الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- وماس هوبز: “القوة والهيمنة لا تدوم طويلًا إذا بنيت على القهر لا على العدالة“.
- فولتير: “من يجعل نفسه سيدًا على شعبه باستخدام القوة سيكتشف أن هذه القوة ليست إلّا سرابًا“.
- فرانز فانون: “الهيمنة تبدأ عندما يتمكن القاهر من إقناع المقهور بقبول وضعه كقدر محتوم“.
لا شك أن التوترات التي شهدها لبنان، يوم أمس، وما صاحبها من مسيرات استعراضية وحشود شعبية حرّض على قيامها “حزب الله” تمثل تطورًا يعكس عمق الأزمة اللبنانية وتداخل أبعادها السياسية والطائفية والإقليمية. هذا المشهد يطرح تساؤلات حول أهداف الثنائي عامة والحزب خاصة من هذا التحرك الشعبي، وطبيعة الرسائل الموجهة داخليًا وخارجيًا، وأثرها على مسار تشكيل الحكومة الجديدة وإدارة الأزمة الوطنية. خاصة أن اقتحام الأهالي للقرى هو رمزي، حيث لم يعد ثمة مكان للمبيت. هو اقتحام تفقدي ومحق، ولكن ألم يخشَ الحزب من تساؤل الأهالي عن المسؤول عن كل هذا الدمار؟
وبالطبع كان متوقعًا سقوط شهداء يوم أمس برصاص الإسرائيلي الذي أعطى لنفسه حق تمديد احتلاله. وأثبت اللبنانيون حرصهم على العودة إلى قراهم وتعلّقهم بها وإعادة إعمار بيوتهم. وكانت الحصيلة مؤلمة بسقوط 22 شهيدًا و148 جريحًا ضحية استمرار العدوان.
استعراض القوة بين الداخل والخارج
حزب الله، في محاولته للهيمنة على المشهد السياسي، لجأ إلى استعراضات شعبية علنية مستفيدًا من رغبة عامة بالعودة. هذه الاستعراضات توحي بسيطرته واحتفاظه بالقدرة على فرض إرادته بالقوة، سواء على المستوى المحلي أو في وجه إسرائيل. هذه التحركات لم تأتِ بمعزل عن سياق إقليمي ودولي، حيث يسعى الحزب إلى توجيه رسالة للنظام الإيراني والداعمين الإقليميين مفادها أنه لا يزال يحتفظ بقوته ونفوذه، رغم الضغوط المتزايدة التي يتعرض لها على مختلف الأصعدة، وإلى القوى الدولية المتدخلة لأخذ حضور الحزب الوازن بعين الاعتبار.
لكن هذه الرسائل تأتي في وقت تعاني فيه بيئة الحزب من ضغوط اقتصادية واجتماعية خانقة، كما أن البيئة الشعبية اللبنانية باتت تُظهر تململًا واضحًا من تكرار سيناريوهات الحروب والمواجهات التي لم تجلب سوى الدمار والخسائر.
المسيرات المسلحة: محاولة لتبرير الحرب ونتائجها المدمرة؟
المشهد الذي رافق المسيرات المسلحة إلى القرى الحدودية، من رفع الأعلام الحزبية وإطلاق الشعارات الفئوية، لا يعكس وحدة وطنية بقدر ما يظهر تماهي الحزب مع استراتيجية المواجهة الداخلية. هذه التحركات هدفت وتهدف إلى تحويل الأنظار عن الخسائر السياسية والعسكرية التي مُني بها الحزب في مقامرته الأخيرة مع إسرائيل، حيث كان لهذه الحرب أثر مباشر في احتلال القرى وتدميرها وتشريد سكانها.
الأسئلة التي يطرحها الناس العاديون اليوم تُسلّط الضوء على مسؤولية حزب الله فيما حدث. لماذا تفرّد الحزب في إطلاق حرب دون الرجوع إلى الحكومة اللبنانية التي يهيمن عليها؟ من سيعيد بناء القرى المدمرة، ومن أين ستأتي الأموال اللازمة لذلك؟ هذه الأسئلة المحرجة تضع الحزب أمام معضلة حقيقية، حيث لا يمكنه الهروب من مسؤوليته المباشرة عن هذه الكارثة.
