الأربعاء, مايو 14, 2025
12.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

احتلال الحقيقة واستباحة الوطن: المجتمع المدني في مواجهة الخراب

الحرة بيروت ـ بقلم ـ د. بشير عصمت

الحقيقة لم تُقتل برصاص، بل شوهت بكلمات، وطُمست بمنصات، واختزلت في تقارير تمويلية كتبتها شركات لا تعرف وجع الناس. الحرب اليوم لا تحتاج رشاشات؛ تكفيها قناة، ومصرف، وناشط يعرف من أين تؤكل ملفات المشاريع. والنتيجة؟ مجتمع مسحوق، وناس محبطون، ومجتمع مدني مروّض، يتلقى الصفعة تلو الأخرى دون أن يعلن العصيان.

بداية السقوط لم تكن بانفجار مرفأ أو بنك، بل حين تحوّل الوعي إلى مرآة مشروخة. صار الناشط مستشارًا، والمتمرد مدير مشروع، وتماهى من يفترض به أن يصيح مع السلاح باسم الممانعة، لا عن قناعة بل عن مسايرة، أو بحث عن رعاية. أُفرغت مفاهيم المقاومة من معناها، وتحوّل السلاح من رمز لتحرير الوطن إلى أداة احتقار للدولة، ومصادرة للقرار، ومصدر ترهيب لمن تسوّل له نفسه أن يسأل: لمن هذا السلاح؟ ولماذا نُقحم في معارك لم نخترها؟

وفي قلب هذه الصورة، تتربّع المصارف، لا كمجرد قطاع، بل كميليشيا مالية تدير عمليات نهب منظّمة بصمت، تستولي على جنى أعمار الناس، وتشتري القضاة، وتحاصر الصحافة، وتُشرعن الجريمة عبر فقهاء اقتصاديين وأكاديميين قرروا أن يلعبوا دور المحلل بدل الشاهد. هؤلاء ليسوا مخطئين في التقدير؛ إنهم شركاء في الفعل. حين يصبح الإعلامي ناطقًا باسم المصرف، والخبير الاقتصادي سمسار تمويل، والأكاديمي غلافًا ناعمًا لقرارات النهب، فإننا لا نعيش أزمة فقط، بل نهاية للضمير.

وفي ظل الغياب التام للدولة، أو ما تبقى منها كهيكل أجوف، قيل لنا إن المجتمع المدني هو الرهان. لكنه لم يُطلب منه بناء وطن، بل إدارة أزمة، تلطيف فشل، ملء فراغ. ومن رفض الانصياع، تم تخوينه. من رفع صوته، تم استبعاده. من اقترب من المحرّمات – السلاح، القضاء، المصرف – صُنّف متطرفًا أو شعبويًا أو غير ناضج سياسيًا. ما حدث لم يكن تمكينًا للمجتمع، بل تدجينه، إخضاعه، تفكيكه من الداخل، وتحويله إلى مزرعة رمزية تُرعى وتُراقب.

من يحتكر القوة يختطف الشرعية، ومن يحتكم إلى السلاح لا يبني بلدًا، بل يقيم مزرعة طائفية بإمرة الحزب. والمفارقة أن من يدّعي المقاومة يرفض أن يُسأل، ومن يرفع راية فلسطين يبتز الناس في الجنوب، يهدد، يصادر، يطلق النار ثم يطلب التعويض. كأننا أمام مقاولة دمويّة تتحدث باسم العقيدة، وتحاسب باسم الولاية.

وفي الساحة الموازية، يظهر المجتمع المدني مُجهدًا، متّهمًا من الجميع. يتّهمه الخصوم بالارتهان للخارج، وتحمّله قوى التغيير فشل الثورة، وتُحمّله الطبقات الشعبية غياب الأمل. لكنه ليس واحدًا، بل فسيفساء من الطليعة والانتهازيين، من المخلصين والمتسلقين. فيه من يقاوم حقًا، ومن يحوّل كل منصة إلى عرض تمويل. وفيه، رغم كل شيء، تلك البذور التي يمكن أن تُثمر، إن كُسرت بنية الفردانية، وطُوّرت التنظيمات، وتأسست شبكات جديدة قادرة على الانتقال من رد الفعل إلى فعل التغيير.

