الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- محمود درويش: “في داخلي شُرفة لا يصلها أحد.”
- رولان بارت: “اللغة هي قناع المعنى وليست المعنى ذاته.”
- جلال الدين الرومي: “إنك ترى ما يظهر، أما ما خفي فهو بيت المعاني.”
رغم الغموض الذي يلف تكوين حزب الله و تنظيماته، ورغم الأهمية الخاصة لدراسة خطابه في زمن تحولات كبرى عرّضته لخسائر كبيرة، ورغم رهبة تناول مجموعة من خطب سابقة على استشهاد السيد نصرالله وبعده في زمن دقيق، إلّا أن للصدق أقول إن حزب الله يكاد يكون الحزب اللبناني الوحيد صاحب الخطاب الذي يمكن دراسته في هذا النوع من المنهجية.
تتشابه الخطابات ولا تتباين. سهل الحصول عليها. تتواتر بمتوالية تقريبياّ خطاب كل شهر، ومرتبطة بمناسبة ذات أهمية لما يسمونه بيئة المقاومة، الأمر الذي لا نجده لدى القوى السياسية الأخرى بما فيها العقائدية وسواها التي تعتمد غالباً على التصريحات أو البيانات القصيرة الخاصة بحدث ما.
قمت بدراسة ثلاثة نصوص كاملة لآخر ثلاثة خطابات للسيد حسن نصرالله، وآخر أربعة خطابات للشيخ نعيم قاسم، وفق منهجية أو منهجيات تحليل المضمون المعروفة الكمية والنوعية والمختلطة، والفجوات والتأويل والمقارن… وتقنيات حقول الدلالة والتكرار وتقنيات الألسنية وأساليب التعبير واستخدام المفردات. أي سبعة نصوص في مرحلة تبدّل تاريخية. هذا العلم معروف منذ حوالى 150 سنة، وأولى الدراسات الرائدة المؤسسة فيه كانت دراسة تحليل مضمون خطب الثورة الفرنسية سنة 1870.
بعد نشر الجزئين الأول والثاني، ننشر اليوم الجزء الثالث بعد تعريض الأجزاء كافة إلى عملية تشحيل جائرة ليكون لها موقع في الجريدة.
تحليل الكلمات المفتاحية في خطابات الشيخ نعيم قاسم: تطور المعاني ودلالاتها
- البعد الديني في خطاب نعيم قاسم
يحتل البعد الديني مكانة مركزية في خطاب نعيم قاسم، إذ يُبرز من خلاله ارتباط مشروع المقاومة بجذوره العقائدية والروحية. خطاب قاسم ليس مجرد توظيف للدين كأداة بلاغية أو سياسية، بل هو انعكاس لهوية فكرية متجذرة في تعاليم الإسلام، حيث يصبح الدين مرجعاً لإضفاء الشرعية على المواقف السياسية والعسكرية، وإطاراً شاملاً لفهم الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه.
- الدين كحافز للصمود والتضحية
في خطاب قاسم، يظهر الدين كحافزٍ مركزي للصمود في وجه التحديات. يُستمد هذا الحافز من رمزية عاشوراء التي تتكرر في خطاباته باعتبارها نموذجاً خالداً للصبر والإيثار والوقوف بوجه الظلم. يُستخدم الإمام الحسين بوصفه رمزاً عالمياً للثورة على الطغيان، ليُظهر من خلاله أنّ المقاومة ليست مجرد خيار سياسي أو عسكري، بل واجب أخلاقي وروحي. يحاول قاسم في خطابه أن يربط بين الدماء التي أُريقت في كربلاء والدماء التي تُراق في ميادين المقاومة، مما يجعل كل تضحية تُقدَّم اليوم امتداداً لذلك الإرث التاريخي.
- المقاومة كمشروع ديني وأخلاقي
يربط نعيم قاسم في خطابه بين الدين والمقاومة بوصفهما مشروعاً واحداً قائماً على مبادئ العدل والدفاع عن المظلومين. يُبرز البُعد الديني للمقاومة كرسالة سامية تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة أو المصالح الآنية، حيث تصبح المقاومة فريضة شرعية قبل أن تكون خياراً استراتيجياً. في هذا السياق، يقدّم قاسم الدفاع عن فلسطين ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي باعتبارهما مسؤولية جماعية للأمة الإسلامية، مستمداً هذه المسؤولية من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو إلى نصرة المستضعفين.
