الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
“إذا خططتَ لعام فازرع قمحًا، وإذا خططتَ لعقد فاغرس شجرة، وإذا خططتَ لقرن فثقف شعبًا” – كونفوشيوس.
“العلم هو أصل العمران، وإذا ضاع العلم، ضاع المجتمع“ – ابن خلدون.
في زمن تحوّلت فيه الدولة إلى هيكلٍ فارغ، والسلطة إلى غنيمة، والإدارة إلى ركام، تبدو الجامعة اللبنانية – تلك المؤسسة التي شُيّدت كجسر عبور لبناء الإنسان اللبناني – كضحية مثالية لتجربة الانحدار العام التي يعيشها البلد، لا فقط على المستوى المالي، بل على مستوى النموذج والهوية والعدالة.
ولعل واحدة من أفظع النماذج التي تكشف هذا الانحدار، هي قصة فحوصات كورونا في مطار بيروت: تلك العملية التي تقرر في مكان ما إسنادها للجامعة اللبنانية خلال ذروة الجائحة، لقاء بدل بالدولار النقدي يُفترض أن يُعاد ضخه كاملًا أو مجتزًأ في صندوق الجامعة، دعمًا لطلابها وأساتذتها والعاملين فيها، تعويضًا قليلًا ولكن هامًا عمّا أصاب موارد عيشهم. كما غالبًا في لبنان، ونتيجة سلطة الفساد والطائفية، تبخرت الأموال، وتبخرت معها المساءلة، وضاعت المسؤولية بين الإدارات، وامّحت الحدود بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة، وابتلعت البيروقراطية “الوهمية” ذات الحصانة حقوق المؤسسة الوطنية شبه الوحيدة التي بقي لها حضور فعلي في كل المناطق والطوائف والمجتمعات.
الأسوأ من ذلك، أن هذا السطو لم يُعامل كجريمة وطنية، بل كأمر عادي في بلد انهارت فيه المعايير، واحتُكرت فيه الإدارة من قِبل فئة تدير المؤسسات بعقلية الغنيمة، وترفض الشفافية والمحاسبة وكأن الجامعة شركة خاصة، لا كيان عام تموّله الدولة ليصنع أجيالها.
لكن الحقيقة الأعمق من هذه الحادثة، أن ما أصاب الجامعة اللبنانية هو نموذج مصغّر عمّا أصاب الدولة نفسها: تفريغ للمؤسسات من محتواها، خنقٌ لكل مشروع ديمقراطي داخلها، تحويلُها إلى مزارع إدارية طائفية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الولاء السياسي، ولا معيار يُعتمد سوى المحسوبيات، ولا قرار يُتخذ إلا بإذن من “المرجع”.
فما الذي جرى للجامعة اللبنانية؟ وكيف انتقلنا من مشروع وطني للمعرفة، إلى ما يشبه الإدارة الفاشلة داخل “كارتيل تربوي” فاسد؟ للإجابة، لا بد أن نعود إلى التأسيس.
في العام 1951، عاد الدكتور حسن مشرفية من فرنسا، حيث كان يتلقى تعليمه العالي، وقرر أن يبدأ مشروعه الوطني من حيث تبدأ الأمم الحقيقية: من الجامعة. كان يؤمن بأن بناء الجمهورية لا يكون بإصلاح الضرائب أو تعديل الموازنات فحسب، بل بخلق مؤسسة علمية مستقلة، تُنتج النخبة الوطنية، وتضمن تكافؤ الفرص، وتُتيح لأبناء الفقراء أن يصعدوا في سلّم الدولة بالكفاءة، لا بالولاء.
لم يكن وحده، بل كان معه ثلة من المؤسسين الذين حوّلوا فكرة الجامعة اللبنانية من حلم إلى مؤسسة، لا تُدار على هوى زعيم أو حزب، بل بقوانين واضحة، ومجالس منتخبة، وحرمة لا يخرقها لا بوليس ولا قاضٍ.
مشرفية وضع قانون الجامعة بنفسه، وأصر أن تكون المجالس المنتخبة هي من تختار رئيس القسم، والعميد، وحتى رئيس الجامعة، ليبقى القرار أكاديميًا، ديمقراطيًا، نابعًا من أساتذة وطلاب المؤسسة، لا مفروضًا من فوق.
هو من فرض شراء الأرض لبناء الصرح الجامعي الحالي، ومن أصرّ على إنشاء مختبرات البحث، وربط الجامعة بالمجلس الوطني للبحوث العلمية، وأنشأ نظام المنح للطلاب المتفوقين، والأساتذة الباحثين، لتكوين كادر جامعي قادر على المساهمة في نهضة الوطن، لا على استجداء وظيفة أو صفقة.
لقد أراد المؤسسون جامعة لا يديرها زعيم أمّي، ولا حصة حزبية، بل نظام ديمقراطي داخلي لا يختزل القرار في شخص الرئيس، كما يحصل اليوم، حيث تُفرغ المجالس المنتخبة، ويتحوّل رئيس الجامعة إلى ما يشبه “الديكتاتور الإداري”، الذي يعيّن ويعزل ويُصرف بلا رقابة ولا مساءلة.
