الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- مونتسكيو: “فساد الحكومات غالباً ما يبدأ بفساد مبادئها.”
- نيتشه: “من لا يملك شجاعة التغيير، عليه أن يتقبل مرارة الواقع.”
- أفلاطون: “الثمن الذي يدفعه الصالحون لعدم اهتمامهم بالسياسة هو أن يحكمهم الأشرار.”
يبدو أن الساسة اللبنانيين يتقنون علم النفس الجماهيري والانتروبولوجيا بالفطرة، حيث يرهبون الجمهور بالتخويف من التغيير. فالخوف من التغيير والاستقرار في الماضي مدعاة أمان للجماعة يولد عادة في البيئات الثقافية التي ترى الماضي حصناً يحمي هويتها. كما “يرتبط الخوف من التغيير بالاعتقاد شبه الأكيد بأنه لا بدّ أن يحمل معه التحديات والصعوبات والآلام. فوجهة نظر التنمية البشرية في التغيير، والتي تبدأ بتعداد ما يجب وما ينبغي يوحي بأن الآتي عبارة عن رحلة شاقة تحتاج مجهوداً عظيماً”. (مقتبس)
ففي بلد يرزح تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والسياسية المتراكمة، يصبح تشكيل الحكومة الجديدة اختباراً مصيرياً ليس فقط للعهد الجديد، بل للبنان بأكمله. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة الأساسية تواجه عراقيل معقدة تتجاوز الخلافات السياسية المعتادة، حيث تبرز الميثاقية والخوف من التغيير كأدوات تُستخدم لتجميد أي تحرك نحو الإصلاح. وما يزيد الوضع تعقيداً هو استغلال مسألة عدم انسحاب إسرائيل من المناطق الحدودية كذريعة لإبطاء انطلاقة العهد الجديد.
الميثاقية: أداة لتعطيل الإصلاح
الميثاقية، التي وُجدت لضمان تمثيل عادل للطوائف، أصبحت اليوم ذريعة تُستخدم لإبقاء البلاد في حالة شلل سياسي. يُوظّف هذا المفهوم لتبرير تعطيل تشكيل الحكومة ومنع أي تغيير جذري في هيكل السلطة. بدلاً من أن تكون الميثاقية ضمانة للعدالة، تحولت إلى وسيلة لحماية شبكة المصالح التي تربط النخب السياسية ببعضها البعض، مما يعمق الانقسامات الطائفية والمذهبية ويحول دون تحقيق أي إصلاح حقيقي.
في السياق اللبناني، يتم تأويل الميثاقية بطرق تخدم مصالح القوى السياسية التقليدية. الحديث عن حقوق الطوائف يُستخدم كغطاء لتبرير تقاسم الحصص بين الأحزاب، وهو ما يعيد إنتاج نظام المحاصصة الطائفية الذي أضعف مؤسسات الدولة وأفقدها مصداقيتها. هذا النهج لا يهدف إلى بناء دولة حديثة، بل إلى تكريس وضع قائم يضمن بقاء النخب السياسية في السلطة، ولو على حساب المصلحة الوطنية.
ميكانيزمات العرقلة: اللعب على أوتار الطائفية والمذهبية
منذ بدء الأزمة السياسية الحالية، تعمل القوى التقليدية على عرقلة أي محاولة للتغيير عبر آليات متعددة. تستخدم هذه القوى الخطاب الطائفي كأداة لتحفيز الشارع، مما يؤدي إلى تعزيز الانقسامات بدلاً من تجاوزها. ترفض هذه القوى تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، وتحاول فرض شروطها عبر التمسك بالمحاصصة الطائفية والمذهبية، مما يعطل أي تحرك نحو الإصلاح.
إضافة إلى ذلك، يتم افتعال أزمات جديدة كلما بدت القيادة الجديدة قريبة من تحقيق تقدم ملموس. إن مسألة عدم انسحاب إسرائيل من المناطق الحدودية تشكل حجة لطرح مسائل تؤخر تشكيل الحكومة كإعادة طرح مسألة تنفيذ الـ1701 والسلاح جنوب الليطاني وحق الشعب في تحرير أرضه إضافة إلى ظلم مزعوم… كل ذلك وسط صمت مذهل للقوى المنتظرة حصصها الافتراضية من جبنة الوزارة. هذا الأسلوب لا يهدف فقط إلى إحراج القيادة الجديدة، فكل تأخير في التشكيل يساهم في إضعاف شرعيتها أمام الشعب، مما يضعها في موقف دفاعي يصعب الخروج منه.
الخوف من التغيير: الدفاع عن نظام المزرعة
القوى السياسية التي قادت البلاد إلى الانهيار تدرك تماماً أن التغيير يشكل تهديداً وجودياً لها. لذلك، فإنها تسعى بكل الوسائل إلى عرقلة أي محاولة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة. هذا الخوف من التغيير يدفعها إلى استخدام كل الأدوات الممكنة، من استغلال الخطاب الطائفي إلى فرض الشروط التعجيزية، لإبقاء الوضع كما هو.