فما نحتاجه ليس استنساخًا لمنظمات قديمة، بل تحالفًا مدنيًا تغييريًا لا يُشبه السلطة في الشكل ولا في المضمون، يعرف كيف يُخطئ ويتعلم، لا يخاف من مواجهة، ولا يستسلم لتسوية، ولا يبيع الدم بشعار. تحالف يعيد للسياسة معناها النضالي، وللوطن حقيقته التاريخية، وللعدالة مكانها خارج مكاتب القضاة المأجورين.

وما لم يحصل هذا التحول، ستظل المشاركة السياسية للمجتمع المدني مجرد قشرة، تُستعمل كواجهة ليُقال إننا في ديمقراطية، فيما القرار يُصنع في طهران، والتمويل يُحدد من بروكسل، والسلاح يُشهر من الضاحية، والاعتراض يُكمم من الإعلام. لا يمكن أن يكون المجتمع المدني طاولة مستديرة على أنقاض بلد محترق.

المجتمع المدني ليس طاهرًا بالكامل، ولا فاسدًا بالكامل. هو مرآة المجتمع نفسه. لكنه ما زال المساحة الوحيدة التي يمكن الرهان عليها لإعادة بناء سؤال: من يحكم؟ ولماذا؟ وكيف؟ هل نرضى بوطن تحكمه البنادق؟ أم نبدأ المواجهة باسم من بقي من الأحرار؟

تحطيم المرآة

لم تكن بداية الانهيار حين انفجرت المصارف ولا حين تعطّلت الدولة، بل حين سقطت المرايا. حين قدّم المجتمع المدني كمنقذ مزيف، يُطرح في السوق السياسي كمنتج خارجي محايد، بينما هو في الحقيقة أداة داخلية مخترقة. قيل للناس إن المجتمع المدني هو الحل، لكن أحدًا لم يسأل: أي مجتمع؟ وأي مدني؟ هل هو ذلك الذي تُصاغ استراتيجيته في تقارير تمويلية؟ أم الذي يستبدل النضال بالـ”بزنس بلان” ويحسب فعاليته بعدد الورشات؟

المقاومة معكوسة

حين تُفرغ الكلمات من معناها، تُملأ بالخراب. هذا ما جرى مع مفردة “المقاومة” في لبنان. الكلمة التي صيغت في قاموس التحرير، حُوّلت إلى درعٍ لحماية سلاح لا يخضع للدولة بل يحتقرها، ويتعامل معها كعائق مرحلي. وفي قلب هذا الاضطراب، لم يسأل أحد: من يقرر الحرب؟ من يملك الحق في توقيتها؟ من يتحمل نتائجها؟ من يُهجر، ومن يُعوض، ومن يُحاسب؟ وهل الدولة شريك، أم مجرد دافع فواتير؟ هل الجنوب منطقة لبنانية، أم خط تماس دائم لخدمة أجندة لا علاقة لها بأهلها؟

المصارف كميليشيا مالية

لم تطلق المصارف النار، لكنها قتلت كل يوم. لم تخطف أحدًا من الشارع، لكنها احتجزت شعبًا بأكمله داخل حسابات مشلولة، ووعود مسروقة، ومستقبل مجمّد خلف شاشات بلا رصيد. المصرف في لبنان لم يكن أداة إنتاج ولا مساحة ثقة، بل تحول إلى ذراع اقتصادية لطبقة حاكمة، وميليشيا مالية تلبس ثوب القانون وتدوس به على دستور منسي. تحت أعين الدولة، بل بتواطؤها، نهب القطاع المصرفي عشرات المليارات من أموال الناس، ثم خرج على الشاشات بوقاحة المنتصر، يتحدث عن “إعادة هيكلة” كمن يعيد ترتيب غنائمه بعد المجزرة.

