الجمعة, مارس 21, 2025
17.5 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ قيادة من نوع جديد: آمال كبيرة وثقة مشروطة

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

  • ليو تزو: “نجاح القيادة مرهون بخدمة الشعب بإخلاص”
  • مارتن لوثر كينغ: “فشل القيادات يبدأ من غياب المساءلة وتكريس السلطة المطلق”

 

توفّر للبنان في الأيام الأخيرة فرصة تاريخية قد لا تتكرر لإعادة بناء دولته واستعادة ثقة شعبه ومكانته بين الأمم. بعد سنوات طويلة من الأزمات والانقسامات التي أرهقت البلاد وأوصلتها إلى شفا الانهيار، ها هي تشهد تحوّلًا سياسيًا بارزًا مع انتخاب رئيس للجمهورية وتسمية القاضي نواف سلام رئيسًا للحكومة. هذا التحوّل يحظى بدعم خارجي وقبول داخلي واسع، حيث يمثل بارقة أمل لعهد جديد، لكنه في الوقت نفسه اختبار كبير لقدرة هذه القيادة والشعب على تحويل هذا الأمل إلى واقع ملموس.

نزاهة القيادة ومسؤولية الظل

تحظى شخصيتا الرئيس جوزيف عون والقاضي نواف سلام بثقة كبيرة من اللبنانيين لما يتمتعان به من نزاهة ومصداقية وسمعة طيبة.  ومع ذلك، فإن نجاح العهد الجديد لا يعتمد فقط على القيادة، بل أيضًا على فريق العمل الذي سيشكل “ظلها”. هذا الفريق، سواء كان حكوميًا أو إداريًا، يجب أن يعكس ذات القيم من النزاهة والكفاءة، بعيدًا عن عقلية المحاصصة السياسية والمصالح الفئوية التي دمرت الدولة.

أي قيادة، مهما بلغت نزاهتها، لا تنجح إذا لم تُحِط نفسها بفريق متجانس قادر على تنفيذ الرؤية الوطنية. فالتحدي يكمن في اختيار حكومة تضم كفاءات مستقلة وشابة، قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية بجرأة وحكمة. إن التكامل بين القيادة وفريقها ليس خيارًا بل  هو ضرورة.

نواف سلام: بين الجرأة القانونية ومنظومة الفشل

تكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة يمثل لحظة فارقة في المشهد السياسي اللبناني، حيث يُنظر إليه كشخصية استثنائية تجمع بين الجرأة القانونية والرؤية الإصلاحية. سجلّه حافل بالمبادئ، ولا سيما مشاركته في إصدار مذكرات توقيف ضد مجرمي حرب إسرائيليين، يعكس التزامه بالعدالة والقانون. هذه الصفات تميزه عن شخصيات المنظومة التقليدية التي كرست المحاصصة وأجهزت على مؤسسات الدولة.

يحمل سلام عقلية أكاديمية وقانونية، تُبرز منهجه المأمول في الحكم بعيدًا عن الممارسات السياسية التقليدية التي تعتمد على الزبائنية والميليشيات. و يمثل دعمه تحديًا كبيرًا للمنظومة القائمة، التي تسعى باستمرار لإعادة إنتاج نفسها والحفاظ على مكتسباتها على حساب المصلحة العامة. هذا التحول في المشهد السياسي يُنظر إليه كفرصة لإحداث تغيير حقيقي، لكنه يبقى مرهونًا بقدرته على مواجهة التحديات الكبرى.

السيادة والتدخلات: ازدواجية المعايير

السيادة الوطنية في لبنان باتت مفهومًا مشوّهًا بفعل تدخلات الخارج التي أصبحت، بمرور الوقت، جزءًا من النسيج السياسي اللبناني. العقلية السائدة لدى القوى السياسية تشرعن التدخلات الخارجية طالما ترافقها وعود بدعم مالي أو سياسي. وتُغضّ الأنظار عن التدخلات الأكثر خطورة والتي تنال من استقلالية القرار اللبناني.

