جريدة الحرة
بقلم: جان كلود سعاده – خبير في التواصل الإستراتيجي
خمس سنوات ونصف مرّت على انكشاف الأزمة الماليّة والمصرفيّة المتعمّدة ومازالت الأحداث والكوارث والحروب تتراكم وشراء الوقت واللعب على الكلام هو السائد. لقد اختبرنا جميعاً حجم الأزمة وسطوة المجموعات المستفيدة منها والتي نجحت حتى الآن في تحييد القضاء وتجميد القوانين اللبنانية السارية وصولاً الى محاولة تحميل المودعين فاتورة نصف قرن من الحرب والسلم والهدر والفساد.
من ناحية أخرى، لقد تأكد لنا وللأسف، حقيقة ما كانت تضمره الحكومات للمودعين من خلال خططها المتتالية و”المسرّبة”، وكذلك اختبرنا الإنفصال التام عن واقع الناس ومشاكلهم الذي تعيشه مجموعة كبيرة من السياسيين والنافذين بعد أن رتّبوا أمورهم وهرّبوا ثرواتهم. من هنا نجدد طرحنا لخارطة الطريق هذه والتي تمّ عرضها على الجهات المعنيّة لعلّنا نجد طريقة لإنصاف المودعين وإخراج البلد من إحدى أكبر الأزمات في تاريخه.
خمس سنوات ونصف ضاعت من عمر اللبنانيين ومن مستقبل البلد ومازالت المنظومة تشتري الوقت للهروب من المحاسبة مع تجاهل كامل لحقوق وحياة مليون لبناني احتُجزت أموالهم في فخ مُحكم ومُدبّر. لقد أصبح من المستحيل أن يستمر المودع بالعيش على مبالغ قليلة يستحصل عليها من التعاميم، فهي لا تكفي التأمين الصحي ولا الدواء ولا فواتير الخدمات الأساسية ولا المواصلات. كما أن الودائع المحتجزة في المصارف منذ خمس سنوات خسرت حتى الآن جزءاً كبيراً من قيمتها الفعليّة بفعل التضخّم وتفويت فرص الإستثمار، بينما تخطط مشاريع الحكومات المتعاقبة لاستمرار احتجازها إلى 10 أو 20 عاماً أخرى مما يخفض قيمتها الفعليّة إلى ما دون قيمة الشيك المصرفي الذي يضطر البعض إلى بيعه هذه الأيام.
كان الحاكم بالإنابة قد اقترح بُعيد تسلّمه المسؤولية ربط الدخول في حل مسألة الودائع بكشف أصحاب الحسابات عن مصدر أموالهم، وهذا ما نطالب به منذ سنوات. الآن هناك حاكم جديد لمصرف لبنان ولا نعرف عن قناعاته وتوجهاته سوى القليل. لكن المؤكّد هو ضرورة البدء من مكان ما و”فكفكة” الأزمة في مقابل الاستمرار في تعقيد المشكلة وربطها بالإصلاح الشامل للدولة اللبنانية وحلّ جميع العقد السياسيّة ومشاكل المنطقة، وبذلك تضيع الحقوق ويتمّ القضاء على أصحابها.
من ناحية أخرى، لا يمكن للنظام المصرفي اللبناني (مصرف لبنان والمصارف التجارية) التملّص من الإيفاء بديونه إلى ما لا نهاية والادعاء أنه لا توجد أموال كافية لإعادة الودائع. فمصرف لبنان والمصارف التجارية ما زالوا يملكون، بعد كل ما تمّ تهريبه إلى الخارج والداخل، عقارات وشركات تفوق قيمتها الـ20 مليار دولار، إضافة إلى أكثر من 29 مليار دولار قيمة الذهب، وموجودات سائلة قابلة للتصرّف بالدولار الكاش تفوق 18 مليار دولار. بالتالي هناك على أقل تقدير 65 مليار دولار أصول وموجودات سائلة في القطاع المصرفي، وهذا دون التطرق إلى ثروات وحسابات وأملاك مساهمي المصارف ومدرائها في لبنان والخارج، والذين هم مسؤولون بأموالهم الخاصة إذا ما ثبت قيامهم بمخالفات لأصول العمل المصرفي أو جرائم ماليّة. وكذلك لا يتضمّن هذا الرقم الأموال المختلسة والمنهوبة والموهوبة والتي يمكن استعادتها من قِبل الدولة اللبنانية إلى صندوق خاص بالحل المالي الشامل.
