الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور أمين صالح، المدير العام السابق للمحاسبة العمومية في وزارة المالية في لبنان
تعتبر الدولة من الوجهة القانونية التشخيص القانوني للأمة، فهي عبارة عن الشخص المعنوي الذي يرمز إلى مجموع الشعب المستقر على إقليم معين وهو يتمتع بسلطة سياسية ذات سيادة. أما من الوجهة الإجتماعية السياسية فيمكن تعريف الدولة بأنها عبارة عن سلطة فعالة محمية ومنظمة تهدف إلى حماية أمنها من الأخطار الخارجية، وإلى ضمان سلامة مواطنيها وإلى الحفاظ على المصلحة العامة لشعبها.
إن الدولة الحديثة هي دولة حقوقية تخضع تصرفات الحكومة فيها لقواعد ثابتة وأكيدة. فهي من خلال الحكام يجب أن تعطي المثل في الخضوع الى أحكام القانون الذي يجب أن يهدف الى خدمة المصلحة العامة. ويترتب على خضوع الدولة للقانون بأن يكون الحكام في خدمة الشعب واستمرارية إلتزامات الدولة تجاه مواطنيها.
إن المفهوم الإجتماعي للدولة يتطلب:
- القوة والإكراه: فلا دولة بدون قوة رادعة قادرة على فرض إحترام القانون في المجتمع.
- سلطة سيدة: قادرة على تنظيم نفسها بدون تدخل خارجي.
- سلطة شرعية: إن السلطة في الدولة الديمقراطية يجب أن تنبثق من الشعب بوسائل ديمقراطية أهمها الإنتخاب.
أما لجهة المفهوم الفلسفي لمصطلح الدولة، فإن كل مفكر يعطي الدولة تعريفاً خاصاً به:
- الفيلسوف الألماني هيجل يرى في الدولة تعبيراً عن الإرادة الإلهية وعن تطور الحضارة الإنسانية، فهي أرقى وأسمى أشكال الإجتماع الإنساني، وغايتها هي خدمة مصلحة الفرد والجماعة عن طريق التوفيق بينهما.
- بينما يعتبر ماركس وغيره من المفكرين الماركسيين الدولة بناء طبقياً فوقياً يهدف إلى ضمان مصالح الطبقة المالكة لأدوات الإنتاج. فالدولة طبقية سواء أكانت في مجتمع رأسمالي أم في مجتمع إشتراكي، فهي في المجتمع الرأسمالي وسيلة للدفاع عن مصالح الطبقة البرجوازية بينما هي في المجتمع الإشتراكي أداة لحماية مصالح البروليتاريا.
- أما توماس هل جرين فيرى أن “الإرادة وليس القوة أساس الدولة”. فالقوة وإن كانت السمة الأساسية للدولة لا يمكن أن تشكل الركيزة الوحيدة للدولة، كون المواطن يطيع الدولة عن إرادة وقناعة باعتبار أنها تخدم مصلحته الخاصة من خلال المصلحة العامة. ذلك أن ظهور الدولة الحديثة إرتبط بالإعتراف النظري بضرورة وجود سلطة عليا تحوز ولاء المواطنين الناتج عن اقتناعهم بضرورة إعطاء الأولوية لمصالح الدولة التي تمثل الخير الإجتماعي الأعلى.
إن ظهور الدولة الحديثة كان نتيجة لتبلور وحدات سياسية دائمة وثابتة ومستقرة في إطار حدود جغرافية، وتطور مؤسسات دائمة وغير شخصية والإقتناع الجماعي بضرورة وجود سلطة عليا وعلى نزعة الولاء لهذه السلطة.
يرى المفكر جون لوك أن “المجتمع لم يقم على أساس القوة والإكراه إنما على أساس الإختيار والرضى المتبادل بين الأفراد، وإن الغاية من ذلك الإجتماع المدني هي المحافظة المتبادلة على “الملكية” بمعنى حق الحياة والحرية والتملك”. وينطلق لوك من نظرة تفاؤلية للإنسان الذي كان يعيش حياة سعيدة في ظل قانون طبيعي مستوحى من العقل البشري والإلهام الإلهي، ولكنها حياة مشوبة بالمشاكل والمخاطر، ولذلك شعر بضرورة الدخول مع الآخرين في عقد يقيم المجتمع ويتنازل فيه عن بعض مزايا الحياة الطبيعية لقاء ما يعود عليه من نفع مضمون أشمل وأعم في المحافظة على السلام والأمن الداخلي والخارجي وفي حماية حقه في الحرية والتنقل والتملك وخاصة حقه في الحياة.
