جريدة الحرة
جريس حنينه، خبير محاسبة مجاز – محلف لدى المحاكم
في قلب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ عام 2019، تبرز المصارف كمحور رئيسي في رسم ملامح المستقبل المالي للبلاد. فبين التحديات الكبيرة التي يواجهها القطاع المصرفي والقرارات الحكومية التي تصدر بشكل متسارع، يبقى التساؤل الأهم: هل سيكون النظام المصرفي قادراً على النهوض، أم أن السياسات المتبعة ستواصل ضربه في مقتله؟
من خلال سلسلة من القوانين والإجراءات التي أُعلنت في السنوات الأخيرة، يسعى لبنان إلى إصلاح نظامه المصرفي المتأزم. لكن، هل استطاعت هذه القوانين أن تجلب الاستقرار؟ وهل تمكّن لبنان من تحقيق الشفافية المطلوبة بعد سنوات من السرية المصرفية الفاضحة؟ من قانون “الكابيتال كونترول” إلى خطة “الإنقاذ الخارجي” وصولاً إلى “إعادة هيكلة المصارف”، تبقى علامات الإستفهام قائمة حول الفعالية الحقيقة لهذه الإجراءات. يسلط هذا التقرير الضوء على التحولات القانونية والمصرفية في لبنان، ويطرح التساؤلات الحاسمة حول المصير الذي ينتظر القطاع المصرفي ومصير ودائع اللبنانيين.
القضاء اللبناني بين عجز المحاسبة وتواطؤ السلطة
66 شهراً مضت على أزمة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ولم يباشر أي من أفراد السلطة القضائية تحقيقات جدية بجرم النيل من مكانة الدولة المالية، وفقاً لمفهوم النبذة السادسة من قانون العقوبات. فقد تحمّل حاكم مصرف لبنان الأسبق، رياض سلامة، وحده وزر الملاحقات، وتوقّف بتاريخ 3 أيلول/سبتمبر 2024، أي بعد 58 شهراً على اندلاع الأزمة. وقد وُجهت إليه تُهم متعددة، منها: تبييض الأموال، واختلاس المال العام، وإساءة استعمال السلطة، والإثراء غير المشروع، وهدر المال العام. جميعها قد تُعدّ أفعالاً فردية، لا ترقى إلى الجرائم العامة بمفهوم النبذة السادسة من قانون العقوبات، مثل زعزعة الثقة في متانة النقد الوطني وسندات الدولة، والتحريض على سحب الودائع وبيع السندات.
أما آخر تطور في هذا الملف، فقد سُجل لدى قاضي التحقيق الأول في بيروت، بلال حلاوي، الذي أصدر قراراً ظنياً بحق رياض سلامة في 8 نيسان/أبريل 2025، أي بعد 66 شهراً على الأزمة، كما أصدر مذكرتين غيابيتين بحق كل من مروان جو عيسى الخوري وميشال تويني، في القضية المعروفة إعلامياً بـ”ملف الاستشارات” المرتبط بمصرف لبنان، وأحال الملف إلى محكمة الجنايات في بيروت. في المقابل، لا تزال ملفات عدة عالقة أمام محاكم مختلفة. ولو أن هذه الملاحقات أُجريت بالجدية العلمية والسرعة المطلوبة، لكان من الممكن الحد من التدهور النقدي، واستعادة ثقة المواطنين بالليرة اللبنانية.
في المقابل، فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في الولايات المتحدة (OFAC) عقوبات على رياض ورجا سلامة في عام 2021، لدورهما في فساد مالي هدّد الاقتصاد اللبناني، ما أدى إلى تجميد أصولهما في النظام المالي الأميركي، ومنع المؤسسات الأميركية من التعامل معهما. كما فرض الاتحاد الأوروبي في العام نفسه عقوبات عليهما، شملت تجميد الأصول ومنع السفر إلى دول الاتحاد، واصفاً إياهما بالمسؤولين عن الفساد وخرق حقوق الإنسان.
