الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
تجري الأحداث في لبنان وحوله وتتكاثر الأسئلة الصعبة ويزداد القلق وتفتقد الأجوبة الشافية، كيف ومتى ولماذا وأين؟… والكل ينتظر التاسع من كانون الثاني/يناير، موعد انتخاب رئيس للجمهورية. فهل سيحمل هذا التاريخ الجواب على انتظارات طالت؟ قد يحمل تأجيلاً أو جواباً غير شافٍ ربما لا يعتبره كثر أنه الانفراج المنشود.
في اللقاءات العامة والخاصة يدور ضجيج خافت وحارّ عن الخلاص، عن الفساد، عن سوريا وإسرائيل وإيران وتركيا، عن ترامب، عن الهجرة، عن الأزمة العالمية، عن الميول التوسعية، عن صعود اليمين المتطرف، عن أوكرانيا… وعن التاسع من كانون الثاني/يناير والحلم بدولة صغيرة جميلة سيّدة حرة مستقلة تستعيد رفاهاً عاشه كل من كان يزورها، رغم أن معظم أبنائها لم يعرفوا من هذا الرفاه إلّا اسمه. ولكن حلم العيش، كما في سائر الأوطان، لا يزال يراودهم رغم مرّ التجارب.
ما الذي ينتظر الرئيس المرتقب
يعاني لبنان من أزمات متعددة الأوجه تتداخل فيها السياسة، الاقتصاد، المجتمع، والبيئة لتشكّل أزمة شاملة تهدد استقراره واستمراره كدولة قابلة للعيش. فالأزمة السياسية تتمثل في فساد الفئات المتناوبة على الحكم والتي تعيد إنتاج سلطتها، سواء من سوء استخدام المال العام أو من النظام الطائفي الذي يعتمد المحاصصة كنظام توزيع مغانم على قيادات الطوائف، مما يعزز الانقسامات ويمنع بناء مؤسسات قادرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، ويهمّش أصحاب الكفاءات لصالح أصحاب الولاءات. إضافة إلى أن النظام الطائفي جعل من لبنان مساحة للتدخلات الخارجية التي حوّلته إلى ملعب للصراعات الإقليمية والدولية وأطاحت بسيادته.
وفي مناخ سياسي يسوده الفساد كان الانهيار الاقتصادي أخطر الأزمات حيث أدّى إلى تدهور العملة المحلية وإلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم والفقر وانهيار الأجور، مع أزمة مصرفية خانقة أدّت إلى احتجاز أموال المودعين وانعدام الثقة في النظام المالي. أما على المستوى الاجتماعي، يعاني اللبنانيون من البطالة، هجرة الكفاءات، تدهور قطاعات الصحة والتعليم، واستمرار التوترات الطائفية التي تهدد النسيج الاجتماعي. في حين أن البنية التحتية في البلاد هي في حالة انهيار شبه كامل مع انقطاع الكهرباء الحكومية بشكل شبه دائم، والصراع بات مخجلاً على المنافع المتأتية من شراء الوقود وسوء إدارة الموارد البيئية وتفاقم التلوث.
بينما تتجلى الأزمة الإنسانية في ضغوط اللاجئين السوريين والفلسطينيين، كما في تواتر نقص وغلاء الغذاء والدواء، وتردّي الخدمات الصحية والتعليمية، مما يضاعف معاناة الفئات الأكثر ضعفاً. أما الوضع الأمني فهو دائم التوتر نتيجة انتشار السلاح بشكل واسع وغياب سيطرة الدولة على العديد من المناطق، مع ارتفاع معدلات الجريمة وتزايد التوترات الإقليمية.
وفي السياق نفسه، لا بدّ من الإشارة إلى عزلة لبنان الدولية بسبب ممارسات داخلية وخارجية ليس أقلها الفساد المالي وغض الطرف عن أعمال اعتداء وتهريب مخدرات، مما أثار استياء المانحين الدوليين والدول الخليجية، وأدى إلى تجميد المساعدات الخارجية الضرورية.