ما جرى لاحقًا هو انقلاب على هذا المشروع التأسيسي، وتحديدًا منذ التسعينيات، حين دخلت المكاتب الطلابية التابعة للأحزاب إلى الجامعة، ثم دخل معها نظام التعاقد العشوائي، ثم المحاصصة في التفرغ و التعيينات، فالزبائنية، ثم صفقات العقود بالساعة، والتدخلات في نتائج المباريات، حتى صار الأستاذ يُفرغ بمرسوم، ويُكافأ بالولاء، ويُعيّن بالواسطة.
هذا التحلل الإداري والأخلاقي أصاب جوهر الجامعة، ولم يعد الأمر يقتصر على الفقر المالي، بل على تفريغها من مشروعها التربوي، وتحويلها إلى مساحة زبائنية يُهمّش فيها الكفوء، ويُكرّس فيها الولاء.
ومع الانهيار الاقتصادي، أصبح آلاف الطلاب محرومين من حق التعليم العالي، وباتوا مرغمين على الالتحاق بـ”جامعات خاصة” أشبه بالمدارس الليلية، وتموّلها و تمول طبقة سياسية أمية، تمنح شهادات بلا قيمة أو تبيعها، وتصنّع وزراء ومدراء وقضاة من الورق.
وبذلك، لم يعد انهيار الجامعة مسألة قطاع تربوي فقط، بل أصبح جزءًا من تفكك الدولة كفكرة، وتفكيك المجتمع ككيان، وتدمير الطبقة الوسطى المنتجة لمصلحة طبقة مستوردة من الخارج، أو “مفبركة” في دكاكين الداخل.
في هذا الوقت، ينشغل البعض بالحديث عن التفاوض مع صندوق النقد الدولي كخشبة خلاص أولى مما أوقعت طبقة الفساد فيه، علمًا أن البداهة تقول أن الإصلاح لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل، وتحديدًا من المؤسسات التعليمية والإدارية التي تُنتج النخبة الوطنية.
إن المفاوضات مع صندوق النقد ليست مجرد نقاش حول الموازنات، وجداول أعمال الاجتماعات لا علاقة لها بجدول الضرب. بل هي محاولة لإعادة تركيب النظام السياسي اللبناني من مدخله المالي. فالمطلوب ليس فقط تقليص العجز، بل إعادة رسم السلطة، وضبط المعابر، وتقليص نفوذ الطوائف، وإعادة هيكلة المصارف، وربما فتح الباب أمام لبنان بالفخ الكبير والخطير. فخ “التطبيع الاقتصادي” مع العدو الإسرائيلي، كل ذلك على حساب السيادة والأمن الوطني والعدالة.
في هذا السياق، تُستخدم الجامعة كموقع هامشي، في حين أنها كانت من المفترض أن تكون منصة المواجهة الحضارية، ومكان صوغ البديل الوطني، وأداة الدفاع عن القرار المستقل.
لكن، وسط هذا الخراب، تبرز إشارات رمزية ذات دلالات. إحداها، أن الرئيس عون – في لحظة تتآكل فيها شرعية الطبقة السياسية – يتمسك بـ”الكتاب”، أي الدستور، كمرجعية ترافق نهاية يوم عمله يُراجعها قبل القرار، على خطى الرئيس الإصلاحي فؤاد شهاب. وربما تكون هذه الإشارة المتواضعة، في مقابل الخراب العارم، نافذة صغيرة للقول: إن استعادة القانون، واستعادة الأخلاق المؤسسية، ليست مستحيلة.
فالجامعة، إذا عادت إلى مشروعها، ستعيد إلينا النخبة التي تستحق الحكم، وستمنع أن يُحكم هذا الشعب من قبل أبناء المافيات أو تجار الشهادات ولن يشترط أي خارج علينا أن يكون وزراؤنا من خريجي جامعات معينة. أليس مخجلًا هذا الامر؟
لقد بُنيت الجامعة اللبنانية من أجل إنتاج الإنسان، لا من أجل تأمين الوظيفة. بُنيت لتكون منبرًا للنقد، لا مساحة لحشد الأنصار. واليوم، من ينهب الجامعة لا يسرق فقط صندوقها المالي، بل يسرق مشروعها، وشهادتها، ونظامها الديمقراطي، وحق الطلاب في الصعود، وحق الوطن في أن يُبنى من داخل مدارسه، لا من صناديق العالم.
مشرفية ورفاقه أرادوها جمهورية معرفي أما من يديرها من بقايا الحرب الأهلية أرادها مزرعة طائفية. و في كل الأحوال تبقى المقارنة ظالمة بحق من أسس.
وبين الحلم والانهيار، يقف جيل كامل في مهبّ الريح، يبحث عن أمل… أو عن منفى.
“الجامعة ليست مكانًا يُمنح فيه الطالب شهادة، بل مكان يُمنح فيه الوطن كفاءات”. (مالك بن نبي)
الجامعة اللبنانية، ببساطة، ليست مبنى. إنها المعنى.