الثلاثاء, أبريل 22, 2025
17.9 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ البلدية ليست غنيمة: عن الانتخابات، المال، والمواطنة الضائعة

الحرة بيروت ـ بقلم الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

هذا النص ليس لعرض ارتكابات البلديات الكبرى أو الصغرى ولا لفضح الإثراء غير المشروع، إنما لدعوة المواطن إلى حسن الاختيار. فالمجلس البلدي ليس محفل وجهاء انتخبهم الناس لوضعهم في مصاف الزعماء، بل أوكل الناخبون لهم، بموجب التكليف، مهمة الخدمة  العامة بأمانة. وكل سلوك مخالف يعرضهم للمحاسبة الصارمة.

البلدية ليست ترفًا إداريًا، وليست حاشية خدماتية، ولا امتدادًا لعصبية أو شبكة زبائنية. هي الخلية الأولى في جسد الدولة، والميدان الأقرب إلى الناس، حيث تُصنع السياسات التي تؤثّر على تفاصيل الحياة اليومية: من إنارة الشوارع، إلى تصنيف الأراضي، إلى فرز النفايات، إلى الرصيف المكسور، والمدرسة المهترئة، والشجرة اليابسة في ساحة البلدة. في دول القانون، تُبنى المجتمعات من القاعدة، من بلدية فاعلة، شفافة، منتخبة بحرية، وتُحاسب من دون هوادة. أما في دول الفشل والتبعية، فالبلدية تُختزل بزعيم محلي، أو متنفذ في عائلة، أو رفيق حزبي، ينال الموقع على قاعدة الولاء، الكيد العائلي، الخدمات الشخصية أو الرشوة على أشكالها، لا على أساس الكفاءة.

في لبنان، للأسف، تسود عقلية خطيرة: أن البلدية تركة، أو غنيمة، أو “مركز نفوذ” يُوزَّع بالتفاهم، أو يُنتزع بالقوة. هذه النظرة المشوّهة للعمل البلدي لا تقل خطورة عن الطائفية التي نخرت النظام السياسي. فهي تمعن في تقزيم الشأن العام، وتُلبسه لباسًا شخصيًا أو عائليًا، وتجعل من موقع الخدمة موقعًا للجباية، ومن الصلاحية فرصة للمنفعة، ومن المشروع التنموي أداة انتخابية. هذه العقلية هي التي حوّلت البلديات إلى أدوات تابعة، تفتقر إلى التخطيط، وتنزف مواردها في مزاريب المحسوبية، والتلزيمات، والتوظيفات الموسمية، والتواطؤ مع كبار الممولين.

نحن أمام استحقاق بلدي يُفترض أن يُجرى في أيار المقبل، ما لم يُؤجّل تقنيًا. ومع اقتراب هذا الاستحقاق، تعود الوجوه ذاتها، المرشحون أنفسهم، يحملون الخطاب ذاته، ويعرضون علينا الإنجازات التي ما عدنا نراها. يعودون ليقولوا إنهم خدموا البلدة، لكن أحدًا لا يقدّم كشفًا بثرواته قبل وبعد الولاية، ولا أحد يعرض تقريرًا ماليًا موثقًا عن حسابات البلدية، ولا أحد يملك الجرأة ليشرح لماذا فُقدت الملايين، وكيف تمّ التلاعب بالتصنيف العقاري، وأين ذهبت أموال الاتحاد البلدي، ومن موّل المشاريع ولماذا، وما هو المقابل السياسي أو الانتخابي لهذا التمويل.

في بلدات كثيرة، نشهد عملية تواطؤ هادئة بين أهل المال والسياسة، حيث يُموَّل بعض المرشحين من أصحاب المصالح، مقابل وعود ضمنية: تخفيض في رسوم البناء، إعفاءات ضريبية على المصانع أو المحال التجارية، سكوت عن التعديات على المشاعات، أو تبرير التلاعب بتصنيفات الأراضي خدمةً للمضاربين العقاريين. هذا الواقع يُنتج طبقة سياسية بلدية مشروطة الولاء، ويُطيح بمبدأ الاستقلالية، ويحوّل المجلس البلدي إلى شركة مساهمة يملكها بضعة ممولين، وبعض المنتفعين.

الأخطر أن المواطن نفسه، الذي يُفترض أن يكون الرقيب الأول، قد اعتاد هذا النمط حتى صار يُسهم فيه. البعض يصوّت لابن عمّه، لا لأنه الأصلح، بل لأنه الأقرب. البعض ينتخب مرشّح الحزب الذي ينتمي إليه، دون سؤال عن البرنامج. البعض الآخر يرضى بورقة مالية انتخابية، أو بوعد بتزفيت طريق، أو بترقية في التوظيف الموسمي. وهكذا، تُباع السيادة المحلية بدراهم معدودة، ويُصادر القرار من يد المواطن، وتستمر الحلقة: سلطة عاجزة، تنمية غائبة، وفساد مقونن.