لم تكن هذه المصارف كيانات تجارية تخطئ وتصيب. كانت، وما زالت، أدوات تسلّط وابتزاز، شريكة في هندسات الفساد، ومموّلة لطبقة سياسية قررت أن تحكم إلى الأبد أو تفلس البلد. وهي لم تفعل ذلك وحدها. فعلته مع قضاة باعتهم الحسابات، مع إعلاميين يُديرون نشرات على قياس المتنفّذين، مع اقتصاديين يرتّبون الأرقام كأنها شعارات، لا كحقائق دامغة، ومع محللين يُجمّلون الخراب ويزيّنون السرقة باعتبارها “ضرورة وطنية”.

والمجتمع المدني؟ لقد تعايش كثيرون معه، وبعضهم باركه، وبعضهم موّله. وأخطر ما في الأمر أن النقاش حول المصارف اختُزل في بعض الأرقام، أو في سردية فنية عن “العجز” و”الودائع” و”التحديات البنيوية”، دون أن يُسمى الفاعلون، ودون أن يُفتح الملف على حقيقته: شبكة نهب مُحكمة بين سياسيين ومصرفيين وإعلاميين وقضاة، تدير البلاد كأنها لعبة روليت، وتضحك على المودعين كما يضحك المقامر على الضحية التي لا تعرف أنها رهينة.

وما لم يسمِّ المجتمع المدني هذه الجرائم بأسمائها، ويكشف شبكات المصالح خلفها، فهو متواطئ، وإن بصمته. وما لم يكن قادرًا على فضح هذه السلطة المالية كما يفضح الميليشيا العسكرية، فسيفشل في أن يكون بديلًا، وسيبقى على هامش اللعبة، ينظم مؤتمراته على شرف من نهب البلد، ويأخذ الصور التذكارية مع قتلة يرتدون البذلات.

خدعة المجتمع المدني

شيئًا فشيئًا، تحوّل المجتمع المدني من مساحة مواجهة إلى حقل إغاثة، من جبهة ضغط إلى طاولة تنسيق. من يلتزم بالشروط يُكافأ. من يرفض يُقصى. من يصرخ يُوصم بالتطرف. من يحرّك الشارع يُتّهم بالشعبوية. أما من يلتزم الصمت، أو يراعي التوازنات، أو يعيد صياغة المعاناة بلغة تقارير مانحيه، فهو “الفاعل الرصين” و”الشريك الجدير بالثقة”.

هكذا جرى تدجين المجتمع المدني. ليس بالقمع، بل بالتمويل. ليس بالمنع، بل بالاحتواء. ليس بإسكاته، بل بتحويله إلى صدى للسياسات التي صنعت الكارثة. بعض المنظمات أصبحت وكالات استشارية مقنّعة. بعضها الآخر صار مراكز دراسات بلا موقف. وبعضها غرق في عقلية المشاريع، فنسِي الفكرة، والناس، والأرض، وتحوّل إلى آلة تدوير أوراق لا ترى المأساة إلا من خلف شاشة إكسل.

وفي هذا المشهد، اختفت السياسة بوصفها صراعًا، وتحولت إلى ملف تقني، وأُجهضت المفاهيم الحية: المواجهة، المحاسبة، العدالة، الاستقلال. واستُبدلت بـ”النتائج القابلة للقياس”، و”المخرجات التنموية”، و”أدوات المتابعة والتقييم”. وهكذا، جرى قتل السياسة في رحم المجتمع المدني، لا بقوة السلاح، بل بلغة الإدارة.

السلاح خارج الدولة = لا دولة

لا يمكن أن تقوم دولة وهناك من يفرض شروطه بالقوة. لا جدال في ذلك. من يختطف القرار السيادي، ويستأثر بحق الحرب والسلم، ويتصرّف كأن الأرض ميدان خاص لا تبلغه سلطة ولا يراقبه قانون، لا يمكنه الادعاء بأنه يدافع عن الوطن. فالوطن، في جوهره، عقد سياسي. وكل عقد لا يستوي تحت كنف الشرعية الواحدة، هو عقد باطل، مغشوش، مشروط بالسكوت والتقية والتهديد.

