الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- السياسة هي فن منع الناس من التدخل فيما يخصهم” – بول فاليري
- “الفساد هو السلطة عندما لا تخضع للمحاسبة” – جون دالبرغ أكتون
- “الأكاذيب تصدَّق عندما تُقال كثيرًا، والحقائق تُرفض عندما تُقال مرة واحدة” – فريدريك نيتشه
منذ سنوات، يشهد لبنان محاولات متكررة لإصلاح الدولة وإعادة بناء المؤسسات على أسس سليمة، بعيدًا عن منطق المحاصصة والتوازنات الطائفية التي شلّت الإدارة العامة، وأفقدت المواطن أي ثقة في قدرة الدولة على النهوض من أزمتها. ومع كل استحقاق جديد، يتكرر المشهد ذاته: مطالبات بإصلاح حقيقي، يقابلها التفاف على المطالب وفرض تسويات على قاعدة “الأمر الواقع”. هذا ما حدث مع الرئيس نواف سلام خلال محاولة تشكيله الحكومة، وما يُراد له أن يتكرر اليوم في ملف التعيينات، حيث تسعى القوى التقليدية إلى فرض هيمنتها مجددًا، ضاربة بعرض الحائط أي حديث عن الكفاءة والاستحقاق.
لكن هذه المرة، المعركة مختلفة. فلبنان لم يعد يحتمل مزيدًا من المحاصصة، والرئيس جوزاف عون الذي أدار المؤسسة العسكرية بكفاءة وسط أزمات خانقة، يدرك أن إعادة هيكلة الإدارة العامة على أسس مهنية هو مفتاح رئيسي لحفظ الاستقرار ومنع استمرار الانهيار. فما جرى في الحكومة، حيث تم تقييد نواف سلام بشروط مستحيلة أو دفعه للاعتذار، لا يمكن أن يتكرر في ملف التعيينات، وإلا فإن البلاد ستكون أمام حلقة جديدة من الفشل المؤسسي، حيث يصبح أي إصلاح مستحيلًا في ظل إدارة تتحكم بها الولاءات لا الكفاءات.
التلاعب السياسي: لعبة لا تنتهي
ما يجري اليوم ليس مجرد عملية توظيف أو ملء شواغر، بل هو معركة على هوية الدولة. فهل ستكون مؤسسة قائمة على الجدارة والاستحقاق، أم أنها ستبقى أسيرة الحسابات الضيقة والتسويات المفروضة؟
القوى التي تسيطر على القرار الإداري تدرك جيدًا أن كسر منطق المحاصصة يعني نهاية نفوذها، ولهذا فإن كل محاولة إصلاحية تُواجَه بحملات مضادة، سواء عبر الإعلام، أو من خلال التسريبات المدروسة، أو حتى عبر التشكيك المتعمد في أي عملية تعيين يتم اقتراحها خارج إطار التسويات التقليدية. نشر التفاهة، إغراق الرأي العام في تفاصيل سطحية، تسريب ما يُعتبر “أسرارًا”، كل ذلك بات سلاحًا بيد المنظومة لتعطيل أي محاولة جادة لإصلاح الإدارة العامة.
فلا عجب أن تتحول التعيينات إلى معركة إعلامية، حيث يتم التركيز ليس على معايير الكفاءة، بل على المؤامرات المزعومة، والتحالفات المخفية، والخلفيات الشخصية للمرشحين، بهدف إبقاء الناس في حالة دائمة من الشك والارتياب، وإقناعهم بأن كل شيء محكوم بمصالح مخفية لا يمكنهم الوثوق بها.
التعيينات كمعيار للإصلاح الحقيقي
حين قاد الرئيس جوزاف عون المؤسسة العسكرية في أشد الأوقات حساسية، كان حريصًا على الحفاظ على تماسك الجيش واستقلاليته عن المحاصصات السياسية، وهو ما جعله اليوم في موقع يؤهله للعب دور محوري في حماية مؤسسات الدولة من الانهيار التام.