وفي الداخل، يستمر القضاة في لبنان بالمطالبة بإقرار قانون استقلالية القضاء، وهو ما أقدم عليه مجلس الوزراء عبر تبنّي مشروع قانون في 2 أيار/مايو 2025. وكأن تفعيل عمل مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي لا يكفيان لتحرير عمل القضاة من تدخلات السياسيين وأصحاب النفوذ. وقد لقي هذا المشروع إنتقادات من نادي قضاة لبنان قبيل صدوره، معتبراً أنه لا يحقق الاستقلالية المنشودة، ولا سيما لجهة الطبيعة القانونية لمجلس القضاء الأعلى، وطريقة تعيين أعضائه، وآليات تشكيلات القضاة وتقييمهم. فضلاً عن تضمنه مواد تتعارض مع الدستور والتوصيات الصادرة عن كل من لجنة البندقية ومنتدى العدالة. مع ذلك، إجتمع مجلس القضاء الأعلى في 5 أيار/مايو 2025، وثمّن ما قام به وزير العدل ومجلس الوزراء من خطوات على طريق إقرار المشروع.
السرية المصرفية: الزمن يمر، والمحاسبة مؤجلة
مرّت 48 شهراً دون الإستفادة من أي تعديل طرأ على قانون السرية المصرفية، كان آخرها بتاريخ 24 نيسان/أبريل 2025. وذلك بالرغم من أن إطلاق عملية تدقيق جدية لا يتطلب معرفة أصحاب الحسابات المرقمة أو مستأجري الخزائن الحديدية، وفقاً لمفهوم المادة الثالثة من قانون السرية المصرفية الصادر بتاريخ 3 أيلول/سبتمبر 1956. كما أنه من غير المجدي الإصرار على تحديد مفعول رجعي لكشف أسماء أصحاب الحسابات التي لا تشوبها أي شبهة، في سياق التجاذبات السياسية العقيمة.
لقد حدّد المشرّع اللبناني حالات معينة تُرفع فيها السرية المصرفية، وهي:
- بموافقة صاحب الحساب، أو في حالة الإفلاس، أو في حال وجود دعوى قضائية بين المصرف والعميل، وذلك إستناداً إلى المادة الثانية من قانون السرية المصرفية الصادر بتاريخ 3 أيلول/سبتمبر 1956،
- بطلب من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أو من القضاء المختص، إستناداً إلى قانون الإثراء غير المشروع رقم 154/1999،
- عبر تخويل هيئة التحقيق الخاصة تجميد الحسابات المشبوهة ورفع السرية عنها، إستناداً إلى قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رقم 44/2015،
- لتبادل المعلومات للأغراض الضريبية، وفقاً للقانونين رقم 55 و60 الصادرين عام 2016،
- أمام القضاء الجزائي في إطار التحقيقات الجنائية المتعلقة بجرائم معينة، وفقاً لقانون العقوبات والقوانين الجزائية الخاصة،
- للسماح للإدارة الضريبية بالاطلاع على حسابات المكلّفين، إستناداً إلى قانون الإجراءات الضريبية رقم 44/2008،
- في قضايا الفساد، إستناداً إلى قانون مكافحة الفساد في القطاع العام رقم 175/2020،
- لتمكين مصرف لبنان من الاطلاع على حسابات العملاء، في سياق تطبيق إجراءات قانون الكابيتال كونترول رقم 214/2021.
أما بشأن التدقيق الجنائي، فقد مضت 20 شهراً على صدور التقرير الأولي بتاريخ 7 آب/أغسطس 2023، والذي شاب صدوره مخالفة صريحة تمثلت بعدم التزام شركة “ألفاريز ومارسال الشرق الأوسط” ببنود الإتفاقية الموقعة مع الدولة اللبنانية، خاصة لناحية إستخدام كافة وسائل البحث والتحقيق والموارد المتاحة. والأخطر من ذلك هو غياب أي إستفادة فعلية من نتائج هذا التدقيق، سواء عبر التوسع فيه أو إطلاق ملاحقات قانونية.
في موازاة ذلك، تبقّى 72 شهراً فقط كمهلة قانونية للتحقيق في أي ملف مرتبط بأزمة 17 تشرين الأول/أكتوبر، إذ إن المادة 19 من قانون التجارة البرية تحدد مهلة الإحتفاظ بالدفاتر التجارية بعشر سنوات.