- وحدة الأمة الإسلامية
الخطاب الديني لدى نعيم قاسم يتسم بسعيه لتوحيد الأمة الإسلامية حول قضية مركزية واحدة، وهي تحرير فلسطين. يُستخدم الدين كأداة لجمع الشعوب تحت راية المقاومة، متجاوزاً الانقسامات المذهبية والطائفية. في خطاباته، يستحضر قاسم مفاهيم مثل “الأمة الواحدة” و”الإسلام المحمدي الأصيل” لتقديم المقاومة كجسر يوحّد المسلمين في مواجهة المشروع الصهيوني. يتكرر الحديث عن القدس كرمز ديني مقدس يجمع المسلمين بمختلف مذاهبهم، مما يعكس رؤية شاملة للدين كعامل توحيد.
- إيران كحاضنة للمشروع الديني المقاوم
في خطاب نعيم قاسم، تُبرز إيران ليس فقط كحليف سياسي وعسكري، بل كحاضنة دينية وروحية للمقاومة. يُظهر خطاب قاسم التزاماً واضحاً بنهج ولاية الفقيه، حيث يُصوَّر الدعم الإيراني كمظهر من مظاهر المسؤولية الإسلامية تجاه قضايا الأمة. يجسد هذا البُعد الديني رؤية المقاومة لمحور يتجاوز الحدود الوطنية، ويعمل تحت لواء العقيدة والإيمان المشترك.
- الدين كعنصر معنوي في المعركة
البُعد الديني في خطاب قاسم يتجلّى أيضاً في تعزيز الروح المعنوية. الخطاب يعكس إيماناً راسخاً بأن الانتصار ليس فقط نتيجة توازن القوى المادية، بل هو مرتبط بالاعتماد على الله واليقين بنصره. يُستدعى الدين هنا كعنصر حيوي يبثّ الثقة في قلوب المقاومين ويعطي أبعاداً غيبية للصراع، حيث تصبح المعركة ليست فقط بين البشر، بل بين قوى الحق والباطل.
البعد الديني في خطاب نعيم قاسم ليس مجرد وسيلة بلاغية، بل هو نسيج متكامل يشكل جوهر مشروع المقاومة. من خلال هذا البعد، يتم إضفاء طابع قدسي على المواجهة، حيث تصبح المقاومة امتداداً لمشروع الأنبياء والأئمة في مواجهة الظلم وإقامة العدل. خطاب قاسم يعكس رؤية ترى الدين أساساً للتغيير ومصدراً لا ينضب للشرعية، مما يجعله عنصراً ثابتاً ومركزياً في كل خطاباته.
الثابت و المتحول في خطاب حزب الله: قراءة تحليلية
يتميز خطاب حزب الله بتداخله بين الثابت والمتحول، حيث يظهر التوازن بين المبادئ الراسخة التي تشكل جوهره، والتكتيكات المرنة التي تتكيف مع تطورات المشهد الإقليمي والدولي. هذا التداخل يتيح للحزب الحفاظ على هويته وأهدافه، مع استيعاب التحديات والمستجدات التي تفرضها الظروف المتغيرة. على هذا الأساس نتناول الثابت والمتحول في خطاب حزب الله من زوايا متعددة تشمل الأيديولوجيا، الخطاب السياسي، والتفاعل مع الأوضاع المحلية والإقليمية.
- الثابت:
- هوية المقاومة وأبعادها: في خطاب حزب الله، المقاومة ليست مجرد استراتيجية عسكرية، بل هوية جوهرية تترسخ في البعد الديني، الوطني، والإنساني. يتكرر الحديث عن تحرير الأرض ومواجهة الظلم باعتبارهما واجباً دينياً ووطنياً، وهو ما يُمنح طابعاً مقدساً يعزز مشروعية الحزب أمام جمهوره وأمام العالم الإسلامي. قضية فلسطين، على سبيل المثال، ظلت حجر الزاوية في خطاب الحزب، ليس فقط كقضية سياسية، بل كرمز للمظلومية والنضال العادل.
- البعد العقائدي المتجذر في رؤية الحزب المستندة إلى ولاية الفقيه، يمثل ثابتاً أساسياَ في خطابه. هذا البعد يعزز استمرارية الالتزام بمشروع المقاومة دون التفريط بالمبادئ، ويُستخدم لإضفاء شرعية على المواقف السياسية والعسكرية. كذلك، تُبرز صورة الحزب كمدافع عن المستضعفين، سواء في لبنان أو خارجه، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من هويته.
- المتحول:
- التكتيك السياسي والانفتاح: على الرغم من التزامه بالثوابت العقائدية، يتمتع حزب الله بمرونة تكتيكية في خطابه، تُظهر قدرته على التكيف مع التحولات السياسية والميدانية. حيث يمكن أن نلحظ توسعاً في خطابه ليشمل قضايا اقتصادية واجتماعية محلية، وهو تحول يُظهر استيعابه للأولويات المتغيرة لجمهوره اللبناني. هذه المرونة جعلت الحزب قادراً على استقطاب شريحة أوسع من الجمهور، مع الحفاظ على ولاء قاعدته الأساسية.
