بقلم الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
هذا النص لا يخدم فئة. ورغم احترامي للعلوم النفسية، غير أني أرى أنه لا يمكن لها أن تُحدث تغييراً. فالتغيير لعلاج الأمراض النفس – اجتماعية بدايته في التغيير السياسي. وهذا النص ليس للبرهنة أو للإقناع، بل هو محاولة للتأمل في مأساة الاغتراب التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الوجود اللبناني، وليس تناولها اليوم إلّا بالنظر لتفاقمها نتيجة العدوان على لبنان.
يقول البعض إن ما ترونه سببه لقاح كورونا، فيما يؤكّد عامل المحطة أن السبب يعود إلى قلة المعرفة في تحضير “النرجيلة” أو أن مكونات البضاعة الرائجة اليوم مضروبة، أي أنها من صنف عاطل. فمن تبقّى في المدينة يسير على غير هدى في الطرقات الخاوية. البعض يكلّم نفسه. وبعض يحرّك يديه كمن يتشاجر مع أشباح. وآخرون يركضون باتجاه شارع قريب محدثين ضجيجاً غير مألوف في مثل هذه الأوقات، حاملين هواتفهم النقالة. لقد عرفوا أن “أفيخاي” يتوعّد المبنى القريب بالدمار بعد دقائق وهم يرغبون تصوير المشهد سينمائياً لكسب بعض الدراهم. ولا يخلو المكان من فضوليين، ربما للتزود بخبر يحملونه إلى الأحياء البعيدة. أو هم من هواة أفلام الرعب. ولا شك أن بين الحاضرين بعض المخبرين، لا نعرف من هم، لكن هذا ما ظننته.
في الشارع نفسه سيارات تسير مسرعة. بعضها بعكس السير، تفرّ طالبة النجاة أو تفادي سماع الانفجار وتداعياته أو رؤية بناية تسقط رماداً. ورجال يطلقون النار بغزارة لدعوة سكان المباني في الشارع إلى ترك شققهم والالتحاق بركب النازحين دون توجيههم بأي اتجاه يذهبون ولا أين هو طريق الخلاص. “إلى الأدراج نزولاً بثيابكم التي ترتدونها، حتى لو كانت الداخلية فقط”. فـ”أدرعي” يفي بتهديداته ويحسن الإصابة، لكن التزامه بموعد الهدم ليس دقيقاً جداً. هذا ما فهمته.
نعم، أشياؤنا الصغيرة، حصى الشاطئ الملوّنة، ثياب المدرسة التي لم نرتدها بعد، الكناري الأصفر، صورة غيفارا الكبيرة على حائط الغرفة، دفاترنا، كتبنا، أقلامنا، صورنا، طلبات الهجرة، ألعابنا، ثياب النوم، الحاسوب، كلها لا تزال فوق في شقتنا. بيتنا الذي انتقلنا إليه قبل سنوات و لم نكمل سداد أقساطه بعد. أشياء كثيرة لا قدرة لي على تذكرها كلّها الآن. أعدكم أني سأروي لكم قصصها حين تتاح لي الفرصة. فنحن منشغلون منذ حوالى الشهر بوداع أحبة وجيران سقطوا تحت ركام بيوتهم. بيتنا في الضيعة لم نعرف عنه شيئاً بعد. آخر ما سمعناه أنهم زنّروا القرية بالمتفجرات ودمّروا بيوتها. لا أعرف. لا أعرف شيئاً.
إلى الهاوية السحيقة انزلقت السيارة، متعطّلة، متحطّمة، وكل من كان فيها سقط مضرّجاً مصاباً. إلّا الراديو فقد ازداد صوته ارتفاعاً. هكذا هو حالنا اليوم؛ يسقط الضحايا وتنهار الأبنية وتُقطع الأرزاق، إلا بعض الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي والمحطات تظلّ تصدح بأصوات المحلّلين والزاعقين، بنموذج قارئي الكف والعالمين بالغيب. لكننا لا نفهم معاني كلامهم الذي يبدو عميقاً جداً وهاماً، والذي نظنّ أنه يعنينا. ولكن الأشدّ أسفاً ومرارة أن ما نظن أننا فهمناه يقول عنّا أننا أشياء أو بضائع للتبادل، أو أثمان. لا أعرف… لا أعرف شيئاً.