من إنترا إلى صندوق النقد: السلطة التشريعية تستنسخ الأزمات
ما زالت السلطة التشريعية حتى تاريخه مستترة، تتخبّط بين مطرقة صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي، اللذين باتت نواياهما تجاه لبنان معروفة، وبين سندان حماية العصابات التي هدرت المال العام، على الأقل تحت حجج إعادة الإعمار. والمفارقة أن هذه الجهات نفسها قد تكون اليوم متعهّدة مشاريع الطاقة الشمسية، وإعادة إعمار البنى التحتية، والمياه، والزراعة، والشأن الاجتماعي وغيرها. وكأن مشهد نهاية الحرب الأهلية عام 1990 يُعاد اليوم، لتبدأ معه سلسلة جديدة من القروض كمؤتمرات باريس وسيدر.
ويبقى السؤال: لماذا لا تطرح الحكومة خططاً واضحة للشراكة مع القطاع الخاص في إدارة أصول الدولة، وقد أثبتت الإدارة الذاتية فشلها عالمياً؟
أما عن أزمة بنك إنترا، فقد إستغرق إصدار آخر قانون يتعلق بها 13 شهراً، وذلك في تشرين الأول/أكتوبر 1966، عبر إنشاء “المؤسسة الوطنية لضمان الودائع” بموجب المرسوم رقم 11564 بتاريخ 30 كانون الأول/ديسمبر 1968. علماً أن قانون إنترا رقم 2 صدر بتاريخ 16 كانون الثاني/يناير 1967، أي بعد 3 أشهر فقط من تاريخ الأزمة التي تحمّل وزرها يوسف بيدس منفرداً. وقد خلت الساحة حينها للمصارف اللبنانية المنافسة، مثل:
- بنك عوده (تأسّس عام 1830)،
- فرنسبنك (تأسّس عام 1921)،
- بنك بيروت BBAC – (تأسّس عام 1948)،
- بنك البحر المتوسط Bank Med – (تأسّس عام 1948).
كما خلت الساحة للمصارف الأجنبية الرائدة، ولا سيما تلك التي كانت تنشط في لبنان، مثل:
- بنك باريس ولندن (Banque de Paris et des Pays-Bas – Paribas) بدأ نشاطه عام 1872،
- بنك فرنسا والبلاد الشرقية (Banque de France et des Pays d’Orient) بدأ نشاطه عام 1919،
- كريدي سويس (Credit Suisse) بدأ نشاطه أواخر عشرينيات القرن الماضي،
- سوسيتيه جنرال (Société Générale de Banque au Liban – SGBL) بدأ نشاطه عام 1951.
عندما انهار بنك إنترا في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1966، تحرّك مصرف لبنان والحكومة اللبنانية بصورة انتقائية. فقد أعلن رئيس الحكومة رشيد كرامي، في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1966، أن مصرف لبنان لن يؤمّن السيولة لإنترا، واعتُبر البنك متوقفاً عن الدفع. في المقابل، خصّصت الدولة مبلغاً ضخماً (حوالي 800 مليون ليرة لبنانية، ما يعادل 267 مليون دولار أميركي بحسب سعر الصرف الرائج آنذاك) لضخ السيولة عبر مصرف لبنان في بقية المصارف المتعثّرة، كإجراء إنقاذ عام للقطاع المصرفي.
كذلك منحت الحكومة حينها بنوكاً أخرى “قروضاً طارئة بضمانات مصرفية”، بينما أبقت أبواب بنك إنترا مغلقة، ووُضعت فروعه تحت حراسة أمنية.
وبعد تجاوز الأزمة، شرعت الدولة بإجراءات لمعالجة تداعيات إنهيار إنترا. فقد أقرت الحكومة تشريعات عام 1967 لحماية حقوق المودعين والدائنين، بما في ذلك دفع تعويضات محدودة للمودعين الصغار (أي أصحاب الحسابات التي لا تتجاوز قيمتها 15,000 ليرة لبنانية، ما يعادل 5,000 دولار أميركي)، بمجموع يقارب 50 مليون ليرة لبنانية (نحو 17 مليون دولار أميركي).
