الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- جون كينيدي: “التغيير هو القانون الأساسي للحياة، وأولئك الذين ينظرون فقط إلى الماضي أو الحاضر سيفوّتون المستقبل”.
- ألبرت أينشتاين: “لا يمكننا حلّ مشكلاتنا بنفس التفكير الذي استخدمناه عندما أنشأناها”.
- وودرو ويلسون: “الدولة القوية تُبنى على مؤسسات قوية، وليس على أشخاص أقوياء”.
كلّما تناهى القرف إلى قلوب اللبنانيين المحترقة، سارع الرئيسان عون وسلام إلى دعمها بجرعات من الثقة والأمل وبتأكيد أن التغيير ممكن. فموكب التغيير انطلق ومن يريده فليلتحق به، ونمط تشكيل الحكومات التقليدي هو في طور النزع الأخير.
هذا لا يعني مديحاً واحتفاء بانتصار لم يحصل بعد ولا وعداً بولاء غير مشروط. وبأسرع مما كان التأييد يمكن للاعتراض أن يكون، إذا ما لمس الناس تهاوناً مع من استباح دمهم ومالهم وكرامتهم. فرغم التعقيدات السياسية والمصاعب التي تواجه تشكيل الحكومة، يظل الرئيسان عون وسلام محط ثقة في قدرتهما على إدارة المرحلة بحكمة وإصرار. في وقت تعيد فيه القوى التقليدية تموضعها كما لو أن شيئاً لم يتغير، مطالبة بحصص وزارية دسمة (الانتخابات النيابية قريبة) وراضية أو غاضة الطرف عن عرقلة الثنائي للتشكيل. في هذا الحيّز يبرز موقف الرئيسين كأمل متجدد لبناء وطن يتجاوز الطائفية والمحاصصة.
ما بين عراقة النظام وجرأة التغيير
إن التحدي لا يقتصر على تبديل في قمة السلطة. المافيا السياسية لا تزال تتربص بكل خطوة إصلاحية. إنها منظومة متجذرة، تمتد من أعلى سلّم الهرم إلى أدناه، ولا يمكن إسقاطها بسهولة. هي الدولة العميقة وقد اعتادت على إنفاق الملايين لبلوغ النيابة لتعويضها في الوزارة. وجاء اليوم من يطلب فصل النيابة عن الوزارة. ورغم الجهود الإصلاحية في هذا الاتجاه، وغيره الكثير، فإن هذا الأمل لن يتحقق دون دعم شعبي واعٍ ومستمر.
لا يبدو أن الرئيسين يبحثان عن حصص شخصية ولا عن تعزيز نفوذ خاص بقدر التزامهما بإصلاح جذري يعيد بناء لبنان على أسس وطنية متجددة، يرسي مفهوم جديد للإدارة العامة حيث يكون معيار الكفاءة والوطنية هو الأساس، بعيداً عن الانتماءات الأولية.
هذه الرؤية الجذرية نفسها هي طموح اللبنانيين، برفض الصفقات لإعادة بناء لبنان بمفهوم وطني جديد، حيث تكون الوظيفة العامة مكرسة لخدمة الوطن، وليس لتقاسم المغانم. خاصة في ظل استمرار القوى التقليدية في اتباع نهجها القديم الذي أرهق البلاد لعقود.
هل من حصص دولية؟ السؤال المقلق
لا يمكن تجاهل أن تشكيل الحكومة يحمل بين طياته توازنات إقليمية ودولية. الدعم الخارجي الذي جاء بالتوازي مع انتخاب الرئيسين ربما يحمل في طياته لدى البعض مصالح معينة. ولكن، إذا أُحسن استثمار هذا الدعم لصالح مشروع وطني جامع، يمكن للبنان أن يحوّل هذه العلاقة إلى شراكة متوازنة لا تهدد سيادته.
ومع ذلك، يجب أن يكون اللبنانيون واعين لأي تدخلات تهدف إلى تعزيز نفوذ دول معينة داخل الحكومة، لأن النجاح في بناء حكومة لبنانية بحتة صافية الولاء هو السبيل الوحيد لتحقيق استقلالية القرار الوطني.
نواف سلام القاضي: العدالة في السياسة
نواف سلام، بنهجه الملتزم، رجل يتسم بجرأة نادرة في مواجهة منظومة الفساد. فموقفه الرافض لأن يكون “صندوق بريد” للكتل السياسية يعبّر عن رؤية صلبة تؤمن بأن تشكيل الحكومة يجب أن يكون انطلاقاً من معايير وطنية ومهنية بحتة. هذا الموقف الذي يأتي بعد لقائه الرئيس عون، مدعوماً منه، يثبت مرة أخرى إرادتهما إعادة بناء الدولة على أسس جديدة ووطناً يليق باللبنانيين، وطناً خالياً من الفساد والمحسوبية، وطناً يقوم على الكفاءة والوطنية.
