الأحد, مارس 23, 2025
11.7 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ إعادة بناء لا ترميم: أخلاق، مجتمع، وثقافة

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

“الترميم هو فنّ محاولة إبقاء القديم حياً، لكن إعادة البناء تتطلب هدم الأساس المتهالك والبدء من جديد”. بهذا المعنى، يذكّرنا الكاتب الفرنسي ألبير كامو في روايته “الطاعون” بأهمية التغيير الجذري بدلاً من الترميم السطحي. لبنان اليوم يحتاج إلى إعادة بناء، لا مجرد إصلاحات متفرقة تُبقيه على أساس متصدع.

الإطار السياسي والقانوني لإعادة البناء في 1701 وفي الطائف

اتفاق الطائف الذي جاء كحلّ لإنهاء الحرب الأهلية، أرسى قواعد أساسية لتحقيق السلم الأهلي وإعادة هيكلة الدولة. لكن تنفيذ هذا الاتفاق ظل ناقصاً، مما أدى إلى تكريس نظام الزبائنية الطائفية بدلاً من بناء دولة المواطنة. على الجانب الآخر، القرار الأممي 1701، الذي صدر عقب عدوان 2006، شكّل مظلة دولية لاستقرار الجنوب عبر وقف الأعمال العدائية وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. لكنه، أيضاً، لم يُنفّذ، وبقيت الدولة عاجزة عن بسط سيادتها الكاملة.

هذان الإطاران، رغم ما يحملانه من أبعاد إيجابية، يعكسان ثنائية التعطيل اللبناني: النصوص موجودة لكن الإرادة السياسية غائبة أو معطلة أو تصريف أعمال. ومع غياب التنفيذ الحقيقي، يتحول الطائف إلى وثيقة معلّقة، والـ1701 إلى اتفاق هش تخرقه المصالح المحلية والإقليمية.

البعد الاجتماعي والثقافي: تآكل العقد الاجتماعي

لم تعد الأزمة اللبنانية مجرد أزمة بنى تحتية أو اقتصادية؛ إنها أزمة أخلاقية ثقافية بامتياز. الطائفية التي كانت تُسوَّق كآلية لحماية التنوع الديني تحولت إلى نظام يولّد انقسامات عميقة ويعمّق الشرخ الاجتماعي. أما مفهوم الدولة، فقد تآكل تحت وطأة الزبائنية والمحسوبية، مما أضعف الشعور بالانتماء الوطني.

الثقافة الأخلاقية للمجتمع باتت تئن تحت وطأة التطبيع مع الفساد. تحولت “الحيلة” إلى قيمة، وصار “التحايل” على القانون وسيلة للبقاء. هذه القيم المشوّهة تسرّبت إلى النظام التعليمي، حيث أُفرغت مؤسسات التعليم من مضمونها الأخلاقي والوطني، فصارت تخرّج أجيالاً تبحث عن النجاة الفردية بدلاً من بناء المجتمع.

تحليل الوضع الراهن: أين نحن؟

  1. السياسة الخارجية: لبنان عالق بين محاور إقليمية متصارعة في المضمر وفي الظاهر. فبدلاً من انتهاجه سياسة الحياد الإيجابي منذ نهاية الحرب، أصبح رهينة لصراعات الآخرين، مما أضعف سيادته وجعله ساحة لتصفية الحسابات.
  2. السياسة الداخلية: النظام الطائفي يحكم الدولة بمنطق المصلحة الضيقة. كل قرار يُتخذ من منظور طائفي أو شخصي، مما يعرقل أي محاولة للإصلاح أو التغيير.
  3. الاقتصاد: الانهيار الاقتصادي ليس مجرد نتيجة للسياسات الخاطئة، بل انعكاس للنظام السياسي المترهل. غياب التخطيط التنموي أدى إلى انهيار القطاعات الإنتاجية وزيادة الاعتماد على التحويلات الخارجية.
  4. الثقافة العامة: الانقسام المجتمعي والثقافي جعل من فكرة “الوطن” مفهوماً مفرغاً من مضمونه، حيث يعرّف اللبنانيون أنفسهم من خلال طوائفهم ومناطقهم بدلاً من هويتهم الوطنية.