السلاح خارج الدولة ليس رمزًا. هو واقع اقتصادي، اجتماعي، قضائي، إداري، إعلامي. هو شبكة نفوذ، وعلاقات، وامتيازات، وحصانات. هو عقلية لا تقبل المحاسبة. هو مؤسسة فوق المؤسسات. هو صوت يعلو ولا يُناقش. هو المعيار الوحيد للولاء. فإما أن تصمت، وإما أن تُخَوَّن. إما أن تنضم، أو تتهم بأنك تخدم العدو. هكذا تُخاض المعركة بلغة الثنائيات المطلقة، لا بصوت الناس، بل بفوهة البندقية.

وفي ظل هذه المعادلة، يصبح نقد السلاح جريمة، ومساءلة “المقاومة” خيانة، والسؤال عن القرار حربًا على الوحدة. أما ضحايا المواجهة، من المهجّرين، من أبناء الجنوب، من الذين خسروا منازلهم وحقولهم ومستقبلهم، فلا صوت لهم، ولا رأي، ولا حتى حق بالبكاء.

والمجتمع المدني؟ بعضه خائف. وبعضه خاضع. وبعضه متواطئ بالصمت، أو بالاحتيال اللغوي، أو بالمراوغة التي تبرر باسم الواقعية ما لا يُبرَّر. وهذا التواطؤ لا يقل خطورة عن الهيمنة. لأن من لا يعترف بأن السلاح الخارج عن الدولة هو أصل الفساد، هو شريك في انهيار الدولة.

مَن يحكم باسمك؟

من قال إن هؤلاء الذين يحتلون الشاشات هم الشعب؟ من فوّض هذه النُخب المتنقلة بين بروكسل وباريس لتتحدث باسم الجائع أو المزارع أو الأم التي تنام على شمعة؟ من سمح لهؤلاء أن يصوغوا الأولويات، أن يقرّروا متى نغضب ومتى نصمت، متى نفاوض ومتى نستسلم، متى نطالب ومتى نتسوّل؟

في لبنان، لا صوت يعلو فوق صوت المهرجان. لا ندوة تُقام إلا بتمويل مشروط، ولا حملة تبدأ إلا بميزانية تضمن “التواصل الإستراتيجي”. والنتيجة: تمثيل بلا تمثيل. ناس بلا صوت. مجتمع مُختزَل في نخبة ناعمة، تعرف اللغة، وتحترف الأداء، وتُتقن اللعبة، لكنها لا تجرؤ على مواجهة الحقيقة.

هذه النخبة ليست فاسدة بالضرورة، لكنها مشروطة. ليست عميلة، لكنها مدجّنة. ليست خائنة، لكنها تخشى أن تخسر تمويلًا إذا ما رفعت السقف. وفي هذا الخوف، تُقزّم السياسة، وتُفرغ الثورة من معناها، وتُحوّل الشعب إلى “مستفيد”، والمطالب إلى “توصيات”، والغضب إلى “مؤشر رضى”.

وحين يخرج المهمّشون عن صمتهم، لا يُستَقبلون. بل يُسخَر منهم. يُتهمون بالشعبوية، بالفوضى، بعدم الجهوزية. كأن السياسة حكرٌ على من درسها في الخارج، لا على من خبرها بلحمه الحي. كأن التغيير لا يُصنَع في الشارع، بل يُصنَع في غرفة مكيفة. كأن الوطن لا يُبنى بالدم والدموع، بل يُبنى بورقة عرض تقديمي، وشعار إنساني يصلح لكل المواسم.

