ما أشبه الأمس باليوم واليوم بالأمس. المقال أدناه بقلم مؤسس ورئيس التحرير السابق لجريدة “نداء الوطن”، نُشر قبل سنة بالتمام والكمال. دقّة التوصيف ووضوح الاستشراف، الممزوجان بالهواجس والتساؤلات، يجعلانه يصلح لإعادة النشر حرفاً بحرف.
بقلم الدكتور بشارة شربل، كاتب ومحلل سياسي
“ومَن يعِش ثمانين حولاً لا أبا لكَ يسأمِ”… لن نردّد يأساً مع الشاعر الجاهلي قوله المأثور، حتى لو أنّ استقلالنا شاخ وغير مهيب، وفي ثمانينه أضحى سراباً وذكرى أليمة بدل أن يكون واقعاً وبهجة عيد.
ليس عادياً أن يعيش بلد منذ استقلاله على حبل توتّر أو في أتون نار، وأن يتجاذب نسيجه الداخلي شعور الاختناق من العناق أحياناً، والفرقة المسمومة في معظم الأحيان. وإذ تُفهَم نزعات الطوائف والجماعات وانسجامها مع هويّاتها، وندرك عدم جواز جلد الذات لعجز الصيغة عن الصلابة في وجه التحديات، فإنّ واجبنا الإقرار بأنّ واقعنا الجيوسياسي كان أقوى من صيغة البلد الصغير المتنوّع الاتجاهات على الاحتمال، خصوصاً أنّ سفينة لبنان المستقل أبحرت دائماً بين أنواء مزَّقت أشرعتها، وحوّلت ركّابها رهائن، فيما احتلّ مقاعد ربابنتها أكثر من وغد وقرصان.
من حسن الحظ ومن سوئه أن يظهر في ذكرى الاستقلال فشل النظام عسى أن يُبنى على الشيء مقتضاه. فما يحدث على هامش “حرب غزة” عند الحدود الجنوبية ليس مجرد مناوشات ومشاغلات، بل أيضاً أصدق تعبير عن دولة فقدت كل مقوّمات السيادة والقرار. رأسها مقطوع، وقضاؤها “مقبوع”، وشعبها مسروق، وحكومتها تفتخر بـ”خطة طوارئ” وبـ”إنجازات إيواء”، وجيشها ممنوع وممتنع عن تنفيذ القرار 1701 الذي كان يفترض أن يحمي لبنان من حرب تُكرّر مآسي “حرب تموز”.
على أي حال، سواء انتهت “حرب غزة” ببقاء جنوبنا جبهة مساندة، أو ساحة التحام، فإنه سيكون صعباً على اللبنانيين المتمسّكين بوطنهم وبدولتهم وبمستقبل أبنائهم وحقهم في العيش الحر بسلام، القبول بألّا تكون هذه المرحلة “خاتمة الأحزان”، وهكذا يمكن أن نتذكر العام المقبل المواجهات بوصفها تواريخ أليمة لا ينبغي أن “تنعاد”.
ستُختتم “حرب غزة”. إن لم تنتهِ احتمالات الحرب فستؤجل الى مواعيد وأشكال غير معروفة. ونُسيء إلى الأجيال المقبلة إن لم نستفد من التجربة الرهيبة للتأقلم مع المقاربة العربية الواقعية للصراع، والتي تدعم الشرعية الفلسطينية وتهجس بالتنمية لا بالشعارات. فالشعب اللبناني غير منذور للعيش الى أبد الدهر بين حربين، واحدة قائمة وأخرى مؤجّلة، وعلى حدود التوتر الدائم خدمة لإيديولوجيا أو محور أو أي قضية مهما كانت مقدسة.
لا لبناني يتمتّع بالحد الأدنى من الحس الإنساني والوطني، إلا ويناهض الهمجية الإسرائيلية التي لا تميّز بين نفق ومستشفى، أو بين أهداف عسكرية وصحافيين زملاء. أما لسان حال الأكثرية فهو رفض الحرب ووجوب نزع الذرائع التي تفلت الوحش الإسرائيلي على البشر والحجر.
تحمَّلنا أكثر مما نستطيع من تداعيات قضية فلسطين، وحان الوقت لنتقاسم وسائر العرب كل الواجبات والأعباء، على أمل أن تكون مشاغلات الجنوب، أو حربه إذا وقعت، آخر الحروب، وأن تفتح الباب للبنان آمن ومستقر لئلا يقال في 22 تشرين الثاني 2024: على الاستقلال السلام.