الثلاثاء, أبريل 29, 2025
21.2 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ إعادة الودائع: صدمة إيجابية يحتاجها الحكم والحكومة

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

  • “لا يمكن لدولة أن تنهض على أنقاض حقوق مواطنيها” – جان جاك روسو
  • “الدولة التي تهمل حقوق كبارها، تكتب شهادة انهيارها” – كونفوشيوس
  • “الفساد يبدأ عندما يُقنِع الأقوياء الضعفاء بأن العدالة رفاهية” – شيشرون

تصرّ الصناديق الدولية على الحد من التداول النقدي بالعملات كونها قد يمكن استخدامها للتبييض أو لتمويل الإرهاب والاتجار بالمخدرات. من حيث المبدأ محقة هذه الصناديق، ولكن التجربة اللبنانية لا تشجع على السير في هذا المسار. بحيث بات المواطن يعتبر أن راحة البال هي في الألف التي في جيبه لا في المليون التي يملكها نظرياً في البنك. كان يمكن أن يكون تأقلم المواطن مع التبنيك أكثر يسراً لولا عملية السطو على أموال المودعين التي تولاها أصحاب المصارف مع الفاسدين من السياسيين. إن الخطوة الأولى لاستعادة الثقة لا يمكن أن تكون إلذا بإعادة الودائع وإن أي تضييق على المودعين لإلزام المودعين بالتعامل مع بنوك محددة ستبوء بالفشل. لا ثقة إلا بضمانة ورعاية الدولة. المودعون يعتبرون أن ما لحق بهم هو ظلم جائر وهو ظلم طال البلاد.

مع تمادي أزمة الودائع المصرفية في لبنان، دون تلمس نهاية لها إلّا كسب الوقت، يتنامى شعور المودعين بالغضب والخيبة تجاه مماطلة السلطات في إعادة مدخراتهم التي جمّدت بشكل تعسفي منذ عام 2019. هذه الأزمة ليست مجرد مشكلة مصرفية تقنية، بل هي كارثة اجتماعية واقتصادية تهدد بازدياد هشاشة البنية الاجتماعية في لبنان المصابة أصلاً بداء الطائفية، والمذهبية والمناطقية والعشائرية وتقويض الطبقة الوسطى التي تُعدّ ركيزة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فالمصارف التي كانت تُروّج لنفسها لعقود بأنها الملاذ الآمن للمدخرات تحولت إلى قلاع مغلقة تحتجز جنى أعمار اللبنانيين بلا خطة واضحة لاستعادة هذه الأموال.

لقد أكّد وزير المالية أن شطب الودائع غير وارد، لكنه أقرّ بأن عودتها ليست قريبة، مشيراً إلى أن الدولة ستُعيد ما تيسر، وإن لم يتيسر؟ لا جواب، ولكن ماذا عن المتقاعدين الذين أودعوا تعويضاتهم في المصارف بعد سنوات من الكدّ والعمل، ليجدوا أنفسهم اليوم أمام جدار صلب من المماطلة؟ هؤلاء الذين حرموا أنفسهم من ملذات الحياة ليؤمّنوا شيخوخة كريمة، أليسوا بحاجة إلى أكثر من مجرد مبالغ زهيدة لتغطية مصاريف مأكلهم وثمن الدواء وكلفة المعاينة؟ أي وطن هذا الذي يذلّ مسنّيه باسم الإصلاح، وأي إصلاح هذا لبؤر الفساد في المصارف؟ عبر سلب المودعين أموالهم لرسملة كبار السارقين. هل هذا يمت بصلة الى الإنصاف أو المساواة بين المواطنين في قاموس المواطنية وأمام القانون.

إن استهداف هذه الطبقة ليس مجرد خلل مالي، بل هو زلزال اجتماعي يهدد بتقويض أسس الدولة اللبنانية. فالطبقة الوسطى، التي تُشكّل العمود الفقري لأي مجتمع مستقر، انهارت في ليلة وتستمر تتآكل ببطء بفعل تجميد الودائع والتضخم والبطالة. ومن دون هذه الطبقة، تصبح الدولة هشّة أمام أي اضطراب اجتماعي، إذ تُختزل إلى صراع بين أقلية ثرية تزداد ثراءً وأغلبية مسحوقة تزداد بؤساً ترفد الطائفية بألغام انفجار. أقلية كان يمكنها يوماً التطلع الى الهجرة وقد فات الأوان. فالمجتمعات التي فقدت طبقتها الوسطى عاشت غالباً اضطرابات سياسية واجتماعية، لأن هذه الطبقة ليست مجرد مكون اقتصادي، بل هي الضامن للتوازن والاعتدال والقدرة على التكيف.