كما أن من اللافت للنظر أن هناك “عسس” في صفوف ما يسمى بيئة حزب الله ضد الجيش اللبناني، وهو أمر غير مسبوق يعبّر عنه في وسائل التواصل الاجتماعي. فالجيش يعتبر الضامن الوحيد لوحدة لبنان واستقراره. هذا التوجه، إذا ثبت أنه موحى به من مراكز القرار، من الممكن أن يعكس محاولة الحزب تحويل الأنظار عن فشله في إدارة الصراع الأخير مع إسرائيل، ومحاولة تحميل الآخرين مسؤولية ما جرى.
انعكاسات التحرك على تشكيل الحكومة
التوترات الناتجة عن المسيرات الشعبية والاستعراضات العسكرية لا تسهم في تسهيل مسار تشكيل الحكومة الجديدة، بل تزيد الأمور تعقيدًا. في ظل إصرار الثنائي على الاستحواذ على حقيبة وزارة المال كشرط أساسي لتشكيل الحكومة، يتبين أن الهدف ليس فقط ضمان النفوذ السياسي، بل محاولة لإعادة تثبيت الهيمنة على القرار المالي للدولة. هذا الإصرار يعطل مسار الإصلاح، عبر تأخير تشكيل الحكومة المرتقبة.
القيادة الجديدة تجد نفسها في مواجهة معقّدة بين تلبية مطالب الثنائي والحفاظ على التوازن الوطني. فالمراوغات التي يمارسها الحزب وافتعال الأزمات ستؤدي إلى استمرار حكومة تصريف الأعمال السيئة الذكر، مما يُضعف قدرة العهد الجديد على تحقيق أهدافه الإصلاحية وإعادة بناء الثقة الشعبية.
الطريق الأقصر: الاعتراف بالواقع وتغليب المصلحة الوطنية
الحلول ليست مستحيلة إذا ما توفرت الإرادة السياسية الحقيقية لتجاوز الانقسامات. على حزب الله أن يدرك أن الشعب اللبناني بات متعبًا من الخطابات الشعبوية والمواجهات العبثية. التحدي الأكبر اليوم هو إعادة بناء الدولة على أسس المواطنة والقانون، وليس استنزافها في معارك داخلية وخارجية لا طائل منها.
إن عودة النازحين، وانسحاب الاحتلال الإسرائيلي، وإعادة إعمار القرى الجنوبية، ليست قضايا يمكن حلّها عبر التصعيد والاستعراضات المسلحة والمواكب ذات المغزى الاستفزازي الرمزي في أحياء وشوارع العاصمة والضواحي وبلدات يفترض الثنائي أنها من الخصوم وعبرها تمرّ الرسائل.
إن الطريق الأقصر هو تسهيل تشكيل الحكومة الجديدة، والبدء بتنفيذ إصلاحات حقيقية تتضمن تطبيق القرارات الدولية واحترام السيادة الوطنية. كما أن التوقف عن استخدام وزارة المال كورقة ضغط لتحقيق مكاسب طائفية بات ضرورة لتحقيق أي تقدم.
إن لبنان الكيان في خطر وجودي. فإمّا أن يختار الجميع السير في طريق الإصلاح الذي يضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، أو أن يغرق أكثر في دوامة الأزمات التي تهدد وجوده. حزب الله، كجزء من المنظومة السياسية، يتحمل مسؤولية كبيرة في تحديد مسار المرحلة المقبلة. لكن الشعب اللبناني لم يعد يملك رفاهية انتظار المزيد من المناورات السياسية. المطلوب هو قيادة شجاعة تواجه الحقائق بشفافية، وتضع حداً للخطابات الشعبوية، وتعمل على بناء دولة تستحقها تضحيات اللبنانيين.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com