لذلك حرص جون لوك على أن يحدد بدقة المعالم الجوهرية للحكومة الشرعية، فإذا ما فقدت شرعيتها نتيجة تغليبها المصالح الخاصة أو إهدار سيادة القانون أو طغيانها أو إعتدائها على ممتلكات المواطنين جاز للأفراد أن يتحرروا من الإلتزام بطاعتها وأن يثوروا عليها. فالهيئة التشريعية، وهي السلطة العليا بما لها حق التشريع، إنما تعمل داخل حدود لا تتجاوزها، كما أن للسلطة التنفيذية حدودها المرسومة التي إن هي تجاوزتها فقدت شرعيتها.
ويطرح جان جاك روسو في “العقد الإجتماعي” المشكلة بأنها “مشكلة إيجاد شكل من الإجتماع يدافع بما له من قوة عامة عن شخص كل عضو في هذا الإجتماع وما يملك ويحميها، وأن يظل كل فرد فيه أثناء اتحاده مع الجميع مطيعاً لنفسه وحده وأن يبقى حراً كما كان من قبل”.
الحل عند روسو هو في تنازل كل فرد عن حقوقه للمجتمع كله التي هي الإرادة العامة، فهي صاحبة السيادة وهي عبارة عن مجموع إرادة الأفراد، لأن الجميع سيشاركون وبصورة مباشرة في تقرير المصلحة العامة للمجتمع كله. وإنطلاقاً من ذلك، يطرح روسو مفهومه للحكم الديمقراطي المباشر القائم على سيادة الشعب الممثل بالإرادة العامة، ولذلك يرفض روسو وجود سلطات تشريعية وتنفيذية مستقلة عن سلطة الشعب. فالشعب هو الذي يشرّع، والحكومة هي مجرد جهاز تنفيذي ينفذ إرادة الشعب.
إن الدولة هي الشكل الأسمى للإجتماع السياسي، وقد عرفت الشعوب قبل ظهور الدولة الحديثة عدة أشكال من الإجتماع أولها العائلة وآخرها الأمبراطورية مروراً بالقبيلة والعشيرة والمدينة والإمارة. إلا أنه مع التطور التاريخي اكتشف الإنسان الحاجة الى الإستقرار الإجتماعي فكانت العائلة، ثم تبيّن له أهمية توسيع هذا الكيان الإجتماعي نظراً لما يوفر ذلك من إمكانيات، فبالعيش المشترك بين مجموعة من الأفراد يربطهم ولاء مشترك تتحقق القدرة على تأمين الحاجات الأساسية للإنسان.
وإنطلاقاً من التعريف القانوني التقليدي للدولة بأنها “الشخص القانوني للأمة السيدة”، يمكن القول أن وجود الدولة مرتبط بوجود عناصر ثلاثة مجتمعة: الإقليم، السكان والسلطة السياسية السيدة.
فلا وجود للدولة بدون وجود الإقليم ويوجب ذلك ضرورة تحديد حدود الدولة، كما أن وجود الشعب هو عنصر ضروري لوجود الدولة كمجتمع سياسي منظم.
أما السلطة السيدة فهي عنصر ضروري لوجود الدولة، فلا بد من وجود سلطة أي وجود حكام لديهم القدرة الدائمة على الأمر، وعلى فرض الخضوع والطاعة على المواطنين. تعتبر سيدة السلطة التي لا تخضع لأي سلطة أخرى على صعيد النظام الداخلي والدولي. فالدولة وحدها لها حق الأمر وفرض الطاعة.
إن مفهوم السيادة في دولة القانون لا يعني السلطة المطلقة، فالدولة الديمقراطية لا يمكن أن تتجاهل كلياً رغبات وقرارات السلطات الخاضعة لها (العائلة، المجموعات المحلية، التجمعات الحزبية والمهنية) كما أنها لا يمكن أن تتهرب من متطلبات العلاقات والقانون الدولي. ومن هنا نشأ مفهوم نسبية السيادة، ولكن بالرغم من ذلك تبقى السيادة ملازمة للدولة، فهي وحدها تملك الصلاحيات الأساسية ووسائل العمل الملائمة على الإقليم الوطني، وتبقى السيادة الضامن لحد أدنى من النظام في المجتمع فسلطة الأمر ملازمة لوجود الدولة أياً كان النظام السياسي.
