الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
حين تختار الصمت أمام الظلم، فإنك تختار جانب الظالم” – ديزموند توتو.
“ليس من العدل أن نطلب من الضحايا الصمت، بينما يصرخ الجلادون من فوق المنابر” – جبران خليل جبران.
“الخطر ليس في الفساد فقط، بل في تطبيعه وجعله جزءاً من التقاليد” – علي الوردي.
لم يشهد التاريخ المعاصر للبنان هذا المستوى الوقح من الانحطاط السياسي الاخلاقي والمالي، حيث تتكشّف أمام أعين اللبنانيين، يوماً بعد يوم، آلية عمل منظومة خفية/ظاهرة، هي المافيا التي يضيرها قيام دولة. منظومة تتحكم بالمصير الوطني عبر أخطر أدواتها: المال، والمصرف، والإعلام، والتشريع، والابتزاز القضائي. لم يعد اللبنانيون أمام نزاع على هوية حاكم مصرف لبنان، بل أمام مواجهة على هوية الدولة نفسها: هل تكون دولة محاسبة وحقوق، أم مزرعة يديرها تحالف المصارف والسلطة الفاسدة؟
إن قبول تنصيب مرشح المصارف كريم سعيد لتولّي حاكمية مصرف لبنان، ليس خيارًا محايدًا أو تقنيًا أو محصورًا بمسألة الكفاءة أو التجربة المصرفية كما يُروَّج، بل هو تمثيل فجّ لحالة تضارب مصالح صارخة، تؤكد أن الحاكم المقبل – إن تم تمرير هذا التعيين – سيكون مجرد امتداد سلس لعهد رياض سلامة، لا قطيعة معه. فهو، وإن أُلبِسَ ثوب الخبرة والاستثمار، إلا أنه في الواقع، ابن التحالف العضوي بين المصارف التي نهبت أموال الناس، والسياسيين الذين غطّوا واستفادوا من هذا النهب.
لو كان المعيار هو الإرث السياسي للعائلة السعيدية وحسب، لكان الاعتراض على اختياره ظالمًا، أما أنه سجل على نفسه مواقف مناهضة لمصالح الدولة والشعب بمنطق نيوليبرالي يجعل كريم سعيد مرشح كبار الناهبين سياسيين ومصارف وملاذات آمنة.
لم يخفِ اللبنانيون ارتياحهم لانتهاء عهد الميقاتي الذي عاد ليطل برأسه من خلال الرضوخ لإرادته وأقرانه في تسمية شريكه حاكمًا للمصرف المركزي. في انصهار وتوزيع أدوار رؤوس شبكة المصالح المالية، من ميقاتي إلى نيركيزيان، ومن شركة المرشح التي خططت لتحويل الودائع إلى ديون على الدولة (“خطة هارفارد”)، إلى دعم المصارف نفسها، وإعلامها، ومتنفّذيها؟ ألا يكفي أن نرى كيف تحركت حملات تشويه وتخوين وتشهير صحناوية صفيرية ميقاتية مرية ضد كل من عارض هذا الترشيح، كيف تم شراء بعض النواب وتحريك بعض القضاة وتلفيق ملفات كيدية بحق كل صوت يطالب ببديل نظيف؟ أين هي المعايير؟ لماذا يتم التعتيم على شروط التعيين، وتُخفى عن الشعب صاحب الودائع، فيما يعرفها مسبقًا من يسعون لتنصيب خادم لمصالحهم على رأس المصرف المركزي؟
أي إصلاح يُمكن انتظاره من حاكم تريده المصارف؟ أي عدالة يُمكن أن تتحقق إذا كانت مواقف الحاكم المُرتقب مشوبة بمشاريع تحميل الضحايا مسؤولية ما اقترفته المصارف؟ ألا يعلمون أن المسألة ليست فقط في تعيين شخص، بل في إعادة إنتاج النموذج الذي دمّر لبنان، وأفقر شعبه، وهرّب أمواله، وحوّله إلى “دولة فاشلة” يتوسّل شعبها الخلاص؟
في لبنان، ليس الصراع بين حكومة ومعارضة، بل بين بقايا دولة تسعى للنهوض، ومنظومة فساد لا تتورّع عن ابتلاعها كلّما حاولت أن ترفع رأسها. ما نشهده اليوم من حملة منسّقة ضد رئيس الحكومة نواف سلام، هو محاولة صارخة لإجهاض أي محاولة لتكريس المساءلة، أو قطع الطريق على الحاكمية. فرئيس الحكومة الذي يتحفّظ وحده عن هذا التعيين، والذي يتم ترهيبه واستهدافه لأنه لم ينصَع للابتزاز، يستحق دعمًا وطنيًا صريحًا، لا تساؤلات شكلية وتغطيات خجولة.