إنّ الهدف الأساسي للاحتفاظ بمحفظة من الأصول واحتياطي من الذهب هو تمتين ملاءة النظام المصرفي وتمكينه من مواجهة الخضّات والأزمات. والثابت أن الأزمة الحالية هي أصعب ما واجهه لبنان ومواطنوه حتى الآن بما فيها الحرب الأهلية المقيتة. لذلك نقول أن الحلّ ممكن والنظام المصرفي قادر على إعادة الودائع بدءاً بالمشروعة منها وإعادة بناء الثقة والتعافي المالي تدريجيّاً.
من هنا، وبهدف كسر الجمود، والخروج من سلسلة الخطط الاعتباطية التي لا تستند إلى أي منطق أو قانون، نقترح خارطة طريق بديهيّة تهدف إلى البدء من المكان الصحيح واستعمال الموجودات والأصول التي هي من حق المودعين (الشرعيين) وفكفكة عقدة الودائع والبدء بحلها تدريجيّاً خلال فترة قصيرة، بينما يمكن للجهات القضائية المختصّة متابعة التحقيقات والملاحقات في لبنان والخارج.
حلّ مسألة الودائع
- إلغاء السريّة المصرفيّة بالكامل وتكليف شركة عالميّة متخصصة بأن تقوم بالتدقيق الجنائي في جميع الحسابات المصرفية وحسابات المؤسسات العامّة والوزارات.
- تشكيل محكمة ماليّة خاصة مع مشاركة دوليّة للتحقيق في أسباب وتشعبات الأزمة المالية ومعالجة مسألة الودائع وأيّة ارتكابات ممكن أن تكون قد حصلت في القطاع المصرفي وذلك بتطبيق القوانين اللبنانية الموجودة.
- فصل الودائع المشروعة عن الأموال المشكوك بمصادرها أو بحركتها ووجهة استعمالها.
- البدء بدفع الودائع المشروعة فوراً من الموجودات السائلة وأصول النظام المصرفي (مصرف لبنان والمصارف التجارية) بما فيها الذهب. يمكن لمصرف لبنان أن يضع آليّة لتقسيط هذه الودائع التي تم التثبت من شرعيتها دون الحاجة الى استصدار قوانين جديدة وذلك خلال فترة قصيرة.
- تحوّل الودائع والحسابات المصرفيّة الأخرى والتي تحوم حولها إشكاليات، إن من ناحية شرعيّة المصدر أو حصولها على فوائد فاحشة أو ارتباطها بجرائم ماليّة وفساد، إلى المحكمة الماليّة الخاصّة لتبتّ بأمرها تدريجيّاً أو للتوصّل إلى تسويات ماليّة مع أصحابها. كما يمكن، بناءً على التدقيق الجنائي، ملاحقة أصحاب الحسابات التي أقفلت وسحبت نقداً أو تم تحويلها إلى الخارج في حال ثبت ارتباطها بجرائم ماليّة.
- يساهم مصرف لبنان في تحمّل “عامل الوقت” عن المودعين وخصوصاً المتقاعدين عبر استعمال جزء من أصوله وموجوداته، على أن تعود إليه احطياطات الذهب والعملات من مداخيل الصناديق المنوي إنشائها. يحتفظ مصرف لبنان بالقدر الكافي من الأموال والذهب لحسن سير أعماله.