في ظل هذه الأزمات المتشابكة، يواجه لبنان تحدياً وجودياً يتطلب إعادة صياغة العقد الاجتماعي والسياسي، تنفيذ إصلاحات جذرية، واستعادة الثقة مع المجتمع الدولي لضمان استقرار البلاد ومستقبلها.
لبنان في محيطه: دولة هشة في قلب التحولات الكبرى
إضافة إلى أزماته الداخلية، تعصف بلبنان رياح الجوار. فرغم صغر مساحته، يمثل لبنان أهمية جيوسياسية كبيرة، ولكنه يواجه تحديات تهدّد استقراره وسيادته بسبب صراعات إقليمية كبرى. كالنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي وتصاعد التوترات بين إسرائيل وحزب الله اللذين يضعان الساحة اللبنانية في موقف صعب، حيث تُدار توازنات معقّدة قد تعيد رسم خريطة المنطقة، يخشى لبنان أن تكون على حسابه.
كان لبنان وما زال متأثراً بقضايا اللاجئين الفلسطينيين حيث يستضيف أعداداً كبيرة منهم، وبانعكاس الصراع في الداخل الفلسطيني مع إسرائيل على استقراره. اليوم، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة وتزايد التوترات في الضفة الغربية، يتحمل لبنان ضغوطاً إضافية ضمن نسيج اجتماعي هش تتعدى تداعياته الجانب الإنساني لتشمل أبعاداً أمنية وسياسية، حيث تشكل المخيمات الفلسطينية مع حلفاء لبنانيين بؤر توتّر دائمة. كما أن لبنان يظل جزءاً من المعادلة الإقليمية الكبرى في الصراع مع إسرائيل، مما يجعله ميداناً مرشحاً دوماً للانفجار.
تداعيات التغيرات الإقليمية على لبنان
في تحولات الشرق الأوسط، يبرز لبنان كإحدى الدول الأكثر عرضة للضغوط. فالطموحات الإسرائيلية الإقليمية، والتي ظهرت مؤخراً في حرب حزب الله مع إسرائيل، حيث فاقت الخسائر المادية والبشرية اللبنانية كل تصوّر – وثمة تخوفات من انفراط عقد وقف إطلاق النار الحالي – فتكون إسرائيل في الوقت الذي تتجه فيه لمصالحة العرب قد سعت لإعدام فرص نهوض لبنان واستحوذت على حقل كاريش البحري، الأمر الذي يعكس هشاشة لبنان في مواجهة التحديات الدولية. إن التنازلات اللبنانية خلال كل المفاوضات مع إسرائيل تشير إلى ضعف أمام الضغوط الخارجية، مما يثير مخاوف حول استغلال الموارد المائية والبحرية التي تمثّل أملاً لمستقبل اقتصادي أفضل، وربما تتخلص من منافس سياسي واقتصادي.
لبنان وسوريا: اجتماع متشابه ومخاوف متجددة
يواجه لبنان أيضاً تحديات مرتبطة بالتغيرات المستمرة في سوريا، التي كانت دائماً ذات تأثير مباشر على الأوضاع الداخلية اللبنانية. فعدم استقرار الحكم الجديد في سوريا وانشغاله بترتيب بيته الداخلي، مع ارتباك بادٍ في الموقف بين تشدّد ديني وانفتاح على مختلف الجماعات الثقافية السورية، يترك الباب السوري مشرّعاً لاحتمالات غير حميدة.
إضافة إلى أن التغيرات السياسية في سوريا، مع ظهور نظام يحمل طابعاً أصولياً، تثير قلقاً وحذراً في لبنان، حيث يظل خطر تصدير هذا النموذج إلى الداخل اللبناني قائماً. فتجنيس الأجانب ومنحهم مواقع في السلطة يعكس إعادة تشكيل الهوية السورية بما يخدم أجندات مبهمة، مما يزيد من حالة الغموض وعدم الاستقرار في المنطقة.
