محمد علي مقلد
جريدة الحرة ـ بيروت
يصعب أن يتكرر مثل هذا الإجماع. الشيب والشبان، الدولة واليسار واليمين والأحزاب، حتى الميليشيات. لبنان كله يحبه. أي سر فيه؟ ما من مرة اكتظت فيها صفحات التواصل بالكلام عن حدث مثلما حصل في يوم تأبينه. إجماع نادر على احتضان التشييع أكبر من ذاك الذي شهدناه يوم غاب كل من الأخوين عاصي ومنصور، وإن كان بعضه من وهج إرثهما العظيم.
ألأنه من سلالة الرحابنة. أجل، لكنه خلطة سحرية منها. نبت من صلبها ثم صار نسيج وحده. هو عبقرية متناسلة، لا شك. أضاف عليها مسحة من نبوءة، هو الرائي كما سماه شوقي بزيع، صاحب رؤيا. لا تعرف من أين تأتيه، من ناحية الموسيقى أم المسرح أم الأغنية، من السخرية أم من كلامه عن آلام الحرب والوسخ الطائفي؟ من “بعدنا طيبين قول الله” أم من أحاديثه الإذاعية ومقابلاته المتلفزة وابتكاراته الإعلانية؟ كل هذا يبهت معناه أمام استشرافه الحرب الأهلية قبل وقوعها بسنوات. عام 1972 قال: “كنا في أغلى الفنادق، جرجرونا عالخنادق”.
هل استخلص السياسيون الدرس؟ أميل إلى سوء الظن. كتب أحدهم على صفحته نصاً مغفلاً يقول فيه: “اللافت في بيانات النعي، أن كل طرف حاول أن يصنع زياداً على هواه. سمير جعجع أراده فناناً بلا سياسة، إذ تمنى“لو استطاع إعطاء طاقته الاستثنائية كلها للفن فقط في لبنان.” حزب الله أراده مقاوماً بلا موسيقى، فهو “المعروف بعدائه التاريخي للموسيقى وبمنعه بث أغنيات فيروز في الجامعة اللبنانية”. أما الصهيوني أفيخاي أدريعي فقد أراده حراً بلا فلسطين، ذلك أن كلامه “سرقة وقحة لصوت قاوم الاحتلال بالكلمة والسخرية، وشكّل في وعي جيلٍ كامل أحد أبرز الأصوات المناهضة لإسرائيل في الفضاء الثقافي العربي”.
يخلص النص المغفل إلى القول”لكن زياد الحقيقي كان نقيض كل هذا. كان الفنان الذي استخدم المسرح والموسيقى لنقد الطائفية والفساد، والمثقف الذي تهكّم على المقاومة حين تُختزل في فصيل، واللبناني الذي قاوم الاحتلال بالفن لا بالسلاح. لم يكن ابن حزب ولا تابعًا لمرجعية. كان صوتًا منفلتًا، لا يضبطه أحد”.
جبران خليل جبران يشبه زياد الرحباني بإجماع لبنان على محبته والإعجاب به. فيما رآه اليساريون ناطقاً باسمهم في هجومه على الإكليروس والإقطاع، لا تزال المارونية السياسية تحاول احتكار ملكيته الفنية، ولم يتردد باحث من الحزب السوري القومي في منحه بطاقة عضوية حزبية لأنه استخدم مفردة “سوريا” في أحد نصوصه. ويشبهه أيضاً سعيد عقل الذي حرمته من إجماع لبناني وعربي على عبقريته الشعرية لحظة قصيرة انخرط خلالها في الانقسام السياسي أول الحرب الأهلية.
انخراط زياد في العمل السياسي حجب الإجماع عنه، هو الآخر، لوقت قصير. لكنه عرف كيف ينجو أكثر من مرة من خطر الوقوع في التطرف، حين تحفظ على مقاومة تحجب الأخبار عن حفلاته الموسيقية، وحين رتل للصلاة في الكنيسة ولم يقصر بحق الطائفية وتجارها، وحين قدم صورة عن الشيوعية غير مكروهة حتى عند غير المحبين.
رفع الشهيد بيار الجميل ذات يوم، وكان وزيراً للصناعة، شعار، “إذا بتحبوا لبنان، حبوا صناعته”. تعالوا اليوم نصنع لبنان على ما كان يريده ويتمناه زياد الرحباني. دولة القانون والمؤسسات ووطن الحرية والديمقراطية.