الإصلاح الزائف

كم من “خطة إصلاحية” طُرحت؟ كم من “خارطة طريق” كُتبت؟ كم من وثيقة “إنقاذ” تمّت قراءتها في المؤتمرات، بينما في الخلفية تُسرق الودائع، تُخنق القضايا، وتُباع الأرض؟ لا خطة تُكتب بأدوات المجرمين. لا إصلاح يُولَد من صُلب المنظومة. لا إنقاذ من أناسٍ لا يريدون النجاة إلا بشروطهم.

والمجتمع المدني، إن لم يرفع الصوت عاليًا ضد هذه المهزلة، فهو شريك فيها. من لا يُسمّي من نهب الناس، لا يحق له أن يتحدث باسمهم. من لا يطالب علنًا باستعادة أموال المودعين، وتفكيك نظام الإفلات من العقاب، ومحاسبة شبكات المال السياسي، لا يصلح أن يكون ممثلًا لأوجاع الناس.

الإصلاح الذي لا يُقصي الفاسدين، هو عملية تجميل لهم. المحاسبة التي تُؤجَّل باسم “الاستقرار”، هي غطاء لاستمرار الجريمة. التغيير الذي لا يصطدم بالبُنى الراسخة، هو تعديل في ديكور الخراب. والمجتمع المدني الذي لا يواجه كل هذا بالاسم والصوت، يتحول إلى ما تريده السلطة: ديكور ناعم، مهدّئ عام، أداة امتصاص للغضب.

أبواق مموّلة

في هذا البلد، لم تعد الأبواق تزمّر فقط للزعيم. صارت تُنظّر للسرقة، وتُجمّل الانهيار، وتُعقّم الجريمة. الإعلام لم يعد رقيبًا، بل شريكًا. لم يعد يبحث عن الحقيقة، بل يصنعها على قياس مموليه. البرامج الحوارية صارت استعراضًا مدفوعًا. الضيوف معروفون، والآراء مُعدَّة سلفًا، والمواقف موزّعة مسبقًا على المقاعد.

بعض الأبواق تعلّقت بالثورة، رفعت شعاراتها، تبنّت لغتها، ثم قبضت الثمن بالدولار الجديد، وأعادت تدوير خطابها بما يناسب “شراكة الاستقرار”. الثورة بالنسبة لهم كانت موسمًا، والتمويل كان غنيمة، والحراك محطة لتلميع الاسم والصورة قبل العودة إلى الحضن الدافئ: حضن المنظومة.

وحين يُطلَب من أحدهم أن يصرخ، يهمس. وحين يُفترض أن يواجه، يتذاكى. وحين يُنتظر منه أن ينحاز، يُحايد. الحياد هنا ليس نزاهة، بل اصطفاف خفيّ. الحياد هو ألا تقول الحقيقة. هو أن تتجاهل الجريمة حين يرتكبها الأقوياء. أن تُصوّر القمع كواقعية، والانهيار كقدر، والذلّ كمسار “إصلاح تدريجي”.

والنتيجة: شعب مخدَّر. جمهور مشوَّش. رأي عام ملوَّن على هوى “التوجّه الاستراتيجي”. حرب على الوعي، تُخاض بالأرقام المزوّرة، والوقائع المجتزأة، والتقارير الدولية التي لا ترى الفقر إلا رقمًا، ولا الانهيار إلا فرصة “لإعادة الهيكلة”.

لا بد من تسمية الأشياء: الإعلام الذي لا يسأل من فجّر المرفأ، ولا يلاحق من هرب أموال المودعين، ولا يواجه من يهدد الدولة بالسلاح، هو إعلام خائن. الأكاديمي الذي لا يقف إلى جانب الناس في وجه السلطة، هو واجهة لسلطة خائفة من الناس. والناشط الذي يخشى أن يغضب الممول، لا يستحق أن يتحدث باسم أحد.