لبنان في مهب صراعات الجوار
تسعى إيران لتعزيز نفوذها في لبنان من خلال حزب الله، ما يعمّق الانقسامات الداخلية ويزيد عزلة لبنان عربياً ودولياً، مع تدخلات تشمل الجوانب العسكرية، السياسية، والاقتصادية التي تضعف قراره السيادي. تركيا بدورها تستخدم النفوذ الناعم، عبر المساعدات والاستثمارات، خاصة في الشمال اللبناني، مع تعزيز نفوذها العسكري في المنطقة من خلال تدخلاتها في شمال سوريا والعراق وأنصار لها في لبنان، مما يجعل الأخير عرضة لتأثيرات هذا التنافس. مع حذر من أن يكون “الجبنة” التي يتقاسمها الجيران.
أي لبنان يريده اللبنانيون؟
رغم ما يعانيه اللبنانيون من أزمات متلاحقة، يبقى حلمهم بوطن يلبّي تطلعاتهم وآمالهم حاضراً في كل نقاش عن مستقبل البلاد. وطن يستعيد مكانته بين الأمم، يحترم الحقوق والحريات، ويحقق الإنصاف. لبنان الذي يحلم به أبناؤه ليس مجرّد جغرافيا، بل هو رؤية متكاملة لدولة حديثة، ديمقراطية، وإنسانية، تعزز الانتماء وتُعيد بناء الثقة مع العرب والعالم بحيث يعتبر كل عربي لبنان بلده الثاني.
يتطلع اللبنانيون إلى دولة ديمقراطية تحترم الدستور وتطبقه على الجميع دون تمييز. يريدون نظاماً سياسياً يضمن تداول السلطة، ويعزز المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات بعيداً عن المحاصصة الطائفية. الديمقراطية التي ينشدها اللبنانيون ليست مجرّد شعارات، بل آلية لإرساء العدالة والمساواة بين المواطنين، حيث يشعر كل فرد بأن حقوقه محفوظة بغض النظر عن طائفته أو منطقته الديمقراطية القوية. هي مفتاح بناء مؤسسات مستقلة وقادرة على مكافحة الفساد، واستعادة ثقة الشعب بالدولة، وفتح المجال أمام نهضة شاملة في مختلف القطاعات.
أي رئيس للبنان؟
اللبنانيون لا يريدون رئيساً لملء الفراغ الدستوري فحسب، بل قائداً يمتلك رؤية وطنية واضحة لإنقاذ البلاد من أزماتها وإعادة بناء الدولة على أسس متينة.
الرئيس الذي يحتاجه لبنان يجب أن يكون شخصية مستقلة وغير مرتهنة للخارج، يتمتع بالشجاعة لحماية السيادة الوطنية واتخاذ قرارات جريئة بعيداً عن الضغوط الإقليمية والدولية. عليه أن يضع مصلحة لبنان فوق أي اعتبار طائفي أو حزبي، ويعيد للبلاد مكانتها كدولة ذات قرار حر ومستقل.
لبنان بحاجة إلى رئيس قادر على تجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية، يوحّد الشعب حول مشروع وطني جامع. شخصية قادرة على جمع القوى السياسية والمكونات الاجتماعية تحت راية دولة المواطنة التي تضمن الحقوق للجميع، وتعيد بناء جسور الثقة بين اللبنانيين.
بعد كل هذا العرض المسهب، يتضح، ولكلّ من يمكنه الغوص في التفاصيل الأكثر تعقيداً، أمران:
- إن الرئاسة القادمة ليست لمنح الأوسمة ولا لرعاية الاحتفالات. هي تحدّ يومي لبناء وطن لا عبر المخبرين والأزلام، بل عبر بناء جادّ للمؤسسات ومعالجة قضايا الداخل والخارج.
- إن الرئاسة المعنية القادمة ليست جهد فرد بل تضافر جهود عارفة مخلصة ملمّة بشؤون البلاد، تستفيد من خبرات الخارج ولا تستنسخها.
على المرشحين الاطّلاع على ملخّص ما ورد أعلاه قبل خوض السباق، وعلى من يطرح أسماء مرشحين أن يعرف في أي جحيم يحشرهم.
لا حاجة للبحث الطويل عن الاسم إذا كنّا نرغب بإعادة الاعتبار إلى وطن، وبناء دولة، ووضع اللبنة الأولى للتغيير. لنبحث عن قائد مؤسسة تضمّ كل الكفاءات، تستعين بصاحب الخبرة والمعرفة، تبني و تغادر…
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com