أما الودائع والديون الكبرى، فتمّت إعادة هيكلتها بدلاً من تسويتها نقداً، إذ تقرّر تأسيس شركة قابضة جديدة باسم “إنترا للاستثمار”، تم فيها تحويل أرصدة كبار المودعين والدائنين إلى أسهم في الشركة الجديدة. وبذلك، إستحوذت هذه الشركة على الأصول القابلة للتصفية لبنك إنترا.
حتى تاريخه، لا تزال وزارة المالية تمتلك 10%، ومصرف لبنان 35% من أصول بنك إنترا المتبقية، وأبرزها: شركة طيران الشرق الأوسط، وكازينو لبنان، ومبنى اللعازرية، وموقف السيارات التابع له في وسط بيروت، بالإضافة إلى أكثر من 1,000 قطعة أرض تمثّل نحو 43 مليون متر مربع في مختلف المناطق اللبنانية، وفاينانس بنك ش.م.ل.، أحد المصارف غير النشطة تجارياً وفقاً لمعايير السوق، ما يجعل من مصرف لبنان مستثمراً غير مباشر في القطاع المصرفي. وهذه إحدى النقاط الجوهرية التي يستند إليها هذا المقال للدعوة إلى تكرار نماذج المعالجة السابقة.
نعم، لقد تلقّى صغار المودعين مساعدة مالية مباشرة من الخزينة بشكل غير متساوٍ، على شكل تعويضات مالية صغيرة، بينما حُرم كبار المودعين والدائنين من حقوقهم النقدية، وحصلوا بدلاً منها على أسهم، أي حصص ملكية في الشركة المعاد رسملتها. وقد نجحت هذه الإجراءات في الحفاظ على إستقرار سعر صرف الليرة اللبنانية عند نحو 3 ليرات مقابل الدولار الأميركي.
أزمة 17 أكتوبر/تشرين الأول وتحديات حماية المودعين في لبنان
خلال أزمة 17 أكتوبر/تشرين الأول، تكرر مشهد فقدان الثقة الكاملة بالنظام المصرفي، ليشمل هذه المرة جميع السلطات ومصرف لبنان، في ظل فشل المؤسسة الوطنية لضمان الودائع في حماية حقوق المودعين، وذلك نتيجة لغياب إدارة فعّالة للأزمة. وصلت تداعيات الأزمة إلى إنهيار سفينة الوطن النقدية، عبر تدهور غير مسبوق في قيمة الليرة اللبنانية (من 1507.50 ليرة إلى أكثر من 95,000 ليرة مقابل الدولار الأميركي). وتبقى الرؤية ضبابية للخبراء عند تحديد تداعيات الأزمة وتوقع مصير النقد الوطني.
فبعد مرور حوالي 18 شهراً على الأزمة، صدر قانون ضبط التحاويل المالية (الكابيتال كونترول) – القانون رقم 210/2021، لتنظيم عمليات السحب والإيداع وتحويل الأموال إلى الخارج. كما فرض القانون قيوداً مؤقتة على السحوبات النقدية وتحويل الأموال إلى الخارج لحماية الودائع المتبقية في البنوك اللبنانية، بالإضافة إلى فرض ضوابط على السحوبات بالعملات الأجنبية وتحديد سقوف للتحويلات.
وبعد حوالي 18 شهراً على الأزمة، صدر قانون إستعادة الأموال المنهوبة – القانون رقم 209/2021، الذي تضمن الكشف عن حسابات السياسيين والمسؤولين وإلغاء السرية المصرفية، كما شمل ملاحقة الأموال المهربة أو المكتسبة بطرق غير مشروعة.
وبعد حوالي 29 شهراً على الأزمة، صدر تعديل قانون النقد والتسليف -المرسوم 13513/1963، الذي منح المصرف المركزي صلاحيات واسعة لإدارة الأزمة، بما في ذلك ضخ السيولة ودعم سعر صرف الليرة عبر أدوات غير تقليدية.
