الأربعاء, أبريل 23, 2025
18 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ إستشراق اقتصادي بعيون متغرّبة: قراءة لورقة البساط – ديوان

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

المثقّف الذي يبشّر بأفكار لا تنبت في أرضه يشبه المزارع الذي يزرع صحراءً عقيمة” – علي الوردي.

الإصلاح الذي لا يطال بنية السلطة هو مجرد ترميم مؤقت لانهيار قادم” –أنطونيو غرامشي.

“الاقتصاد ليس حسابات وأرقامًا، بل هو في جوهره قرارات سياسية تحدّد من يربح ومن يخسر” – كارل بولانيي.

هذا النص لا يقع في  خانة التجريح بالحكومة، وليس جزءًا من الحملة على العهد وحكومة نواف سلام، بل هو اختلاف في الرؤية وإشارة لتصويب السياسة الاقتصادية، في مرحلة حرجة تأسيسية من تاريخ لبنان المعاصر.                                                           

مفاجئًا كان ما طرحه وزير الاقتصاد، معالي الدكتور عامر البساط، في ورقته المشتركة مع الدكتور إسحق ديوان، ليس بسبب اغتراب الورقة – وما أكثر الأوراق المتغربة – بل بسبب الموقع الهام الذي يشغله أحد مؤلفيها. فالخطأ أمر وارد في أي بحث، لكن ما لا يمكن قبوله هو وهم الإصلاح عبر اقتصادٍ منفصل عن السياسة، أو تصور تغيير اقتصادي في ظل غياب الدولة، أو افتراض حلولٍ نظرية لا تمتُّ بصلةٍ إلى الواقع.

منذ عام 2019، يواجه لبنان أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ترافقت مع انهيار في العملة الوطنية، شلل في القطاعات الإنتاجية، وتراجع كارثي في مستويات المعيشة. وسط هذا المشهد المأزوم، ظهرت دراسات عديدة تحاول تقديم حلول للخروج من الأزمة، من بينها الورقة البحثية التي قدَّمها وزير الاقتصاد الدكتور عامر بساط والخبير الاقتصادي الدكتور إسحاق ديوان، تحت عنوان “نحو لبنان جديد مُنتِج“، والتي طرحت تصورًا جديدًا للنهوض الاقتصادي. غير أن هذه الورقة، وعلى الرغم من طموحها، تعاني من ثغرات جوهرية تجعلها أقرب إلى تمرين نظري منفصل عن الواقع اللبناني المركّب.

الطرح الأساسي الذي تقدمه الورقة يقوم على فكرة أن الحل يكمن في بناء نموذج اقتصادي جديد يُعيد لبنان إلى مسار الإنتاج بدلًا من الاعتماد على الريع. هذه الفكرة بحد ذاتها ليست خاطئة، بل هي ضرورة ملحة، لكن الإشكالية تكمن في الافتراض الضمني بأن تغيير النموذج الاقتصادي يمكن أن يحدث في معزل عن الاعتبارات السياسية البنيوية التي تحكم لبنان. فالورقة تتحدث عن الاقتصاد وكأنه كيان مستقل، متجاهلة أن الاقتصاد في لبنان ليس مجرد أرقام ونسب نمو، بل هو انعكاس مباشر لتركيبة النظام الطائفي والمحاصصة السياسية التي تتحكم في مساراته. إن أي مشروع اقتصادي جديد لا يأخذ في الحسبان هذه البنية السياسية سيكون محكومًا بالفشل قبل أن يبدأ.

تُصرّ الورقة على أن الاقتصاد اللبناني قبل الأزمة لم يكن ليبراليًا، بل كان اقتصادًا مُشوَّهًا يعتمد على الريع بدلًا من الإنتاج. هذا الطرح، وإن كان صحيحًا جزئيًا، إلا أنه يخدم غرضًا أيديولوجيًا واضحًا، وهو تبرير الانتقال إلى نموذج ليبرالي أكثر جذرية. لكن المشكلة لم تكن في الليبرالية نفسها، بل في السياسات التي سمحت بتفاقم الممارسات الريعية وعدم تطوير القطاعات الإنتاجية. فلبنان كان تاريخيًا سوقًا مفتوحًا بلا قيود على رأس المال، حيث ازدهرت الاستثمارات في قطاعات محددة كالمصارف والعقارات، بينما أُهملت القطاعات المنتجة. بالتالي، فإن الحديث عن ضرورة التحول إلى “اقتصاد منتج” دون الاعتراف بأن المشكلة لم تكن في النموذج السابق بحد ذاته، بل في انعدام السياسات الحامية للإنتاج، يُعتبر قفزًا فوق الحقائق.

المفارقة الأكبر في الورقة تكمن في التعامل مع المغتربين اللبنانيين وكأنهم الحل السحري للأزمة. فالورقة تبني تصورها على أن استثمارات المغتربين يمكن أن تشكل ركيزة أساسية للتعافي الاقتصادي، لكنها لا تتطرق إلى العقبات الفعلية التي تجعل ذلك غير ممكن. فكيف يمكن للمغتربين أن يستثمروا في بلد لا يوفر لهم أي ضمانات قانونية لحماية أموالهم؟ كيف يمكن إقناعهم بالمخاطرة في اقتصاد ما زال يفتقر إلى أي رؤية إصلاحية واضحة، في ظل نظام مصرفي مُنهار؟ لا يكفي التلويح بقدرة المغتربين على ضخ الأموال، بل يجب تقديم آلية واضحة لكيفية جذب هذه الأموال وإدارتها ضمن بيئة اقتصادية مستقرة. وبدلًا من إعادة إنتاج النموذج القائم على تحويلات المغتربين، كان الأجدى البحث في كيفية بناء اقتصاد يتيح فرصًا للشباب اللبناني في الداخل، بدلًا من دفعهم للهجرة ليصبحوا مصدرًا للتحويلات الخارجية.