الهروب الكبير من الحقيقة

الحقيقة في لبنان ليست غائبة، بل مخنوقة. تُفصّل على قياس اللحظة، وتُجمّل بما يكفي كي لا تثير الشك، وتُدسّ بما يكفي كي لا تثير الغضب. مَن حذف الضحية من الرواية؟ من أعاد ترتيب الوقائع كي يبدو الجلاد أقل وحشية؟ من هندس اللغة لتبدو الخيانة حكمة، والسرقة إصلاحًا، والعمالة توازنًا؟ من أعاد رسم الحدود بين المأساة والتسوية، وبين الجريمة والمخرج السياسي؟ إنها الآلة الكبرى لصناعة التضليل، بأذرعها المتعددة: خبراء، إعلام، منظمات، بعثات أممية، و”صنّاع سردية” محترفون.

يُباعنا “النموذج اللبناني” في المؤتمرات الدولية على أنه قصّة صمود. صمود مَن؟ ممن؟ بأي كلفة؟ ومن قرر أننا نريد الصمود لا العدالة؟ من سمّى موتنا اقتصادًا؟ من قرر أن وجعنا فرصة؟ من قرأ على وجوهنا نصًا لم نكتبه، ووقّع باسمنا على ورقة لم نرها، وتفاوض نيابة عنّا على شروط لم نوافق عليها؟

لا أحد من الخارج يستطيع أن يفرض شيئًا على شعب حيّ. الكارثة ليست في أن هناك من يُملي علينا، بل في أن هناك من يترجم هذه الإملاءات إلى سياسات محلية. من يضع الطابع اللبناني على وصفات الذل. من يروّج للخضوع كحكمة. من يقنعنا أن السيادة يمكن أن تُؤجل، وأن العدالة يمكن أن تنتظر، وأن الفقر يمكن أن يُدار لا يُقتلع.

إنه التواطؤ الممنهج، لا الخوف فقط. إنه أن تعرف، وتكذب. أن ترى، وتُنكر. أن تُدفن الأمل كي لا تنهض الأسئلة. لكن لا مواجهة بلا حقيقة. ولا حقيقة بلا جرأة. لأن كل تأجيل للحقيقة، هو تمديد لعمر الكارثة.

استعادة المعنى

أن تفقد وطنك مرة، كارثة. أن تفقد المعنى، فذلك الانهيار الحقيقي. لبنان لم يَسقط فقط اقتصاديًا أو سياسيًا، بل سقط معنويًا. فَقَد معنى الدولة. فَقَد معنى السيادة. فَقَد معنى العدالة. لم يعد المواطن يسأل “كيف نبني؟” بل “لماذا نبني؟”، ولم يعد يصرخ “أين حقي؟” بل “هل ما زال لي حق؟”.

استُخدمت اللغة كأداة تدمير ناعم. قيل لنا إن السيادة “نقاش داخلي”. إن الميليشيا “مكوّن مقاوم”. إن الفساد “تراث إداري”. إن الانهيار “فرصة إعادة هيكلة”. حتى الجوع سُمِّي “تحولًا اجتماعيًا”، والهجرة “استثمارًا بالاغتراب”.

لكن لا سياسة دون استعادة المعنى. لا عدالة دون وضوح المفاهيم. لا مشروع مدني دون تفكيك لغة التبرير والخداع. المجتمع المدني ليس مشروعًا إنقاذيًا تقنيًا. إنه مشروع معنى. مشروع لتفكيك سردية المنظومة، وفضح الخطابات الزائفة، وكسر احتكار اللغة، وإعادة الاعتبار للناس كأصحاب رأي، لا كمتلقين لسياسات الهوان.

الخطوة الأولى في استعادة المعنى، أن نقول: لا. لا للمفردات المصنّعة في مكاتب الديكتاتوريات المقنّعة. لا للمصطلحات المهندسة في مختبرات النخبة النيوليبرالية. لا لتلميع الخراب باسم الواقعية. لا لإعادة تدوير الانكسار وتسويقه كنجاة.