وتبرز هنا فكرة لطالما رددها المسؤولون: “لا اقتصاد من دون مصارف”. هذه العبارة التي أصبحت أشبه بشعار يُرفع في وجه كل من يطالب باستعادة الودائع، تحتاج إلى تفكيك ونقاش جاد. فالمصارف ليست غاية في حد ذاتها، بل هي أدوات لخدمة الاقتصاد. وحين تتحول هذه الأدوات إلى متاريس دفاعية عن مصالحها الخاصة، وتُمعن في حجز أموال المواطنين، تفقد مبرر وجودها. فالاقتصاد السليم يقوم على الثقة والتدفقات المالية التي تحرك الاستثمارات وتُنشّط الأسواق. وإذا ما انهارت الثقة بالمصارف، لن يعود من السهل ترميمها، مهما تعددت الوعود الرسمية. وغني عن البيان أن الدولة هي من تعيد الثقة بالمصارف لا العكس بالتأكيد.

إن المماطلة في إعادة الودائع ليست مجرد تأخير إداري، بل هي اعتداء موصوف على الحقوق الفردية، وخرق لأساسيات الأخلاق المهنية والنظام الاقتصادي الحر. ففي الأنظمة المصرفية السليمة، تُعدّ الودائع أموالاً مقدسة لا يجوز المساس بها، وتخضع لحماية قانونية صارمة. لكن في لبنان، شهدنا انقلاباً على هذه القاعدة، وتحولاً في النظرة إلى الودائع، حيث باتت تُعامل وكأنها ديون مؤجلة قابلة للتقسيط على عقود طويلة. فما معنى الحديث عن دفع مئة ألف دولار لكل مودع على مدى أحد عشر عاماً؟ أي منطق مصرفي أو اقتصادي يمكن أن يبرر القبول بهذا التصرف؟ إن مبلغ مئة ألف دولار يمكن المودع من إقامة عمل حر، بينما حينما يتم تقسيطه يتم إنفاقه على الاستهلاك. وتخطئ الطبقة السياسية إن اعتقدت أن الزمن ينسي الناس تعبها و ما ادخرت لنهاية حياة كريمة.

وإذا ما نظرنا إلى الخطة الأخرى، نرى اقتراحات تثير مزيداً من القلق، منها إعادة الودائع على مدار عشرين عاماً، وتحويل جزء منها إلى أسهم في المصارف المفلسة أو إلى سندات عديمة القيمة. هذه الإجراءات ليست سوى محاولة للالتفاف على جوهر المشكلة: الدولة استدانت، والبنك المركزي أنفق، والمصارف تورطت، والمودعون يدفعون الثمن.

أما الحديث عن صندوق لاسترداد الودائع، فهو أقرب إلى مسكن موضعي. فالصناديق التي أُنشئت في لبنان، من صندوق المهجرين إلى صندوق الجنوب، كانت دائماً مسرحاً للزبائنية والهدر. فما الضامن أن يكون مصير هذا الصندوق مختلفاً؟ وكيف نثق بآليات استرداد الودائع إذا كانت الآليات السابقة لم تفرز سوى مزيد من الضياع والشكوك؟

إن غلاة المتحمسين للحكومة الحالية قد يجدون أنفسهم في موقع النقيض إذا لمسوا تهاوناً في التعامل مع هذه الأزمة. فالمطلوب ليس وعوداً، بل خططاً قابلة للتنفيذ، و إجراءات ملموسة تعيد الثقة إلى الدولة و الى القطاع المصرفي. البلاد لا تحتاج إلى مقامرين ومغامرين، بل إلى مسؤولين شرفاء يحمون أموال الناس ويصونون حقوقهم. فالأموال لا تتبخر، بل تُسلب. والسالبون معروفون، ويجب أن يدفعوا الثمن، لأن السجن عقوبة متواضعة بحق من يستهين بأموال المواطنين.

إن مصير الاقتصاد اللبناني يتوقف على مدى جدية الدولة في معالجة هذه الأزمة. فلا يمكن ترميم الثقة بالأشخاص رغم أهميتها. الثقة تُبنى بإجراءات ملموسة، بإعادة الحقوق إلى أصحابها، وبالتوقف عن التعامل مع أموال الناس كأرقام في دفاتر غير قابلة للصرف. وحدها هذه الخطوات، مهما كانت مؤلمة في المدى القصير، يمكنها أن تعيد للدولة صدقيتها، وللمصارف دورها، وللمجتمع توازنه الذي كاد أن يضيع بين تعاميم هشة ووعود بلا أفق.

إن الافتراض القائم على أن استعادة لبنان لدوره المصرفي الوسيط في المنطقة لا يزال ممكناً هو افتراض واهم. فالعالم تغيّر، والمحيط نضج اقتصادياً وسياسياً، ولم يعد لبنان مركز الشرق أو سويسراه. لقد أدمينا بيروت كفايةً، وأهدرنا ما كان يُنظر إليه يوماً كميزة تنافسية. اليوم، المطلوب إعادة بناء الثقة داخلياً، قبل التفكير باستعادة أدوار انتهت بفعل المتغيرات الإقليمية والدولية. وإعادة هذه الثقة تبدأ بإعادة الحقوق لأصحابها، بلا تذاكٍ أو التفاف على الوقائع الصلبة التي تقول إن أموال الناس ليست ديوناً عامة، بل هي حقوق خاصة مصانة في كل دولة تحترم مواطنيها.

https://hura7.com/?p=44937

الأكثر قراءة