قال أفلاطون ذات مرة: “من يُعفي نفسه من المشاركة في السياسة، يُحكم من هو أدنى منه أخلاقًا”. ونحن اليوم نحصد ثمار انسحابنا من الفعل الرقابي الحقيقي. لا أحد يحضر جلسات البلدية، ولا أحد يطالب بكشف الحساب، ولا أحد يراجع دفتر التلزيمات، أو يسأل عن سبب توظيف فلان بدلًا من الأكفأ. والأسوأ، أن البلديات لا تنشر موازناتها، ولا تفصّل ميزانياتها، ولا تشرح لماذا بقيت الطرق محفّرة، والمدارس بلا صيانة، والنفايات من دون فرز، والإنارة مقطوعة و الفقراء يتضورون أو آخرون يعجزون عن إتمام تعليم أولادهم بسبب النقل أو القسط وسوى ذلك. لا شيء يُعرض على الناس، وكأن المال العام “ملك خاص” للرئيس وفريقه.

المال البلدي ليس هبة من أحد، بل هو مال الناس، ويجب أن يُدار بالقانون، ويُصرف وفقًا لأولويات حقيقية. أما أن تُهدر الأموال وفق مزاجات آنية وسطحية، أو في تبرعات وهمية، أو في مشاريع متكررة الهدف منها التلزيم فقط، فهذا ليس فقط سوء إدارة، بل جريمة في حق المصلحة العامة. ولا يُمكن أن يستقيم حال أي بلدة إذا لم تفتح بلديتها أبوابها أمام الرقابة، وإذا لم يخضع كل عضو بلدي، من الرئيس إلى أصغر موظف، لمبدأ الإفصاح المالي، وكشف المصالح، ومنع تضاربها.

المحاسبة تبدأ من القاعدة. ومتى فسد الأساس، سقط البناء. البلدية القوية هي التي تقوم على المواطنة، لا على العصبية. على الكفاءة، لا على المحسوبيات. على المشروع، لا على السيرة العائلية. وعلى البرامج المعلنة، لا على الوعود المتناقلة. ولا يمكن أن تُبنى بلدة على التبعية، ولا يُمكن أن تزدهر مدينة إذا كان مجلسها البلدي رهينة المصالح الضيقة.

قال جان جاك روسو: “أسوأ ما في الفساد ليس أن نعيش فيه، بل أن نعتاد عليه”. ومشكلتنا اليوم أننا اعتدنا على الرداءة، وصار التغيير يبدو وكأنه تهديد للنظام الطبيعي للأشياء. لكنّ التغيير ضرورة، والإصلاح حق، والمساءلة واجب. والمواطن الذي لا يسأل مرشحه عن ثروته، وعن إنجازاته، وعن عقوده، وعن مصادر تمويله، هو مواطن يُقصي نفسه عن الفعل السياسي، ويُسهم في إنتاج سلطات ضعيفة وغير شفافة.

أما الفيلسوف نيتشه فقال: “من لا يملك الشجاعة ليثور على الظلم، سيبقى عبدًا له”. وقد آن الأوان لنثور – سلميًا، قانونيًا، مدنيًا – على من اختزلوا البلدية في عائلتهم، أو في حزبهم، أو في دفتر شيكاتهم. آن الأوان أن نعيد تعريف العمل البلدي: لا كامتياز اجتماعي، بل كوظيفة عامة، خاضعة للمساءلة، ومنفتحة على الكفاءة، وقادرة على الإنتاج.

البلدية ليست مجرد جدار مدهون، ولا مشروع زفت قبيل الانتخابات، ولا هبة من مغترب تتباهى بها الإدارة. البلدية، في عمقها، هي عقد اجتماعي حيّ بين المواطن والدولة. والمجالس البلدية ليست مكاتب خدمات، بل مجالس حكم محلي. ومن لا يفهم ذلك، لا يستحق أن يكون جزءًا من القرار، ولا أمينًا على المال العام.

هنا يبدأ الإصلاح الحقيقي. من الشارع، من الأرصفة، من المدرسة، من الفرز، من الشفافية، من ورقة الاقتراع. فهل نملك الشجاعة لنختار صحّ؟ أم نُعيد إنتاج الفشل ذاته كلّ مرة، ثم نشتكي من غياب الدولة؟ الدولة تبدأ من بلدية. والسيادة تبدأ من محاسبة. والمحاسبة تبدأ الآن.

ربما من حسن الصدف أن تجري الانتخابات البلدية في السنة الأولى من عهد الرئيس عون وحكومة الرئيس سلام، بنفس إصلاحي تنموي جديد وتوجه جاد لخدمة المواطن وحفظ حقوقه.

https://hura7.com/?p=48268

الأكثر قراءة