الحرة بيروت
بقلم: محمد سعد عبد اللطيف
في مجتمعات فقدت بوصلتها، لم يعد المثقف مرآة للوعي الجمعي، بل بات هدفًا مشروعًا للرجم اللفظي، والاستخفاف، والتقزيم. في هذه البيئات المغلقة، صار مَن لا يقرأ يُنظّر، ومن لا يفقه يُنصّب نفسه ناقدًا، وتحولت مقاهي “الفيسبوك” إلى منابر يعتليها من لم يقرأ كتابًا يومًا، ليمنح نفسه لقب “المفكر” أو “الخبير”.
تخيل أن تسير في حقل ألغام من الأصوات الجاهلة، كلّها تمسك بميزان لتقيس به عقلك، وعمقك، وموهبتك، دون أن تفهم شيئًا مما تفعله أنت أصلًا.
هذا ليس مشهدًا من رواية خيالية، بل واقع يعيشه كل مبدع صادق في بلادنا اليوم.
وتزداد المأساة سخرية حين ندخل إلى عالم “النقد” الحديث.
هناك لكل فن أو علم ناقد، هذا طبيعي.
لكن في عالم الحمقى، يظهر ما يمكن تسميته بـ”نقّاد المقاهي”، أولئك الذين قرأوا مقالًا مبسطًا عن فيلسوف أو عالم، فيسمحون لأنفسهم بكتابة “نقد شامل” على أعماله، دون أن يفتحوا له كتابًا واحدًا.
فتجد من يهاجم نظريات عالم له سنوات من البحث والدراسة، فقط لأن تغريدة لم تعجبه، أو لأن عنوان مقال أزعجه. صار يكفي أن ترتشف قهوة على “حائطك الأزرق” وتكتب: “فلان يفتقر للعمق”. وهكذا، تُنهي على سيرة فكرية كاملة، وتُصدر حكمًا بلا جهد أو دراية.
تذكرت هذا كله حين عدتُ في ذاكرتي إلى قصة قصيرة قرأتها قبل سنوات، بعنوان “هوس العمق”، للروائي الألماني المنعزل باتريك زوسكيند، صاحب رواية “العطر” الشهيرة.
لم تكن القصة طويلة، بل أشبه بوخزة، أو شظية بقيت عالقة في الروح.
تحكي القصة عن فتاة شابة، موهوبة، تقيم معرضها الأول للرسم. يكتب أحد النقاد تعليقًا مقتضبًا يقول فيه: “أعمالك مثيرة للاهتمام، لكن ينقصك العمق”.
تتحوّل هذه الجملة إلى لعنة تلاحقها، فلا ترى بعد ذلك شيئًا في عيون الآخرين سوى صدى هذه العبارة: “موهوبة، لكنها تفتقر للعمق”. تُفتّش في أوراقها القديمة، تشكّك في نفسها، يتآكلها سؤال واحد: “لماذا لا أملك العمق؟”. وينتهي بها المطاف إلى مأساة، تلقي بنفسها من برجٍ عالٍ، محاولة إسكات أصوات الآخرين التي لم تتوقف عن طرق حواسها.
ما الذي أراد قوله باتريك؟ ربما أراد أن يفضح تلك اللحظة الخبيثة التي يُسلّط فيها المجتمع سكينًا على رقبة المبدع، باسم “النقد”، فيقتل فيه روحه لا عمله. أراد أن يقول إننا عندما نضع إنسانًا في قالبٍ واحد، فإننا نلغيه، نمحو كل تعقيداته، ونسحق هشاشته التي لا يراها أحد. وكأن “العمق” صار صنمًا يجب السجود له، أو تهمة جاهزة نلصقها بمن لا يشبهنا.
في مجتمعاتنا، هذه الحالة تتكرّر بأشكال أكثر قسوة.
المثقف الحقيقي اليوم يعيش حصارًا لا يختلف كثيرًا عن بطلة زوسكيند، لكنه لا يحتاج برجًا ليقفز منه. يكفيه الدخول إلى فضاء عام ليرى كم من الحمقى صاروا “خبراء”، وكم من الجهلة يتصدرون المشهد، ويصدرون الأحكام، ويبتلعون كل مساحات التفكير.
نحن في زمن تراجعت فيه المعرفة لصالح الضجيج، وتحوّلت فيه المنابر الثقافية إلى سيرك استعراض، وفقدت الكلمة هيبتها.
لقد كانت مأساة الرسامة مأساة فردية، لكنها في الحقيقة تجسيد لظاهرة إنسانية عامة: حين نرى أنفسنا كما يرانا الآخرون، لا كما نشعر فعلاً أننا عليه، وحين نخضع لابتزاز الصورة المختزلة التي تُفرض علينا.
على النقيض من بطلة “هوس العمق”، كان فان غوخ يسمع ما هو أسوأ، لكنه لم يفقد إيمانه بذاته. ولعل الفارق الجوهري بين من يكمل الطريق ومن يتوقف عند أول سهم، هو الثقة بالنفس. لكن حتى هذه الثقة، لا تصمد طويلًا إن كنت محاطًا بجدار من الجهل والصوت العالي.
لذا، يبقى السؤال الأخير معلقًا: هل يمكن لصورة الإنسان الداخلية أن تنجو من تشوهات العيون المحيطة به؟ أم أن الجميع، مهما أوهم نفسه بالقوة، ينهار حين يتحول “العمق” إلى وصمة، وتتحول الألسنة الجاهلة إلى مطارق تقرع الوعي دون رحمة؟
*محمد سعد عبد اللطيف، مصر – كاتب وباحث مصري في الشؤون الجيوسياسية