وبعد حوالي 30 شهراً على الأزمة، صدرت خطة التعافي المالي لعام 2022. رغم أنها لم تُقرّ كقانون رسمي، إلا أنها شكّلت الإطار التنفيذي للحكومة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. تضمنت الخطة:
- تخفيض قيمة الودائع الكبيرة لضمان استمرارية القطاع المصرفي،
- زيادة رأس مال البنوك لتعزيز قدرتها على مواجهة الأزمة،
- توحيد سعر الصرف على أساس سعر منصة صيرفة لتحسين الشفافية والاستقرار.
وبعد حوالي 38 شهراً على الأزمة، صدر قانون الموازنة العامة لعام 2022 – القانون رقم 219/2022، الذي تضمن إجراءات تقشفية لخفض العجز. كما أقرّ القانون خطة للتعافي الاقتصادي تهدف إلى إعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي، بما في ذلك خفض الودائع الكبيرة (Haircut).
تزامناً صدر قانون إدارة الدين العام – القانون رقم 220/2022، الذي نظم عملية إعادة هيكلة الديون السيادية وحدد آلية التفاوض مع حاملي السندات اللبنانية، كما تضمن إلغاء أو تعديل شروط السندات الدولية المقومة بالدولار الأميركي.
وحتى تاريخه، لم يتم حماية صغار المودعين في ظل غياب الشفافية والمساءلة.
مشروع قانون الإصلاح المصرفي: بين الإنقاذ الداخلي وتحديات التنفيذ
مرّت 48 شهراً، وما تزال السلطة التنفيذية المتعاقبة رهينة للسياسيين وأصحاب النفوذ على حساب الوطن.
مرّ 90 يوماً (حتى تاريخ إصدار هذا المقال) على عمر الحكومة الجديدة، وهي فترة كانت كفيلة بسقوط الآمال التي وضعها بعض المواطنين فيها.
مرّ 63 يوماً لتقر الحكومة، بتاريخ 12 أبريل/نيسان 2025، مشروع القانون المتعلق بإصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، بعد أن تم حياكته مرات عدة بما يتناسب مع مصالح أصحاب المصارف، مما أدى إلى خلق تقلبات في الأسواق وفقدان الثقة في النظام المصرفي. وهو ما تم عبر حصر أدوات معالجة وضع المصارف بالمادة 13 منه، التي شملت النقاط التالية:
- الإنقاذ الداخلي (Bail-In): ويتمثل في إستخدام أموال المودعين أو المساهمين أو الدائنين لتجنب الإفلاس، إما عبر خفض قيمها أو تحويل الديون إلى أسهم، أو إجبار الدائنين على تحمل الخسائر. نظرياً، يهدف هذا النظام إلى تحقيق إستقرار النظام المالي دون إثقال الدولة بالديون. ومع ذلك، قد يؤدي إلى فقدان الثقة في النظام المصرفي، وسحب الودائع، أو تقلبات في الأسواق. كما يواجه هذا النظام إنتقادات بسبب تأثيره على الفئات المتوسطة والضعيفة (خاصة المودعين الصغار).
- إعادة رسملة المصارف: لم يتم التطرق إلى إستثمارات الشركات اللبنانية الأم في الخارج، ولا إلى عمليات تمويل المصارف اللبنانية الناتجة عن تفرغ أصول في الخارج.
- تحويل موجودات المصرف وحقوقه ومطلوباته إلى مؤسسة أخرى أو إجراء دمج مع مصرف آخر: لم يتم التطرق إلى فتح المجال أمام السلطة القضائية للتحقيق مع المصارف وتحديد ما إذا كانت قد قامت بعمليات إفلاس احتيالي، وهو ما يستدعي وضع اليد على جميع ممتلكاتها في لبنان والخارج. هذا ما يعدّ بمثابة “إنقاذ خارجي (Bail-Out)” مجاني على حساب الخزينة. نظرياً، يهدف هذا النظام إلى تقديم دعم مالي خارجي (من الحكومة أو مؤسسات دولية) لإنقاذ بنك أو مؤسسة مالية من الإفلاس، عبر إلقاء حجوزات قضائية نتيجة المخالفات أو عبر مصادر تمويل مثل الضرائب الحكومية أو القروض من البنوك المركزية أو صندوق النقد الدولي، بهدف منع إنهيار المؤسسات الكبرى وحماية الاقتصاد الكلي من تأثيرات الإفلاس. ومثال على ذلك برنامج الإنقاذ الخاص بالأصول المتعثرة في الولايات المتحدة (TARP) عام 2008 وخطة إنقاذ اليونان عبر الاتحاد الأوروبي 2010 – 2018.
