إلى نحو 45 ألفًا، ما يؤشر إلى نوايا استراتيجية بعيدة المدى.
ارتدادات أحداث السويداء: قلق داخلي في لبنان وتلاقي طوائف على الحذر
شكّلت أحداث السويداء الأخيرة مصدر قلق بالغ لدى العديد من المرجعيات السياسية والدينية في لبنان، نظرًا لما تحمله من مؤشرات على تفكك الجغرافيا السورية، واحتمالات امتداد التوتر الطائفي إلى الداخل اللبناني.
وفي هذا السياق، عُقدت في مطلع الأسبوع الحالي قمة روحية طارئة جمعت المرجعيات الكاثوليكية والأرثوذكسية في بكركي، خُصصت لتدارس تداعيات التطورات في الجنوب السوري، ولا سيّما السويداء، على الواقع اللبناني الهش. وقد ناقشت القمة مخاوف متصاعدة لدى الطوائف المسيحية والدروز من تكرار سيناريوهات الفوضى والفراغ في المناطق المتاخمة للبنان.
كما تطرّق السفير السعودي، خلال جولة له على المرجعيات الدينية السنية في بيروت وطرابلس، إلى الملف السوري، مؤكدًا أهمية الحوار والتلاقي بين المكوّنات اللبنانية في ظل الأوضاع الإقليمية الدقيقة.
في الموازاة، عُقد اجتماع سياسي استثنائي يوم الثلاثاء بين رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، والرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي، ناقشا خلاله تطورات الجنوب السوري، مؤكدَين ضرورة التمسك باستقرار لبنان ومنع انزلاقه إلى الصراعات الإقليمية.
ولعلّ التصريح الأبرز جاء على لسان النائب نديم الجميّل، الذي علّق على أحداث السويداء بالقول: “مزبوط، اللي عم بصير بالسويدا موجَّه للدروز، بس بلبنان الكل خايف… المسيحيين خايفين، الدروز خايفين، الأقليات خايفين، والشيعة اليوم خايفين أكتر من قبل.”
وتابع الجميّل قائلاً: “أنا ضد سلاح حزب الله، وبرفض بقاءه خارج الدولة، بس بقدر أتفهّم مبرر السلاح اليوم… مش بس لقتال إسرائيل، بل لمواجهة داعش، نتيجة غياب دور الدولة.”
يعكس هذا الخطاب العابر للطوائف تصاعد الشعور المشترك بالهشاشة الوطنية، ويُظهر أن الخوف لم يعد حكرًا على طائفة دون أخرى، بل أصبح قلقًا جامعًا يتقاطع مع ضعف الدولة ومحدودية قدرتها على احتواء الأزمات الإقليمية المتسارعة.
السيناريو المستقبلي والمايسترو الفاشل
ختامًا، ما يجري في المنطقة ليس مجرد محاولة لنزع سلاح “ميليشيات”، بل هو جزء من مشروع متكامل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط.
العراق يغرق منذ عام 2003 في انهيار اقتصادي واجتماعي، وصراعات مذهبية وعرقية.
سوريا تحوّلت إلى أرض خصبة للميليشيات الخارجة عن سيطرة الدولة، التي باتت عاجزة عن فرض الأمن أو إدارة التعدّد الإثني والديني.
لبنان يعيش على وقع دمار الحرب الأخيرة، وانهيار اقتصادي خانق، وفشل ذريع في تطبيق الإصلاحات، نتيجة لطبيعة النظام الطائفي العميق.
تحيط بهذه الدول الثلاث قوى إقليمية ذات طموحات توسعية وثقل ديني: تركيا السنية، إيران الشيعية، وإسرائيل اليهودية — وجميعها تحظى، بشكل أو بآخر، بدعم أميركي مباشر أو ضمني.
ويبدو أن الهدف يتعدى مجرد إعادة توزيع النفوذ، ليطال إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة، وإنهاء اتفاقية سايكس بيكو، وتحويل الدول القومية في الشرق الأوسط إلى كيانات طائفية وإثنية هشة.
لكنّ الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هذا المشروع الجيوسياسي، بل في أن يقوده “مايسترو فاشل”.
فالتجارب الأميركية في العراق وأفغانستان أثبتت أن واشنطن تملك القدرة على قلب الطاولة، لكنها تعجز عن إعادة ترتيبها. تركت خلفها الفوضى والدمار، وهو ما يُنذر بتكرار السيناريو ذاته في سوريا والعراق ولبنان — وربما يمتد إلى دول أخرى مجاورة أيضًا.