من نقد المجتمع إلى تحريره

المجتمع المدني ليس كيانًا خارج الناس، بل هو الناس حين يرفضون الصمت، وينظمون احتجاجهم، ويحملون الذاكرة كسلاح، لا كشاهد قبر. المجتمع المدني ليس منظمات فقط، بل فعل يومي يتجسد حين يتحول الغضب إلى مشروع، والوجع إلى تنظيم، والرفض إلى بديل.

لكن هذا المجتمع، الذي رُفع إلى مصاف المعجزة، ثم أُسقط إلى درك الشبهة، يستحق اليوم أكثر من التمجيد وأكثر من النقد. يستحق التحرير. تحريره من وهم الحياد. تحريره من ثقافة التمويل المشروط. تحريره من استبداد الفرد الرمز، ومنطق “القائد المؤسس” الذي لا يُسأل ولا يُحاسب. تحريره من النخبوية المعزولة، التي تحتقر الجمهور، وتستعلي على المقهور. تحريره من ثقافة الموسمية، ومن وهم الحملات الإعلامية.

إن معركة التحرير تبدأ من إدراك أن المجتمع المدني ليس لوحة شرف، بل خندق مواجهة. ليس مظلة للعمل الخيري، بل منصة للفعل السياسي النقدي العابر للطوائف والمناطق. لا قيمة لمجتمع مدني لا يُقلق المنظومة، لا يفضح تحالف المال والسلاح، لا يزعج الأبواق، ولا يكسر جمود الساحة.

من دون هذا التمرّد، سيظل المجتمع المدني تفصيلًا وظيفيًا في منظومة تحسن امتصاص النقد، وتدوير الاعتراض، وترويض الفعل الجماهيري. ومن دون هذا التحدي للذات، سيظل مرآة للسلطة، لا كابوسها.

التحرير هنا فعل مزدوج: أن يتحرر المجتمع المدني من نفسه، ومن تشوهاته، ومن استقالته الأخلاقية. وأن يتحرر البلد به، لا منه.

التحرير يبدأ من القرار. من لحظة الرفض. من أن نقول بصوت عالٍ: نحن لسنا صورة ناعمة لسلطة عنيفة، ولسنا موظفين في شركات سياسية تديرها السفارات.

لا وطن مع المساومة، ولا كرامة مع التذاكي، ولا تغيير مع الصمت

لم يعد المجتمع المدني حقل تجارب. ولم يعد مقبولًا أن يُختزل إلى دور المراقب أو الشاهد أو المموّل أو المحتج الموسمي. إمّا أن يكون قوة سياسية تواجه، تفضح، تزعج، وتقتحم، أو فليصمت إلى الأبد. إمّا أن يكون ذاكرة المقاومة الحقيقية، أو يظل ديكورًا يُستخدم لتجميل جثث الدولة.

لا مقاومة خارج الدولة. ولا سيادة مع سلاح غير شرعي. ولا عدالة مع قضاء مرتهن. ولا إصلاح مع مصارف تبتز الناس بلقمة عيشهم ثم تطالب الدولة بتعويضها على جرائمها.

ما نحن أمامه اليوم ليس خيارًا بين حلول، بل بين كرامة وانكسار. بين سيادة واستتباع. بين مجتمع حيّ يعيد إنتاج السياسة من تحت، أو طبقة مدجنة تعيد إنتاج المأساة باسم الواقعية.

المنظومة لن تسقط وحدها. تحتاج من يدفعها إلى الحافة. وكل ما كُتب في هذا النص ليس تنظيرًا، بل سلاحًا. كل فكرة هنا رصاصة في صدر الخداع، وكل جملة خندق في معركة وعي. من لا يستخدم الكلمة لمواجهة الطغيان، سيتحوّل إلى عبد يبرّر الطغيان.

لبنان لا ينتظر المنقذ. لبنان ينتظرنا.

دكتور بشير عصمت: باحث وأستاذ جامعي في التاريخ الاجتماعي والسياسات العامة

 

رابط المقال: https://hura7.com/?p=50569

رابط العدد: https://hura7.com/?p=50468

 

الأكثر قراءة