نقاط ضعف مشروع القانون
يتخلل مشروع القانون هذا العديد من نقاط الضعف، أهمها:
- التحديات التنفيذية: تواجه المصارف الكبرى مقاومة بسبب تكلفة التكيّف مع متطلبات القانون (مثل زيادة رأس المال) في ظروف احتمالية تدخل السياسيين أو أصحاب المصالح في تطبيق القانون، مما قد يُضعف فعاليته،
- غياب الحلول الجذرية: لا يعالج المشروع أسباب الأزمة المالية الحالية مثل الدين العام غير المستدام أو السياسات السابقة لمصرف لبنان. كما أن غياب آليات دعم للقطاعات الاقتصادية المتضررة من الأزمة قد يعرقل التعافي الشامل،
- مخاطر النظام المالي: إستثناء الودائع الكبيرة من الضمان قد يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال إذا شعر أصحابها بعدم الأمان. كما أن هناك إحتمالية لفشل مصرف لبنان في تطبيق القانون بسبب الأزمات المؤسسية،
- التحديات الاجتماعية والاقتصادية: قد تقلّص متطلبات رأس المال قدرة المصارف على تقديم القروض، مما يعرقل النمو الاقتصادي،
- عدم التعاون الدولي: عدم تعاون المؤسسات الدولية (مثل صندوق النقد) لدعم الإصلاحات قد يقلل من الثقة الخارجية،
- الثغرات القانونية: احتمالية وجود ثغرات في النصوص أو تعارض مع قوانين أخرى، مما قد يؤدي إلى تأخير التنفيذ أو طعون قضائية،
- حصر الآلية التنفيذية بمصرف لبنان: دون فتح المجال القانوني للبوح بالمعلومات، كما هو الحال في قانون الإجراءات الضريبية رقم 44.
الخطوات اللازمة لتأمين مستقبل لبنان المالي: مكافحة الفساد وإصلاح النظام المصرفي
إن التوجه نحو توقيع قرض جديد باسم الدولة اللبنانية على حساب أجيال قاصرة أو أجيال لم تولد بعد هو أمر مرفوض كلياً، خصوصاً في ظل إستمرار الغارات المعادية على الأراضي اللبنانية.
فإذا أردتم تمويل صندوق الخزينة، إليكم ما يجب فعله:
- تطبيق المادة 84 من الدستور والقوانين التي ترعى المحاسبة العمومية، والقيام بتدقيق حسابات مصرف لبنان والدولة عن جميع السنوات، لا سيما التي لم يتم الموافقة على موازنتها العامة، بدءاً من سنة 1975. كما تحديد المسؤوليات الجزائية أو التأديبية، واعتبار أي إنفاق أو عقد يتجاوز الحدود القانونية باطلاً بطلاناً مطلقاً،
- إقالة رأس السلطة النقدية – حاكم المصرف المركزي، في حال امتنع عن القيام بما يترتب عليه، لناحية ثبوت توقف جميع المصارف العاملة على الأراضي اللبنانية عن الدفع، بما يتوافق مع أحكام المادة 2 من قانون رقم 2 الخاص بإخضاع المصارف التي تتوقف عن الدفع لأحكام خاصة الصادر بتاريخ 16 يناير 1967. وبذلك يمكن تأميمها جميعاً عبر خطة إنقاذ خارجي “Bail-Out”. تتطلب هذه الخطة ثقة ودعم اللبنانيين في المهجر وصندوق النقد الدولي والمجتمعات الدولية، لكي يتم استقطاب مصارف جديدة،
- تفعيل خطط جدية للتعاون الدولي لاستعادة الأموال المسحوبة نقداً أو المحولة إلى الخارج بشكل مخالف،
