بقلم الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
هذا النص لا يخدم فئة. ورغم احترامي للعلوم النفسية، غير أني أرى أنه لا يمكن لها أن تُحدث تغييراً. فالتغيير لعلاج الأمراض النفس – اجتماعية بدايته في التغيير السياسي. وهذا النص ليس للبرهنة أو للإقناع، بل هو محاولة للتأمل في مأساة الاغتراب التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الوجود اللبناني، وليس تناولها اليوم إلّا بالنظر لتفاقمها نتيجة العدوان على لبنان.
اغتراب المواطن اللبناني: انكسار العلاقة بين الفرد والوطن
اغتراب المواطن اللبناني هو تجربة متعددة الأبعاد، تتجاوز الحروب والصراعات لتلامس جوهر علاقته بوطنه وذاته. في كل مفصل من مفاصل حياته، يعيش اللبناني انقطاعاً عن هويته، صوته، وحتى ذكرياته، في ظل نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يُديره الآخرون، سواء كانوا قوى داخلية أو أطرافاً خارجية.
إغتراب الإرادة: من الصندوق الانتخابي إلى التهميش الكامل
- الانتخابات كطقس شكلي
شارك المواطن اللبناني في الانتخابات بأمل التغيير، لكنه وجد نفسه محكوماً بنخبة قديمة تعيد إنتاج ذاتها. السلطة المنتخبة، بدل أن تكون تعبيراً عن إرادة الناس، أصبحت مجرّد أداة بيد قوى تُعيد تشكيل التوازنات بما يخدم أجنداتها الخاصة. هذا الشعور بالخداع في العملية الديمقراطية يعمّق قناعة المواطن بأن صوته لا قيمة له، مما يجعل المشاركة السياسية عبثية.
- تسييس الأمن والسلاح
تسليم الأطراف أسلحتها بعد الحرب الأهلية استثنى حزب الله، مما خلق شعوراً بالتفرقة وانعدام العدالة. يعيش المواطن حالة دائمة من الترقب والخوف من عودة العنف، حيث تحوّل السلاح، الذي يُفترض أن يحميه، إلى رمز للتهديد. تحت ذريعة “المقاومة”، أصبحت حياة اللبناني مشروطة بمعادلات قوى لا تمثّله.
- السلام الوهمي
يعيش اللبناني في سلام مفترض بينما تُجهَّز الحروب في الخفاء. انفصال المواطن عن هذه الحقيقة يعمّق شعوره بالعجز، حيث يظل خاضعاً لقرارات تُتخذ دون علمه أو مشورته. بين خطاب السلام وواقع التحضير للصراعات، يتمزق المواطن في مساحة رمادية لا تعرف الاستقرار.
إغتراب الذاكرة والمكان
- المكان كامتداد للذات
الحي، البيت، والمدن التي بناها اللبنانيون بأيديهم تحوّلت إلى رموز للدمار. يرى المواطن مشاريعه وأحلامه تتهاوى أمام عينيه، مما يعزز شعوره بأنه لا يملك أي سيطرة على واقعه. الأرض، التي كانت جزءاً من هويته، أصبحت ميداناً لصراعات لا تخصه.
- ذاكرة مشوهة وأشياء مفقودة
خسارة الأماكن المرتبطة بالذكريات الطفولية والانتماء الثقافي تعمّق شعور المواطن بالغربة. الأواني، الكتب، والرموز الصغيرة التي كانت جزءاً من حياته اليومية أصبحت إما مفقودة أو في أيدٍ غريبة. كل هذا يعيد تشكيل علاقته بالمكان كأنه غريب في وطنه.
- المنزل كمساحة مؤقتة
بعد أن كان المواطن سيداً على أرضه، يجد نفسه نازحاً في غرف باردة لا تحمل أي دفء. هذه الحالة لا تعكس فقط خسارة مادية، بل انقطاعاً وجودياً عن الهوية التي كانت ترتبط بالأمان والاستقرار.
إغتراب الإرادة والسيادة
- الدولة كوسيط لا كممثل
الدولة التي يُفترض أن تمثّل المواطن تحولت إلى وسيط ينقل رسائل حزب الله في مفاوضات تُقرّر مصير البلد. يشعر المواطن أنه مجرد متفرج في عملية تُدار خارج نطاق إرادته، حيث تصبح السلطة التنفيذية أداة في يد قوى أخرى، وتُدار التفاوضات من قِبل أطراف لا تمثله.
- مصير تحدّده قوى خارجية: القرارات التي تُغرق لبنان في حروب لا تمثّل أولويات المواطن بل تُعمّق شعوره بالعجز. يعيش اللبناني حالة من الغربة عن دولته، حيث تُخاض الحروب باسمه لكن دون استشارته، وتُستهلك موارده باسم قضايا لا تعنيه. هذا الانفصال بين المواطن والقرار السياسي يعكس اغتراباً نفسياً وسياسياً شديداً.
إغتراب الإنسان كفكرة شاملة
- جدلية العامل والمواطن
كما أن العامل الماركسي مغترب عن إنتاجه، فإن اللبناني مغترب عن وطنه. لا يرى المواطن ذاته في قرارات دولته أو في حاضر بلده. يعيش كأنه جزء من مسرحية تُكتب نصوصها خارج إرادته، حيث يصبح وجوده هامشياً في وطن كان يوماً ملكاً له.
- الاقتصاد كوجه آخر للاغتراب
بدل أن يكون الاقتصاد اللبناني وسيلة للاستقرار، أصبح مصدرًا للتوتر. المواطن يعمل لكنه لا يجني ثمار جهده، حيث تتآكل مدخراته في انهيارات مالية تعكس فساداً واستغلالاً على كل المستويات.
في هذا السياق، يعيش المواطن اللبناني اغتراباً يشبه العيش في مرآة مشوهة؛ يرى نفسه ولكنها لا تعكس حقيقته. هذا النص لا يقدم حلولاً، كون لا حلول لمأساة تتشكل خارج إرادة المواطن. لكنه دعوة لفهم أعمق، لفحص هذه المسافة بين الذات والوطن، حيث يمكن لوعي المأساة أن يكون بداية لمصالحة مع الذات في ظل واقع لا يرحم.
هذا العرض قد لا يكفي لتغطية جميع جوانب الاستلاب والاغتراب التي يعاني منها المواطن اللبناني. هناك العديد من العوامل الأخرى التي تسهم في تعميق هذه الحالة، والتي قد تحتاج إلى مزيد من البحث والتحليل لفهمها بشكل كامل.