إن تصريحات سلام التي تؤكّد أن “كل الحقائب سيادية” وأنه لن يقبل بأي شروط من أي جهة، تُثبت إصراره على تغيير قواعد اللعبة. كما أن احترامه للتمثيل الطائفي وفق معايير العهد يظهر فهمه الدقيق للتوازنات اللبنانية دون أن يفرط في طموحه للإصلاح.
أما محيط نواف سلام الذي يتعرض للتجريح هو شريك في رؤيته، ويدرك أن نجاحه ليس نجاحاً شخصياً، بل نجاحٌ لقضية شعب ووطن ولكل من يطمح لإصلاح حقيقي في لبنان. في ظل هذه الأجواء، لا بدّ من التأكيد على أن محاولات التشكيك أو الضغط لن تؤثر على هذا المسار، بل ستزيد من عزم القوى التغييرية على دعمه حتى النهاية.
التغييريون في الصف الأول: درع الإصلاح
قوى التغيير التي انبثقت من ثورة تشرين، وما سبقها من عقود من نضالات اللبنانيين الرافضين للطائفية والمحاصصة، التواقين إلى دولة سيدة حرة مستقلة، تقف اليوم في الصف الأول للدفاع عن عملية التغيير. هذه القوى تدرك أن نجاح نواف سلام في تشكيل حكومة إصلاحية سيعني بداية لمرحلة جديدة من الوطنية اللبنانية المتجددة، حيث يكون معيار الكفاءة والعدالة هو الأساس، وليس الإنتماءات الطائفية أو المصالح الفئوية.
إن التغييريين (وتفادياً للإحراج، ليس القصد تقييم عمل المجموعات، ولا فئة معينة أو جماعة بل المناضلين الذين أرادوا ويريدون وطناً ودولة) يمثلون طموحات اللبنانيين بوطن حر، عادل، وديمقراطي. هم اليوم مدعوون لتنظيم صفوفهم أكثر من أي وقت مضى، والالتفاف حول نهج الرئيسين الوطني المستقل والتغييري لضمان نجاح هذا المسار التاريخي. مهمة إعادة البناء ليست فقط مسؤولية القيادة، بل هي معركة مشتركة بين الشعب وقواه التغييرية لتحقيق الإصلاح.
ما يجري اليوم ليس مجرّد تبديل للوجوه، بل محاولة لكسر قوالب جامدة ظلت تحكم لبنان لعقود. قوى التغيير، ومعها الطموح الشعبي العارم، ترفض العودة إلى منطق الحكومات التقليدية التي لم تكن إلّا نسخاً من الصفقات وتطييف السلطة والوجود اللبناني الحضاري. التحدي الحقيقي يكمن في قدرة اللبنانيين على الالتفاف حول مشروع الوطن والمساهمة في إنجاحه.
رغم الضغوط الكبيرة التي تمارسها القوى التقليدية لضمان حصصها في الحكومة الجديدة، تتبلور رؤية جديدة تهدف إلى إخراج لبنان من أزماته عبر تشكيل حكومة تقوم على الكفاءة والوطنية، بعيداً عن أي انتماءات فئوية أو طائفية.
الشعب اللبناني: قوة التغيير
وسط كل هذه التحديات، يدرك الشعب اللبناني أن دوره أساسي في حماية مسار الإصلاح. وحده هو قادر على التصدي لمحاولات عرقلة التغيير، سواء من القوى التقليدية أو من الضغوط الدولية التي تسعى للحصول على حصصها في الحكومة المقبلة.
لتنظيم الشعب نفسه والدفاع عن فرصته في وطنية لبنانية متجددة، يجب أن يكون الصوت الشعبي موحداً ضد كل من يحاول إفشال عملية التغيير. المطلوب اليوم ليس فقط دعم القيادة، بل أيضاً بناء جبهة شعبية ترغم القوى التقليدية على التراجع عن مطالبها الطائفية والمصلحية.
إن الشعب اللبناني، ومعه قوى التغيير، سيظل في حالة يقظة، لأن التغيير الحقيقي لن يتحقق إلا بتكاتف غالبية الشعب اللبناني المتضرر من مافيا السلطة. وهذه فرصة نادرة لإعادة بناء نفسه على أسس جديدة. دون شك سيكون الشعب والقوى الحية على مستوى هذه المسؤولية. لنواصل الأمل والعمل. فالوطنية المتجددة أمل لا ينطفئ.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com