- إصدار توجيهات لتنفيذ إجراءات اتفاقيات التعاون الضريبي دولياً (MAP)، وتوقيع اتفاقية التزام مع الولايات المتحدة بموجب القانون الأميركي للإمتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA) وتوسيع شبكة الاتفاقيات الثنائية مع الاتحاد الأوروبي لتشمل دولاً أوروبية أخرى متقدمة في التبادل المعلوماتي. هذا إضافة إلى الانخراط في مبادرات مثل تآكل القاعدة الضريبية والتحويل غير المشروع للأرباح (BEPS) والاستفادة من التقييمات الدولية الحالية مثل المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات الضريبية لمعالجة النواقص وضمان استدامة التزام لبنان بمعايير الشفافية الضريبية العالمية،
- تفعيل خطط جدية للتدقيق في عمليات تبييض الأموال والحجز على أموال وممتلكات المشاركين فيها،
- إستعادة الأموال المهدورة عبر قرارات غير قانونية، مثل قرارات دعم السلة الغذائية، القرار الوسيط رقم 13245 بتاريخ 8 تموز/يوليو 2020 الصادر عن حاكم مصرف لبنان، والقرار رقم 87 بتاريخ 8 تموز/يوليو 2020 الصادر عن وزير الاقتصاد والتجارة،
- إخراج لبنان من “القائمة الرمادية” لمجموعة العمل المالي (FATF) بسبب أوجه القصور الإستراتيجية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وذلك عبر ضمان قدرة النظام القضائي على ملاحقة الجرائم المالية بفعالية، وتقليل الإعتماد على النقد، ومكافحة تمويل الإرهاب وتعزيز الشفافية المالية،
- التعلّم من تجربة لوكسمبورغ التي أدت إلى رفع السرية المصرفية عن المعلومات الضريبية نتيجة ضغوطات دولية مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) والاتحاد الأوروبي، والتي طالبت بزيادة الشفافية لمحاربة التهرب الضريبي والفساد، خاصة بعد الأزمة المالية عام 2008، بالإضافة إلى فضائح “لوكس ليكس”(Lux Leaks) عام 2014 حول ضعف الرقابة واعتماد سياسات “الضرائب التفضيلية”،
- التعلّم من تجربة سويسرا التي توقفت عن إخفاء هويات العملاء بعد ضغوط في قضية الولايات المتحدة حول الخدمة الداخلية للإيرادات IRS عام 2013، وإنضمت إلى نظام تبادل المعلومات التلقائي (CRS) منذ 2018، ما أتاح مشاركة بيانات العملاء مع الدول الأخرى. بحسب تقرير (SOECD) لعام 2018 وفضيحة “سويس ليكس” (Swiss Leaks) عام 2015، كشفت عن حوالي 60,000 حساب بنكي تابع لمصرف HSBC السويسري (HSBC Suisse) يعود لأفراد وشركات من 200 دولة، معظمهم من السياسيين والأثرياء والشخصيات المشبوهة.
بينما تُطرح حلول قانونية ومقترحات لإعادة هيكلة النظام المصرفي اللبناني، تظل العقبات حاضرة في ظل إستمرار الغموض السياسي والاقتصادي. إن الإصلاح الحقيقي يتطلب إرادة سياسية قوية، لكن الأهم من ذلك هو محاسبة المسؤولين عن تدهور الوضع المالي ومعالجة جذور الأزمة التي لا تزال تؤرق اللبنانيين.
يبقى التحدي الأكبر هو قدرة السلطة التنفيذية على الخروج من أسر الطبقات السياسية والمالية التي كانت مسؤولة عن الأزمة، والإنتقال إلى مرحلة جديدة من الإصلاحات التي تضمن الشفافية، وتعيد الثقة للمواطنين والمصارف على حد سواء. فهل ستتمكن الحكومة من تحويل هذه الأزمة إلى فرصة حقيقية للإنتعاش الإقتصادي، أم أن لبنان سيبقى أسير دائرة من القرارات الضعيفة والتوجهات الغامضة رهينة المصالح العالمية؟ المستقبل وحده كفيل بالإجابة.