بناء قطاع مصرفي للمستقبل
- إعادة رسملة مصرف لبنان وتحديث قوانينه بما يتوافق مع رؤية ودور جديدين للقطاع المصرفي اللبناني ولتمكينه من إدارة هذا القطاع بفعالية أكبر والحؤول دون تكرار الممارسات السابقة.
- دمج الهيئات الرقابيّة في مصرف لبنان بمؤسسة ضمان الودائع وتحويلها إلى مؤسسة رقابية ضامنة مع ذراع تنفيذيّة يمكّنها من التدخل عند الحاجة، وخلال وقت قصير جداً، لمراقبة المصارف ووضع اليد عليها إذا استوجب الأمر. تضمن هذه المؤسسة الجديدة الودائع حتى سقوف تفوق السقوف المعتمدة في أوروبا وأميركا بهدف إعادة الثقة إلى القطاع المصرفي. وتموّل هذه المؤسسة من اشتراكات تدفعها المصارف كأقساط تأمين، وتكون هذه الأقساط أو الكوتا عُرضة للارتفاع عند حصول أية مخالفات من قِبل مصرف أو مجموعة من المصارف وذلك لتحفيزها على تطبيق أصول الحوكمة والعمل المصرفي السليم.
- إعادة هيكلة المصارف والتفاوض مع مصارف أجنبية وعربية رائدة لدخول السوق اللبنانيّة أو لتكوين شراكات مع المصارف اللبنانية القابلة للاستمرار بهدف إعادة الخدمات المصرفية في أقرب وقت ممكن وممارسة النشاط المصرفي الضروري للاقتصاد من تسليف وحوالات وخدمات مصرفية أخرى.
- وضع قوانين وأصول لإنشاء المصارف الرقميّة (Digital Banks) المستقلّة أو التي تتبع شركات الاتصالات لتسهيل معاملات المواطنين والمغتربين أو الأجانب الذين يرغبون في خدمات مالية رقميّة حديثة، مع التشدد التام في القواعد والقوانين التي تكافح تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. (تطوير للقانون ٤٤ من سنة ٢٠١٥ لسدّ الثغرات ومواكبة التطوّر التكنولوجي).
- إنشاء عملات رقميّة للمصرف المركزي (BDL/CBDC) فيمكن لمصرف لبنان إصدار عملته الرقمية الخاصّة والمضمونة بموجوداته من الذهب. هكذا يكون في تصرّف مصرف لبنان ما يعادل 20 أو 25 مليار دولار من العملات الرقميّة المشفّرة والمضمونة القيمة مع احتفاظه بموجودات الذهب. تكون قيمة وحدة الـ BDLDC دولار أميركي واحد وهي مقبولة للاستعمال في جميع التعاملات داخل لبنان مع وضع سقف وحدّ أقصى للمحفظة الرقمية التي يمتلكها أي شخص أو فرد أو جهة واحدة لمنع احتكار هذه العملة الرقمية. ويمكن استعمال هذه العملة الرقمية لردّ جزء من الودائع المشروعة. ومع تحسّن الوضع الاقتصادي يمكن لمصرف لبنان إعادة شراء وجمع هذه العملات الرقميّة المضمونة بالذهب وإطلاق أنواع أخرى من العملات الرقمية CBDC لو أراد ذلك.
- إعادة تكوين وزيادة إحتياطي الذهب في مصرف لبنان عبر شراء كميات إضافية منه وذلك من مداخيل الصناديق المقترحة لإدارة واستثمار أصول الدولة والأموال المحصّلة من مكافحة الفساد والسرقات التي تتمكن الدولة اللبنانيّة من استعادتها من الداخل والخارج. وبذلك يساهم مصرف لبنان في تحمّل “عامل الوقت” عن المودعين على أن تعود إليه إحتياطات الذهب والعملات التي يكون قد استعملها من مداخيل الصناديق.