لكن التعيينات الإدارية تُعدّ اليوم الاختبار الأكبر، لأن المنظومة التقليدية تريد إعادة فرض نفس قواعد المحاصصة التي أوصلت البلاد إلى الانهيار. فالرهان ليس فقط على ملء شواغر، بل على تحديد طبيعة الحكم المقبل في لبنان: هل يكون قائمًا على الكفاءة، أم على تدوير الفشل نفسه؟
التعيينات اليوم هي الاختبار الحقيقي لكل من يتحدث عن الإصلاح. فإما أن تُفرض معايير جديدة، وإما أن يثبت أن كل الحديث عن التغيير ليس سوى شعارات تُستخدم لكسب الوقت، بينما تبقى الأمور على حالها.
التوظيف السياسي للتفاهة: استراتيجيات التعطيل الممنهجة
لم يكن هناك يومًا نقص في الملفات التي تحتاج إلى معالجة في لبنان، لكن دائمًا ما يتم حرف الأنظار نحو قضايا جانبية، لتتحول المشاكل الجوهرية إلى مجرد مادة للجدل العقيم، بينما تستمر السلطة في فرض خياراتها كما تريد.
الإعلام يُستخدم كسلاح، لا لكشف الحقائق، بل لنشر الالتباس. يتم تسريب معلومات “شبه دقيقة”، لكنها ناقصة، مما يترك الناس في حالة من الضياع. ثم يتم إطلاق موجات من “التحليلات” التي لا تستند إلى أي منطق سوى تعزيز البلبلة، وإغراق الناس في تفاصيل لا طائل منها، بحيث لا يعود أحد قادرًا على التمييز بين الحقيقة والإشاعة، بين الإصلاح الحقيقي والمناورة السياسية.
هذه الاستراتيجية ليست جديدة، لكنها اليوم أكثر فاعلية، لأن اللبنانيين أنهكتهم الأزمات، وباتوا أكثر عرضة للوقوع في فخ التشكيك الدائم بكل شيء، وهو بالضبط ما تسعى إليه المنظومة. فكلما زاد الشك، كلما أصبح الإصلاح أكثر صعوبة، وكلما تمكنت قوى النفوذ من فرض قراراتها دون أي مقاومة حقيقية.
لا مكان للتنازل
ما حدث مع الرئيس نواف سلام يجب أن يكون درسًا. لا يمكن السماح بأن تُفرَض على التعيينات نفس القيود التي فُرضت على الحكومة، ولا يمكن القبول بأن يُرسم مستقبل الدولة من قبل نفس القوى التي كانت مسؤولة عن انهيارها.
الرهان اليوم ليس على صراع شخصيات، بل على إعادة تعريف مفهوم الدولة. إما أن تكون التعيينات على أساس الجدارة، أو أن تتحول إلى محطة جديدة لتعزيز الفشل المؤسسي. وإذا كان هناك من يريد فعلاً إنقاذ لبنان، فإن هذا هو الوقت المناسب لإثبات ذلك، بعيدًا عن الحسابات الآنية والتسويات المهينة.
الرئيس جوزاف عون أظهر خلال المرحلة الماضية أنه ليس من النوع الذي يخضع للضغوط بسهولة. أما نواف سلام، فهو شخصية أثبتت التزامها بالمسار الإصلاحي، وواجه ضغوطًا سياسية حاولت إفشاله قبل أن يبدأ. لذلك، فإن مواجهة أي محاولة للالتفاف على هذا المسار مسؤولية كل من يؤمن بأن لبنان يستحق إدارة تعتمد على المهنية والكفاءة، لا على التسويات والمحسوبيات.
ما يجري الآن ليس مجرد معركة تعيينات، بل هو اختبار أخير: هل لا يزال هناك أمل في الإصلاح، أم أن لبنان كتب مصيره بأن يبقى في قبضة الفساد إلى الأبد؟