المنظومة السياسية ترى في القيادة الجديدة خطراً على مصالحها، لأنها تمثل فرصة لإعادة تعريف دور الدولة وبناء نظام جديد يقوم على الكفاءة والنزاهة. لذلك، فإن هذه القوى تعمل على تأخير تشكيل الحكومة قدر الإمكان، أملاً في إنهاك القيادة الجديدة وإظهارها بمظهر العاجزة عن إدارة البلاد. وهي لا تكتفي بذلك. فجانب من المرتعبين من التغيير بحجة تسهيل أمر التشكيل، يرسم خرائط طريق للحكومة المقبلة ويرشدها الى الأعراف واحترامها وهي ليست إلّا أعراف من انقضّ على الطائف وأقام دولة الطائفية والموز.
فخ عدم الانسحاب الإسرائيلي: إبطاء انطلاقة العهد
في ظل الأوضاع الداخلية المتوترة، تلعب إسرائيل على وتر الوقت، مستفيدة من غياب حكومة ذات صلاحيات كاملة لتعزيز موقفها التفاوضي. كلما تأخر تشكيل الحكومة، زادت قدرة إسرائيل على فرض شروطها وإطالة أمد احتلالها للمناطق الحدودية. هذا الوضع يُحرج القيادة الجديدة ويُظهرها بمظهر العاجزة عن حماية السيادة الوطنية، مما يضعفها ويقوي المتربصين بها ويزيد من التحديات التي تواجهها.
في الوقت نفسه، يُستخدم هذا الوضع كذريعة لتعزيز خطاب المقاومة، مما يُعقّد المشهد السياسي أكثر. بدلاً من أن يكون الهدف هو استعادة سيادة الدولة، يصبح الحديث عن المقاومة وسيلة لتبرير استمرار الوضع القائم، مما يُبقي البلاد في حالة شلل تام.
التوافق على العرقلة: اتفاق ضمني بين القوى السياسية
رغم التناقضات الظاهرة بين القوى السياسية اللبنانية، فإنها تتفق على أمر واحد: منع أي تغيير جذري قد يُفقدها سلطتها. تتحول الخلافات بين الأحزاب إلى صفقات خلف الكواليس، تُستخدم فيها القضايا الوطنية الكبرى كأوراق ضغط لتحقيق مكاسب ضيقة. هذا التوافق الضمني على العرقلة يُبقي البلاد في حالة شلل سياسي، حيث لا إصلاح ولا تقدّم.
كيف تواجه القيادة الجديدة هذه التحديات؟
على القيادة الجديدة، ممثلة برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف، أن تتعامل بحزم مع هذه التحديات. البداية تكون في كشف حقيقة ما يجري للشعب، وفضح المخططات التي تهدف إلى تعطيل الحكومة ومنع الإصلاح. الشفافية والمصارحة هما السبيل الوحيد لاستعادة الثقة الشعبية، التي تُعد السلاح الأقوى في مواجهة العراقيل الداخلية والخارجية.
إضافة إلى ذلك، يجب التمسك بالدستور كمرجعية وحيدة لتجاوز التأويلات الطائفية والمصلحية. فالحكومة الجديدة يجب أن تكون حكومة كفاءات مستقلة، قادرة على مواجهة الأزمات الداخلية، والخارجية بشجاعة، ورؤية، واضحة. هذا يتطلب اختيار شخصيات تمتلك الخبرة والنزاهة، بعيداً عن أي انتماءات حزبية أو طائفية.
استعادة الزخم الوطني
لتحقيق ذلك، يجب أن يتحول النقاش من مجرد جدل حول الحصص والحقائب الوزارية إلى رؤية شاملة تعيد تعريف دور الدولة. التحدي الأكبر هو كسر حلقة الاعتماد على الميثاقية كذريعة، ووضع مفهوم جديد للوطنية يقوم على المساواة والمواطنة بدلاً من المحاصصة الطائفية.
القيادة الجديدة بحاجة إلى دعم شعبي واسع لتمرير إصلاحاتها. هذا يتطلب تشكيل قوى شعبية وطنية لا طائفية تدعم ولادة وتوجهات الحكومة العتيدة وتحريك إطلاق مبادرات ملموسة مثل تجمعات المودعين للضغط لاستعادة الأموال المنهوبة، أو الذين فقدوا منازلهم من أجل إعادة إعمار المناطق المتضررة، ومتضرري انفجار المرفأ وكل الفئات التي تستعجل إنهاء أمورها المعلقة بانتظار حكومة جديدة وبالطبع على قوى المجتمع المدني والقوى الإصلاحية عموماً إبداء مساندة دؤوبة من أجل تشكيل حكومة لا شروط عليها. كما أن إطلاق ورش شعبية تدعم عملية التغيير وتساهم في التفكير في أي وطن وأي دولة نريد. إن الشعب اللبناني ينتظر خطوات جريئة تُعيد الأمل، وتُثبت أن التغيير ممكن رغم كل التحديات.
فإما أن تنجح القيادة الجديدة في تجاوز الألغام التي تضعها المنظومة السياسية، وتطلق مساراً جديداً يعيد بناء الدولة، أو أن تستمر البلاد في حالة الشلل التي تهدد وجودها. المطلوب اليوم شجاعة في اتخاذ القرارات، وإرادة سياسية حقيقية تُعلي مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
القيادة الجديدة أمام فرصة تاريخية لتحويل هذه اللحظة إلى بداية جديدة تُعيد الأمل إلى شعب لم يعد يحتمل المزيد من الفشل. إعادة البناء على أنقاض النظام القديم ليست خياراً، بل ضرورة، وهذه هي اللحظة التي يمكن للبنان فيها أن يطلق وطنية لبنانية متجددة ويستعيد مكانته بين الدول.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com