الخميس, يونيو 12, 2025
24.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

حوكمة المحيطات: صراع بين الاستدامة البيئية وهيمنة القوى الاقتصادية

محمد التفراوتي 

جريدة الحرة ـ بيروت

شهدت الأشهر الأخيرة تطوراً حاسماً في حوكمة المحيطات، حيث اجتمعت الدول في مؤتمر محيطاتنا العاشر (OOC10) في بوسان بكوريا الجنوبية، وناقشت قضية استغلال المعادن في أعماق البحار في اجتماع الهيئة الدولية لقاع البحار (ISA) في جامايكا. رغم التصريحات الطموحة، فإن هاتين الفعاليتين سلطتا الضوء على التناقضات الجوهرية التي تحدد معالم حوكمة المحيطات في القرن الواحد والعشرين، والتي تستدعي إعادة النظر في النماذج التنموية، و النظم القانونية، وكذلك التوازنات الجيوسياسية.

 التعددية البيئية: النوايا الطيبة مقابل الغياب الفعلي للمساءلة

المعادن في أعماق البحار

في مؤتمر محيطاتنا العاشر (OOC10)، تم الإعلان عن التزام مالي قدره 9.1 مليار دولار من 277 تعهداً لدعم الاقتصاد الأزرق، مع التركيز على الاستدامة وحماية المحيطات. ورغم أن هذا المؤتمر نجح في جذب أكثر من 60 دولة، فإن النقطة الجوهرية تظل: هل كانت هذه الالتزامات تعبيراً حقيقياً عن التعددية البيئية؟

التعددية البيئية تروج لمفاهيم مثل “الاستدامة”، “الاقتصاد الأزرق”، و “المحيطات الرقمية”، مما يعكس النيات الطيبة للعديد من الدول في معالجة قضايا المحيطات. ومع ذلك، تبقى الآليات التنفيذية ضعيفة، مما يثير تساؤلات حول مدى فعالية هذه الالتزامات.

التحدي الأبرز يكمن في غياب المساءلة أي أن الطابع التطوعي للمشاركة في هذه المبادرات يعني غياب الآليات الملزمة التي تضمن تنفيذ الالتزامات.

ويكمن التناقض الأكبر في اعتماد حوكمة المحيطات على التكنولوجيا والابتكار مثل الذكاء الاصطناعي والحمض النووي البيئي، بينما يهمل دور المعرفة التقليدية للسكان الأصليين، الذين يعتبرون ركيزة أساسية في حماية البيئة البحرية. هذا ما يؤدي إلى فجوة معرفية تقلل من فعالية الإجراءات المتخذة.

 استغلال المعادن في أعماق البحار: جبهة جديدة للصراع بين الشركات والتعددية الدولية

الهيئة الدولية لقاع البحار

على الجانب الآخر، أظهرت الهيئة الدولية لقاع البحار (ISA) موقفاً صارماً في مواجهة مشاريع التعدين في أعماق البحار. حيث أعلنت شركة TMC عن خططها لاستغلال المعادن بعيداً عن إشراف الهيئة، متجاهلة القوانين الدولية، مما أثار جدلاً حاداً بين الشركات العالمية من جهة والدول والجماعات المحلية من جهة أخرى.

ويعدّ المنطق الاقتصادي وراء هذا الاستغلال بسيطاً، مع  تزايد الحاجة إلى المعادن النادرة في صناعة البطاريات والتقنيات الخضراء. لكن الأهم من ذلك هو أن هذه الأنشطة تعرّض البيئة البحرية لمخاطر هائلة، بما في ذلك تدمير الأنظمة البيئية البحرية في أعماق المحيطات.

هذه القضية تكشف عن الفجوة القانونية في الأنظمة الدولية، حيث تظهر هيمنة الشركات الكبرى على السياسات البيئية، متجاوزةً قواعد الهيئات الدولية مثل  ISA، مما يطرح تساؤلات حول سيادة القانون الدولي وقدرة الدول والمجتمعات على فرض قواعد تنظم استغلال الموارد البحرية.

الفجوة القانونية والاقتصادية: تساؤلات حول العدالة البيئية

من الناحية القانونية، تُعدّ اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار الأطر الأساسية التي تنظم استخدام المحيطات. لكن هذه الاتفاقيات تُظهر هشاشتها في مواجهة ضغوط الشركات الكبرى، مما يُعمق من التحديات القانونية في حوكمة المحيطات.

من الناحية الاقتصادية، تواجه حوكمة المحيطات صراعاً بين الاقتصاد الأزرق المستدام و الاقتصاد الاستخراجي. ورغم محاولات دمج المفاهيم البيئية في الاقتصاد الأزرق، إلا أن غياب استراتيجيات فعّالة لتوزيع الموارد بشكل عادل يظل عائقاً رئيسياً، خصوصاً في الدول النامية التي تجد نفسها تحت ضغوط اقتصادية هائلة.

الجيوسياسية: محيطات محكومة بالقوى الكبرى

الاقتصاد الأزرق والاسغلال الاستخراجي

المحيطات أصبحت ساحة صراع جيوسياسي جديدة. القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين تتحكم في تكنولوجيا التعدين البحري من أجل تأمين موارد المعادن الضرورية لتقنيات العصر الأخضر. في هذا السياق، تُظهر هذه السيطرة الصراع الجيوسياسي على النفوذ في المحيطات.

الدول الجزرية الصغيرة مثل دول المحيط الهادئ وأميركا اللاتينية، التي تمثل شعوبها خط الدفاع الأول عن المحيطات، تجد نفسها تحت ضغط شديد. هذه الدول تُعتبر رهينة في ظل تحالفات مناخية وعلاقات دولية تتناقض مع مصالحها البيئية.

إن النفوذ الجيوسياسي يجعل المحيطات ساحة صراع بين المصالح الكبرى على حساب المجتمعات المحلية، مما يُعقّد عملية التفاوض على أطر حوكمة فعّالة توازن بين الحقوق البيئية و السيادة الوطنية.

الحوكمة في مفترق طرق

تتطلب حوكمة المحيطات اليوم إعادة التفكير في النظام القائم الذي يقسم المصالح بين الاقتصاد الأزرق والاستغلال الاستخراجي. الفجوات القانونية، الاقتصادية، والجيوسياسية تكشف عن هشاشة النظام البيئي للمحيطات وعدم تكامل السياسات الدولية مع الالتزامات البيئية الحقيقية.

ما لم تبنى الحوكمة البحرية على أسس أكثر عدالة، بما يشمل تطوير آليات قانونية إلزامية، وتوسيع نطاق المعرفة البيئية المحلية، وتعزيز التعاون بين الدول، فإن المحيطات ستظل ساحة صراع مستمر بين المصالح الاقتصادية و العدالة البيئية.

الحفاظ على المحيطات كتراث مشترك للإنسانية سيظل رهينة الهيمنة الاقتصادية ما لم نتحرك نحو نموذج حوكمة أكثر توازناً وشمولية للتحديات الراهنة التي تواجه حوكمة المحيطات – وأبرزها التحديات البيئية، القانونية، الاقتصادية، والجيوسياسية –  من أجل مستقبل مستدام للمحيطات.

https://hura7.com/?p=53039

 

الأكثر قراءة