- في الجانب الإقليمي، يتغير الخطاب وفقاً للسياق. يُظهر الحزب توازناً دقيقاً بين التصعيد ضد إسرائيل والدعوة إلى التهدئة عندما تقتضي الظروف ذلك، مستنداً إلى قراءة متأنية للأوضاع الدولية والإقليمية. التحولات في لهجة الخطاب تجاه قضايا مثل الحرب في سوريا أو العلاقات مع دول الخليج تظهر استعداد الحزب لتكييف رسائله بما يتناسب مع المستجدات، دون الإخلال بثوابته.
الثابت في أدوات الشرعية والمتحول في سياق التبرير
يعتمد خطاب حزب الله على شرعية المقاومة كحامل رئيسي، مستنداً إلى المظلومية التاريخية للشعب الفلسطيني وللبنانيين الذين عانوا من الاحتلال الإسرائيلي. هذه الشرعية ثابتة وتُعاد صياغتها بشكل مستمر لتلائم الأوضاع الراهنة. فعلى سبيل المثال، المقاومة التي كانت تُبرر كضرورة للتحرير في التسعينيات، أصبحت تُصورفي الخطاب اليوم كضرورة لحماية لبنان من التهديدات الإسرائيلية والجماعات المتطرفة.
لكن تبرير هذه الشرعية يتغير حسب السياق. ففي خطابه للخارج في العالم ، يقدم الحزب نفسه كحركة مقاومة مشروعة تستهدف الاحتلال، بينما يُعيد تأطير هذا الخطاب داخلياً ليشمل مفاهيم السيادة الوطنية وحماية المصالح اللبنانية. هذا التغير يعكس وعي الحزب بتعدد جمهور المتلقين، وقدرته على صياغة رسائل موجهة لكل جمهور بطريقة تتناسب مع توقعاته واحتياجاته
الثابت في العلاقة مع إيران والمتحول في تقديمها
العلاقة مع إيران تمثل ثابتاً استراتيجياً في خطاب حزب الله. تُقدَّم إيران كحليف أساسي، مصدر دعم للمقاومة، وراعية للمشروع الإسلامي. لكن طريقة تقديم هذه العلاقة تتغير بحسب الجمهور المستهدف. داخلياً، يتم التركيز على البعد المادي والعسكري لهذا الدعم، بينما يُبرز في الخطاب الإقليمي والدولي الجانب العقائدي والسياسي لتلك العلاقة في نفس الخطاب.
في السياقات الحرجة، مثل تصاعد التوتر مع دول الخليج، يُظهر الحزب مرونة في تخفيف حدة الخطاب تجاه إيران وتقديمه بشكل أقل حدة لتجنب تفاقم التوترات مع الدول العربية.
المتحول في الأولويات الداخلية
أحد الجوانب المهمة التي تعكس ديناميكية خطاب الحزب هي الانتقال التدريجي و تضمينه القضايا الاجتماعية والاقتصادية في لبنان إلى أن أصبحت معاناة الشعب اللبناني محوراً دائماً في خطاب الحزب، مما يُظهر التجاوب مع الحاجات الشعبية والمطالب المحلية. هذه النقلة النوعية في الخطاب لم تأتِ على حساب ثوابت الحزب، بل جاءت مكملة لها، حيث يتم تقديمها كجزء من مشروع المقاومة الشامل الذي يحمي لبنان ويدافع عن مصالحه.
خطاب حزب الله هو نموذج فريد للجمع بين الثابت والمتحول. الثوابت، مثل الهوية المقاومة، الارتباط بالدين، والعلاقة مع إيران، تظل تشكل العمود الفقري للخطاب. في المقابل، تتغير التكتيكات، الأولويات، وطريقة تقديم الرسائل بناءً على الظروف. هذا التوازن بين الثابت والمتحول هو ما يُمكّن الحزب من الحفاظ على هويته وفي الوقت نفسه الاستمرار في التأثير الفعّال على الساحة المحلية والإقليمية والدولية.
خطاب حزب الله، سواء من خلال السيد حسن نصرالله أو الشيخ نعيم قاسم، يظل متجذراً في العقيدة الإسلامية، متصلاً بقضية المقاومة ومحورها الإقليمي. لكن هذا الخطاب يتطور باستمرار ليواكب التغيرات السياسية والميدانية، مع الحفاظ على ثوابت الحزب وهويته الفكرية. التوازن بين الثابت والمتحول يُبرز قدرة الحزب على الاستمرار في جذب التأييد الشعبي والإقليمي رغم التحديات…
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com