رؤية لإعادة البناء: المفاهيم والأسس

دون شك ثمة حاجات بديهية على الدولة تلبيتها ومعالجتها بشكل طارئ كإعمار ما تهدّم وتعويض المتضررين ومحاسية الفاسدين ومكافحة الفقر وإعادة النازحين واللاجئين. كما من البداهة تطهير الإدارة وإعادة هيكلتها لمصلحة الدولة الراعية لا الشركة ولا دول الطوائف والقبائل الكثيرة في دولة لبنان. وبالضرورة، من ضمن سياق عملية إعادة بناء لبنان، إيجاد رؤية شاملة تنطلق من الأسس التالية:

  1. السيادة الوطنية
  • تنفيذ القرار 1701 كاملاً وبسط سيادة الدولة على كامل أراضيها.
  • تبنّي سياسة الحياد الإيجابي التي تنأى بلبنان عن صراعات المحاور، مع تحديد واضح للعلاقة مع الجار الجنوبي.
  • إعادة بناء العقيدة الدفاعية للدولة، بحيث تكون هي وحدها صاحبة السلاح الشرعي.
  1. الدولة المدنية
  • إلغاء النظام الطائفي تدريجياً عبر خطة واضحة تُبنى على تعزيز مفهوم المواطنة.
  • إصلاح النظام الانتخابي ليعكس التمثيل الصحيح للشعب اللبناني دون قيد طائفي.
  1. إصلاح القضاء
  • إقرار قانون استقلالية القضاء الذي يضمن نزاهته وحمايته من التدخلات السياسية.
  • إعادة هيكلة الهيئات الرقابية لضمان الشفافية والمحاسبة.
  1. النهوض الاقتصادي
  • تنمية القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة وتكنولوجيا المعلومات.
  • إعادة هيكلة القطاع المصرفي بما يضمن حقوق المودعين.
  • تفعيل الشراكات الاقتصادية مع العالم العربي والدولي بما يخدم المصالح الوطنية.
  1. الثقافة والتعليم
  • إصلاح المناهج التعليمية لتكون مبنية على قيم المواطنة والعدالة.
  • دعم الفنون والإبداع كوسيلة لإعادة بناء الهوية الثقافية اللبنانية.
  • تعزيز دور الجامعة اللبنانية كمؤسسة وطنية تجمع أبناء الوطن.

من هم البنّاؤون؟

تحتاج إعادة بناء لبنان إلى بنائين جدد، أصحاب رؤية وكفاءة وأخلاق وطنية. هؤلاء البناؤون يجب أن ينتموا إلى:

  • الشباب الواعد: من الكفوئين الذين عاشوا المعاناة و يحملون طاقة التغيير ويتحلّون بالوعي الوطني بعيداً عن التبعية الحزبية والطائفية.
  • النخب الفكرية: الأكاديميون والمثقفون الذين يقدّمون رؤى استراتيجية تعزز مفهوم الدولة.
  • المجتمع المدني: الذي أظهر قدرة على المبادرة وتحمل المسؤولية في ظل غياب الدولة.
  • القطاع الخاص: الملتزم بالحوكمة والمساهمة في بناء اقتصاد منتج.
  • القوى الأمنية والعسكرية: التي تؤمن بالدور الوطني للدولة وتلتزم بحماية سيادتها.

ليس البناؤون بالضرورة وزراء و نواب. هم عمّال ورشة البناء الواضحة الخطط والأهداف. هي حالة النهوض العامة التي عليها مواكبة البناء بكل تجرّد وطني وهي كل اللبنانيين إن شاؤوا.

الأمل في الإرادة الجماعية

إعادة بناء لبنان ليست مشروعاً تقنياً أو سياسياً فحسب، بل هي عملية شاملة تبدأ بإعادة ترميم العقد الاجتماعي وتأسيس ثقافة جديدة تقوم على سيادة القانون والمواطنة. إنها رحلة شاقة تتطلب تضافر الجهود بين القيادة السياسية والمجتمع المدني والشعب.

كما قال الكاتب جبران خليل جبران: “ويلٌ لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر”. لبنان يحتاج اليوم إلى أن ينسج قراره الوطني بأيديه، وأن يعيد بناء دولته على أسس صلبة تجعل من التنوع قوة، ومن الانتماء طوق نجاة.

آن الأوان للبنان أن يكتب فصلاً جديداً في تاريخه، فصلاً لا يقوم على الترميم، بل على إعادة البناء الجذري، ليكون وطناً يستحقه أبناؤه.

للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com

https://hura7.com/?p=42211

الأكثر قراءة