ولأول مرة منذ سنوات طويلة، هناك رئيس حكومة يتحفظ. رئيس لا يبدو راغبًا بأن يغطّي هذا التواطؤ. فرئيس الحكومة نواف سلام، برفضه حتى اللحظة التوقيع على جريمة تعيين “مرشح المصارف”، يفعل ما كان يجب على كل من سبقه فعله: الدفاع عن الناس، لا عن البنوك؛ حماية المال العام، لا حماية أصحاب المال.
منذ متى تُخاض المعارك في السرّ؟ لماذا تُطبخ الصفقات في الغرف المغلقة؟ لماذا لا تُطرح المعايير أمام الرأي العام؟ لماذا يُسمح للنواب المأجورين، والوزراء الخاضعين للمافيات السياسية والمالية، أن يقرّروا باسمنا من هو حاكم أموالنا؟ ألا يستحق اللبنانيون معرفة كل تفاصيل اللعبة؟ ألا يحق للمودعين أن يرفضوا الحاكم الذي سيحمل توقيعه “تبرئة” القتلة الاقتصاديين؟
إن التوافق السياسي – إذا كان على حساب العدالة – ليس توافقًا بل مؤامرة. وإن التسويات التي تُبنى على حماية أرباب المصارف ليست حلولًا، بل جرائم مؤجلة. لا معنى لأي خطة إصلاحية تُكتب وتُلقى في المؤتمرات، إذا كان من سيتولى تنفيذها هو جزء من الطبقة التي صنعت الانهيار. ولا قيمة لأي حكومة، إذا خضعت لمشيئة من أفلس البلاد ويسعى لتعيين محاسبه في رأس أعلى سلطة مالية.
لقد قال أفلاطون: “الدولة التي يُديرها لصوص، لا تحتاج إلى عدو خارجي لتنهار“. ولبنان اليوم، في عمق هذا المأزق الوجودي. لا يمكن إنقاذ الدولة إن لم يُقطع الحبل السري بين المصرفي الفاسد والسياسي الجشع. ولا يمكن استعادة الودائع إن تولى زمام الأمر من هندس ضياعها. ولا يمكن النهوض إن خضع مجلس الوزراء للضغوط، وإن تواطأ الوزراء مع أدوات النظام المصرفي – الأمني – الإعلامي.
المطلوب اليوم ليس حاكمًا على مقاس المصارف، بل حاكم يضع مصالح الناس أولًا، يملك مشروعًا شفافًا للمحاسبة، للتدقيق، لإعادة هيكلة القطاع، لحماية الاقتصاد، للحد من التسويات الكارثية مع الخارج والداخل. المطلوب شخصية تُقاس بمقدار ما ستفعله لا بما فعلته لخدمة الشبكة القديمة.
وإذا كانت البلاد حقًا على أبواب عهد جديد، فعهد كهذا لا يُبنى بحاكمية تُطبخ خلف الكواليس. لقد صارت الحاكمية معركة وجودية، فاصلة، لا يُقبل فيها المواربة، ولا تسعفنا فيها الحسابات الضيقة. فإما بداية جديدة، وإما تثبيت الانهيار كواقع دائم.
فهل يملك مجلس الوزراء الشجاعة للانحياز إلى مصلحة الناس؟ أم أنه سيختار أن يكون شريكًا في الخيانة الكبرى؟
أو فليُسقطوا الأقنعة، فلنخسر بشرف، خير من أن نربح بعار.