على الجانب الآخر، تظهر ازدواجية المعايير بشكل صارخ في التعامل مع التهديدات الخارجية. قصف الجنوب والبقاع الأخير كشف التخاذل الرسمي في مواجهة العدوان الإسرائيلي؛ وغياب أي ردود فعل فعّالة، من القيادات السياسية، يعكس ضعفًا في مفهوم السيادة الوطنية وازدواجية في التعامل مع الأخطار الخارجية.

17 تشرين: دولة للجميع لا لفئة واحدة

ثورة 17 تشرين كانت ولا تزال تعبيرًا عن الوجدان الوطني للّبنانيين. رؤيتها كانت واضحة منذ انطلاقها: بناء دولة قانون ومؤسسات خالية من الطائفية والمحاصصة. ردًا على المشككين، أكدت الثورة أنها حركة لكل اللبنانيين، بلا استثناء، وسعت لتحقيق العدالة والمساواة بعيدًا عن أي أجندات خارجية أو ارتباطات ضيقة، أما عن إلصاق تهم ارتباطاتها الخارجية، لعلّ أنصار النظام الطائفي ذات حبل السرة مع مرجعياته أدرى بالارتباطات الخارجية. وفي مطلق الأحوال، لم يكن لهذه الحالة الشعبية جهاز تدقيق أمني ليعرف إن كان بين مئات ألوف المحتشدين، إن وجد، مخبرون. وبالتأكيد وبالبداهة أنهم انوجدوا تابعين لجميع السفارات المهتمة. ولكن مما لا شك فيه أن المخبرين لم يحملوا برنامجًا سياسيًا تغييريًا.

فالثورة لم تكن فورة غضب عابرة، بل كانت نبضًا شعبيًا مستمرًا  من لحم ودم في الحياة السياسية، تم قمعها في الشارع، أحبطت وتشردت، لكنها استمرت في النفوس وداخل غرفة كل منزل. ما ميّز 17 تشرين هو الاعتدال والنهج الواقعي، الذي يسعى إلى الإصلاح بعيدًا عن التطرف أو الاصطفافات السياسية. قوى الاعتراض، وبصورة خاصة، الوطنيون والديمقراطيون المستقلون الحريصون على البلاد، أثبتوا أنهم قادرون على تقديم خطاب جامع يخاطب جميع اللبنانيين، دون تمييز أو انحياز، متخطيًا حواجز الطوائف والمناطق. هؤلاء ليسوا فقط دعاة تغيير، بل هم ركيزة أساسية لمواكبة المسار الوطني الجديد والضغط لتوجيهه نحو الإصلاح أو لمنعه من الانحراف  أو تشكيل دول عميقة جديدة للطوائف أو لمراكز القوى.

أي حكومة شرط النجاح

لبنان بحاجة إلى حكومة تنقذ البلاد من دوامة الفشل. المطلوب هو حكومة كفاءات مستقلة تعمل خارج إطار المحاصصة السياسية. هذه الحكومة يجب أن تكون قادرة على تنفيذ خطاب الرئيس وأبرز خطوطه:

  • إصلاح القضاء: لضمان استقلاليته وتعزيز العدالة
  • مكافحة الفساد: من خلال استعادة أموال اللبنانيين المنهوبة ووضع آليات شفافة للمحاسبة
  • إصلاح شامل للإدارة كما نص الطائف
  • إعادة بناء الاقتصاد: عبر وضع خطة شاملة تشمل إصلاح النظام المصرفي وتأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
  • إعادة بناء موقع لبنان في محيطه العربي
  • حماية السيادة الوطنية: من خلال تعزيز قدرات الجيش والأمن الداخلي، ومواجهة التدخلات الخارجية بحزم
  • ترميم النسيج الوطني وتوجيه العناية للشأن الاجتماعي، النازحين، الصحة، التعليم والغذاء
  • إعادة الاعتبار للتعليم الرسمي والمناهج الوطنية والجامعة اللبنانية
  • إيجاد حلول لتوفير الأجور العادلة والإفراج عن الودائع وبشكل خاص إعادة إعمار القرى المهدّمة

إن أي حكومة لا تلتزم بهذه الأولويات لن تكون سوى تكرارًا لنهج الفشل السابق، وستُواجه دون شك بمعارضة من قوى الاعتراض والشعب اللبناني.