أما فيما يتعلق بالتعليم العالي، فتشير الورقة إلى أن لبنان يمتلك “مؤسسات تعليمية من الطراز الرفيع”، لكنها تتجاهل الأزمة العميقة التي يعيشها هذا القطاع. فالجامعات الخاصة التي لطالما شكّلت فخرًا للبنان أصبحت اليوم في أزمة مالية حادة، والتعليم الرسمي ينهار تحت وطأة الإهمال، في حين تستمر الكفاءات اللبنانية في الهجرة بسبب انعدام الفرص. إن بناء اقتصاد منتج لا يمكن أن يتحقق عبر مؤسسات تعليمية منفصلة عن سوق العمل المحلي، بل يحتاج إلى استراتيجية متكاملة تربط التعليم بسوق العمل، وتُعيد الاعتبار للمؤسسات العامة التي باتت عاجزة عن أداء دورها.

واحدة من أكثر النقاط المثيرة للجدل في الورقة هي طرحها لمفهوم “اللامركزية الاقتصادية” كحل للأزمة، وهو مقترح يبدو جذابًا على الورق، لكنه يتجاهل العقبات البنيوية التي تمنع تحقيقه. فكيف يمكن الحديث عن توزيع أكثر عدالة للموارد بينما لا تزال البنية التحتية في لبنان متركزة في بيروت؟ كيف يمكن تعزيز الاقتصاد الرقمي في ظل شبكة إنترنت ضعيفة خارج العاصمة؟ إن اللامركزية ليست مجرد قرار إداري، بل تتطلب إعادة توزيع فعلية للموارد، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل نظام يكرّس التفاوت المناطقي بدلًا من معالجته.

إن جوهر المشكلة في هذه الورقة لا يكمن في الأفكار المطروحة بحد ذاتها، بل في غياب الرؤية الواقعية لتنفيذها. فالورقة تطرح أفكارًا براقة، لكنها تتجاهل التحديات السياسية والمؤسسية التي تجعل تنفيذها أقرب إلى المستحيل. فالحديث عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي مثلًا يظل بلا معنى إذا لم يُرفق بخطة واضحة لكيفية توزيع الخسائر بشكل عادل. والدعوة إلى تحرير سعر الصرف تبدو وكأنها حل جذري، لكنها تتجاهل التداعيات الكارثية لهذا الإجراء على الفئات الفقيرة، في غياب شبكة أمان اجتماعي قادرة على امتصاص الصدمات.

الخلاصة أن هذه الورقة، على الرغم من تقديمها تشخيصًا دقيقًا لبعض أوجه الأزمة، تظل أسيرة النظرة التقنية الضيقة التي تفصل الاقتصاد عن السياسة. إن المشكلة الحقيقية في لبنان ليست مجرد أزمة مصرفية، بل أزمة نظام سياسي واقتصادي متشابك، يُعيد إنتاج الأزمات بدلًا من حلّها. وإن أي خطة إنقاذ لا تأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة ستبقى مجرد وثيقة أكاديمية تُضاف إلى رفوف الدراسات التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ.

إن أي محاولة لإصلاح الاقتصاد اللبناني دون معالجة البنية السياسية الحاكمة ستبقى مجرد طروحات نظرية غير قابلة للتنفيذ. لذلك، فإن البديل لا يكمن في الانتقال الميكانيكي إلى نموذج ليبرالي أكثر تشددًا أو في إعادة إنتاج سياسات الريع بواجهات جديدة، بل في اعتماد نهج إصلاح مؤسسي شامل يُعيد هيكلة الدولة على أسس شفافة وقادرة على تطبيق السياسات الاقتصادية. هذا البديل يتطلب تحرير الاقتصاد من قبضة الأوليغارشيا السياسية عبر فرض رقابة حقيقية على التدفقات المالية، ووضع إطار قانوني يضمن العدالة في توزيع الخسائر المالية، وإعادة الاعتبار لدور الدولة كمنظم اقتصادي لا كفاعل ريعي متواطئ مع المصالح الكبرى. كما يستلزم إصلاح النظام المصرفي بطريقة لا تُحمّل الفئات الأضعف كلفة الانهيار، بل تعيد توزيع الأعباء بآليات أكثر عدالة، إضافة إلى اعتماد سياسات اقتصادية إنتاجية تستند إلى تعزيز القطاعات الصناعية والتكنولوجية بدلًا من الرهان المستمر على التدفقات المالية الخارجية. إن النهج البديل لا يقوم على حلول جاهزة بقدر ما يتطلب إعادة تعريف دور الدولة في الاقتصاد، بحيث تتحول من كيان تابع لمنظومة الفساد إلى إطار ناظم يضمن التوازن بين الاستقرار المالي والعدالة الاجتماعية.

https://hura7.com/?p=47169

الأكثر قراءة