إن الحياة في المجتمع تخلق الحاجة الى النظام أي الى السلطة غير أن الحاجة الأساسية للسلطة لا تبرر لوحدها سلطة وقوة الحكام، فالسلطة لكي تكون دائمة ومستقرة يجب أن تكون مقبولة من قبل المحكومين. فالإكراه لا يمكن أن يشكل لوحده قاعدة سليمة للحكم، ولا بد من ثقة وقناعة المحكومين، إذ تتعدد أشكال الإقناع وأهمها الإنتخاب والإستفتاء.
إن الحكم الذي لا يرتكز إلا على القوة والإكراه ولا يعتمد على تأييد الشعب أو على الأقل أكثريته، يفتقد الشرعية اللازمة لإستمراره واستقراره، والثورة هي حدث سياسي إجتماعي يعبر بشكل عنيف عن رفض سلطة الحكام، الثورة هي احتجاج شعبي ضد لا شرعية الحكم القائم، إن سيادة الدولة تقوى بقوة شرعية الحكم.
يجب أن يتوفر في شرعية الحكم عاملان على الأقل: الأول هو قانونيته أي وصول الحاكم الى السلطة بالطرق الدستورية، والثاني الإستخدام الجيد للسلطة أي ممارسة الحكم في سبيل الصالح العام. إن الشرعية الأكثر إنتشاراً اليوم هي الشرعية الديمقراطية التي تعتبر السلطة شرعية بمجرد إنبثاقها عن الإختيار الشعبي الحر بواسطة الإنتخاب والشرعية اليوم في النظم الديمقراطية تعتبر الشرط الأساسي لديمقراطية السلطة.
إن الدولة الحديثة ترتكز على قيام مؤسسات سياسية غير شخصية ودائمة نسبياً مستقرة وثابتة فوق أرض محددة لها مكانة وسلطة وتتمتع بسيادة. وتتمتع بالشرعية القائمة على قانونية الحكم، أي وصول الحاكم الى السلطة بالطرق الدستورية وبالإستخدام الجيد للسلطة أي ممارسة الحكم في سبيل الصالح العام.
إن الحياة الإجتماعية تفترض بطبيعتها وجود حكام ومحكومين كما تفترض ضرورة الخضوع لأوامر الحكم طالمت كانت شرعية وقانونية. بالمقابل فإن سلطات الدولة لا يمكن أن تكون مطلقة، فالدولة الديمقراطية هي دولة ذات صلاحيات لا يجوز لها تجاوزها وإلا تحولت الى دولة شمولية. فالدولة تعترف بوجود مجالات لا يحق لها التدخل فيها خاصة مجال الحريات الفردية والجماعية، فواجب الدولة حماية المواطنين في ممارسة حرياتهم دون أن يكون لها الحق في حرمانهم منها.
وعليها كذلك واجب الأخذ بعين الإعتبار وجود قوى إجتماعية، سياسية، خارج الدولة (العائلة، الشركات التجارية، الأحزاب، النقابات، الجمعيات…) وغيرها من هيئات المجتمع المدني، وهذه المنظمات وإن كانت نشاطاتها موجهة في بعض الأحيان ضد الدولة (ضد السلطة) فإن وجودها ضروري لوجود الديمقراطية. فالدولة لا تكون ديمقراطية ما لم تتمكن المعارضة من التعبير عن رأيها بكل حرية. ويعتبر حق المعارضة من الحقوق الأساسية في الدول اليمقراطية، وتلعب الأحزاب السياسية المعارضة الدور الأساسي في دفع التشكيلات الإجتماعية إلى إتخاذ مواقف معارضة للدولة بهدف الضغط على السلطة.
إن لبنان الذي يمر في أزمة سياسية وإقتصادية ومالية ونقدية غير مسبوقة في تاريخه، والتي تتزامن مع ظروف سياسية وأمنية وعسكرية بالغة التوتر تسود المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، قد تشكل مفصلاً تاريخياً هاماً في حياة المنطقة السياسية ومنها لبنان بما يراد لها من أهداف استراتيجية تتركز حول إستقلالية القرار الوطني والتحرير والعلاقة مع الدول الشقيقة والصديقة والعدوة، ويتطلب ذلك خيارات وطنية وقومية كبرى بحاجة الى التوافق والإجماع الوطني. وأولى هذه الخيارات خيار بناء الدولة المدنية، القوية، القادرة والعادلة. فهل نستطيع كأفراد وجماعات وقوى سياسية وإقتصادية وإجتماعية التوافق على هذا الخيار الذي لا بديل عنه إلا الإستمرار في حالة الإنهيار على كافة المستويات؟