يشير الاغتراب السياسي إلى شعور المواطن بالانفصال بين انتمائه العضوي إلى مجتمعه وحقه في الممارسة والمشاركة السياسية في إنتاج سلطة، سواء كان معارضاً لها أو موالياً، وبين مجريات الحياة السياسية هذه وهامشيته فيها. إن استلاب المواطن اللبناني تجاه وطنه هو أكثر ألماً من استلاب المنتج تجاه إنتاجه حسب ماركس 1844، حيث تتداخل عوامل الارتباط الفردية والجماعية، المادية والمعنوية، بالوطن الذي بذل فيه عرقاً وجهداً وحباً. وتجد نفسك عاجزاً منفصلاً فاقداً القدرة على التدخل، معززاً بمشاعر الاستلاب تجاه الوطن. إنها الغربة عنه.
فقدان الذات في الوطن
الاغتراب، في جوهره، ليس مجرد شعور بالبعد الجغرافي أو الفقد المادي، بل هو حالة وجودية يعيشها الإنسان عندما يفقد شعوره بالانتماء. و في لبنان، يتخذ هذا الاغتراب أشكالاً متعددة، حيث يجد المواطن نفسه ممزقاً في مساحة بين ذكريات فقدت معالمها وبين استمرار الحنين المرير إلى استعادة معناها ومستقبل لم يعد ملكاً له. الوطن الذي كان ملاذاً أصبح عبئاً، وصار الحاضر شبحاً يطارده.
وسط كل هذا الخراب العام، تظل أصوات من كل نوع تعلو في فضاء عالم فقد روحه، حيث لا صدى للجريمة. والجريمة ليست بالقتل المادي والدمار وحسب، بل بالاستلاب المتعدّد الأوجه، بالتضليل، باليأس، بفوضى الأفكار وتداعيات العجز.
في خضمّ الحرب والمآسي، يعيش المواطن اللبناني حالة عميقة من الاستلاب على جميع المستويات. يجد نفسه مُهمّشاً في وطنه، غير قادر على التأثير في القرارات المصيرية التي تُتخذ باسمه دون مشورته. يعيش بين ذكريات ماضية مفتقدة ومستقبل ضبابي لم يعد يتحكم فيه، حيث تظل الأصوات في فضاء مهجور تغمر الفراغ بالصدى الضائع.
في الاستلاب السياسي اللبناني، حيث يرى المواطن نفسه غريباً عن مجتمعه السياسي، في جزئية من هذا الاغتراب العميق لا تبدو الانتخابات التي تُجرى أكثر من وهم يُبقي على نفس الطغمة الحاكمة، والأسلحة التي سُلّمت من جميع الأطراف عدا “حزب الله” تزيد من إحساس المواطن بعدم المساواة والاستضعاف. كما تحضيرات الحروب التي تُجرى في الخفاء، واستبعاد المواطن عن القرارات المصيرية التي تخصّ بلده، تتركه يشعر بالعجز والقلق على مستقبل وطنه.
إن فقدان الممتلكات الشخصية والذكريات، والانفصال عن الإنجازات التي بذل فيها اللبناني جهدًا وحبًا، يزيدان من الغربة النفسية والجسدية. فيرى مُدنه وقراه مدمّرة، وأعزّاءه مفقودين، وحياته مشرّدة في غرف باردة، مما يزيد من جراح النفس ويعزز من اغترابه. حتى علاقته بأشيائه الشخصية باتت تُحدّد من قبل أجانب ووسطاء لا صلة لهم به، مما يزيد من الشعور بفقدان السيادة والسيطرة على مصيره.
إغتراب المواطن اللبناني هو انكسار العلاقة بينه وبين الوطن. من اغتراب الإرادة إلى اغتراب الذاكرة والمكان فالسيادة، وصولاً إلى اغترابه كفكرة شاملة. تفاصيل نناقشها في الجزء الثاني.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com