السيادة الوطنية

السيادة الوطنية هي جوهر بناء الدولة. ولا يمكن  للبنان أن يستمر رهينة لتوازنات القوى الإقليمية والدولية. فالمطلوب اليوم هو قيادة تُعيد الاعتبار لهذه السيادة، من خلال اتخاذ مواقف حازمة تجاه التهديدات الخارجية، وفي مقدمتها العدوان الإسرائيلي المستمر.

القيادة الجديدة مطالبة بتعزيز استقلالية القرار اللبناني، مع بناء شراكات دولية متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل، بعيدًا عن التبعية والإملاءات.

الطائفية والمحاصصة: ماضٍ يجب تجاوزه

لطالما كانت الطائفية والمحاصصة السياسية العائق الأكبر أمام بناء الدولة الحديثة في لبنان. الثورة وضعت هذا النهج في مرمى النقد، مؤكدة أن المستقبل يجب أن يُبنى على أساس المواطنة والكفاءة.

رغم كون اتفاق الطائف خطوة إيجابية لإنهاء الحرب الأهلية، لا يزال غير مُطبق بالكامل. الالتزام بروح هذا الاتفاق بما يضمن العدالة والمساواة بين اللبنانيين هو المدخل لإعادة بناء الدولة على أسس صحيحة.

دور قوى التغيير: من الترحيب إلى الدعم  والمتابعة

ترحيب قوى التغيير بالتكليف الجديد ليس تفويضًا مفتوحًا، بل هو مشروط بتحقيق الإصلاحات المطلوبة. المعارضة البنّاءة ستكون حاضرة لمراقبة الأداء الحكومي وتصحيح أي انحراف عن المسار الوطني.

قوى الاعتراض، باعتدالها ورؤيتها الجامعة، ملتزمة بالدفاع عن حقوق اللبنانيين ومؤازرة الحكومة في ذلك، وهي مع كل هذا الترحيب ستظل على استعداد للعودة للمعارضة إذا تطلب الأمر. فالمعارضة ليست وسيلة للهدم، بل أداة للمراقبة والنقد البناء.

العبرة في النتائج

تكليف نواف سلام يحمل معه آمالًا كبيرة بتحقيق التغيير الذي طال انتظاره. ومع ذلك، فإن هذه الفرصة قد تضيع إذا لم يتمكن من تجاوز عقبات القوى التقليدية التي تسعى لتعطيل أي مشروع إصلاحي. الشعب اللبناني، الذي تحمّل ويلات الانهيار لسنوات، يتطلع إلى أداء حكومي يعتمد على القانون والمؤسسات.

ما تحقق حتى الآن ليس سوى خطوة أولى في مسار طويل. فنجاح هذه الفرصة التاريخية يعتمد على قدرة القيادة والشعب على العمل معًا لإعادة بناء الدولة. المطلوب اليوم هو رؤية وطنية شاملة تُحوّل الآمال إلى أفعال، وتُعيد ثقة اللبنانيين بدولتهم.

لبنان يقف على مفترق. بين الأمل والترقب، تبقى العبرة في النهايات. هل تستغل القيادة والشعب هذه الفرصة لبناء وطن ديمقراطي ودولة منصفة؟ الإجابة ستحدد مصير لبنان للأجيال القادمة.

التاريخ يُكتب الآن. أملنا أن يدوّن ما هو على قدر الطموحات والتطلعات.

للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com 

https://hura7.com/?p=41780

الأكثر قراءة