الحرة بيروت ـ بقلم الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- المشكلة في السياسيين أنهم يهتمون بالانتخابات القادمة، وليس بالأجيال القادمة” – وينستون تشرشل
- “المشكلة ليست في الطغاة، بل في الشعوب التي تصفق لهم” – نعوم تشومسكي
- “إذا أردت أن تفسد شعباً، اجعله يحتقر القانون” – فريدريك نيتشه
لم يكن تكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة سوى بداية معركة مفتوحة بين من يريد دولة ومن يريد استمرار النظام القائم على الفساد والطائفية. حكومة العهد الأولى كان يفترض أن تكون الخطوة الأولى في مسار إنقاذي شامل، لكنها تحولت إلى ساحة مواجهة مع المنظومة التي جنّدت كل أدواتها لإفشالها قبل أن تولد. العصفورية السياسية التي أطلقت نزلاءها ضد نواف سلام لم تكن سوى استعادة لممارسات النظام القديم الذي يرفض التغيير، لأن أي مسار إصلاحي حقيقي يعني نهايته الحتمية.
حملة ممنهجة: من الصحناوي إلى بري
قبل أن تصل العرقلة إلى مستواها السياسي والتنفيذي، بدأ الصحناوي وأبواقه حملة منظمة هدفها التشكيك بسلام ونشر أجواء فشل مبكر، لإحباط أي إمكانية لتشكيل حكومة فعالة قبل أن تبدأ. هذه الاستراتيجية لم تكن معزولة عن الحسابات الأوسع، حيث جرى تسخير كل الأدوات الإعلامية والسياسية المتاحة لخلق جو من الانهيار النفسي حول الحكومة قبل ولادتها. لم يكن مستغربًا أن تنتقل حملة التشهير من المنصات الإعلامية إلى أروقة السلطة، ليبدأ الدور التنفيذي برعاية نبيه بري، الذي لم يرَ مشكلة في تشكيل الحكومة إلا حين أدرك أن سلام يطبّق معايير موحدة ممكن أن تؤتي نتائج. وهكذا انتقل بري إلى تعطيل عملية التشكيل بشكل مباشر، مستخدماً نفوذه داخل المجلس النيابي، وكأن الحكم مجلسي.
فبعد الصحناوي وغوانمه بدأت المرحلة التنفيذية في الهجوم المنهجي على الرئيس المكلف. اتُهم بالاعتداء على حصة السنة لأنه يريد وزراء غير مرتهنين لزعامات الطوائف، ثم قيل إنه يعتدي على حصة المسيحيين لأنه يطرح أسماء مثل غسان سلامة وطارق متري، وبعدها جُن جنون الثنائي الشيعي لأنه يطرح حكومة كفاءات خارج قواعد المحاصصة الطائفية. لم يكن المطلوب من نواف سلام أن يشكّل حكومة، بل أن يخضع لشروط المنظومة، أن يكون مجرد اسم آخر في لائحة رؤساء حكومات ما بعد الطائف الذين وُجدوا ليغسلوا فساد الطبقة الحاكمة لا ليحاكموه. لكنه جاء ليقلب المعادلة، فجُن جنون الذين اعتادوا الحكم بلا مساءلة.
نبيه بري وانسحابه من الباب الخلفي
في قلب هذا المشهد، يقف نبيه بري كعرّاب التعطيل. رجل لا يؤمن إلا بسياسة قوى الأمر الواقع، حيث لا قرارات تُتخذ إلا بموافقته، ولا حكومة تولد إن لم يكن هو مهندسها ومقرر حصصها. نبيه بري، الذي لم يكن يومًا ممثلًا لكل الشيعة، بل ممثلًا لسلطة احتكرت قرارهم، يصرّ اليوم على منع أي حكومة تعكس حقيقة التنوع داخل الطائفة الشيعية. لم يكن صدفة أن يكون التعطيل بيده، ولم يكن مستغربًا أن يرفع سقف التهديد والوعيد، متوعدًا بما هو أشبه بـ6 شباط جديدة أو 7 أيار جديدة. هذه ليست مجرد مناورات سياسية، بل هي محاولة لإخضاع من جاءوا لإنقاذ لبنان، وليس للخضوع لمن أوصلوه إلى هذا الانهيار.
بري الذي لم يكتف بسلوك ومنهجية نواف سلام باستشارة حزب الله و لم يرها بادرة حسن نية رغم اعتراض قوى دولية كبرى ومحلية وازنة على مشاورة الحزب، هل يريد أن يكون الحاكم المطلق للبنان، يشكل الحكومة، يمنع الإصلاح، يحمي السلاح، وإذا غضب يحرق المدينة؟ هل من صلة بينه وبين خطط برنار لويس التي تسعى إلى تفتيت المنطقة وإغراقها في الفوضى؟ إن الإصرار على تعطيل الحكومة ومنع أي محاولة إصلاحية، واستعمال الترهيب السياسي، والتلويح بخطوط حمراء لا تمثل إلا أصحابها، يضع علامات استفهام كبرى حول الدور الذي يلعبه بري في عرقلة أي تغيير.
في الحقيقة، نبيه بري وأزلامه لو فتحت ملفاتهم بجدية، لكانوا جميعًا نزلاء السجون. لكن لبنان دولة رهينة لمنظومة لا تعاقب المجرمين، بل تكافئهم، لا تحاسب اللصوص، بل تعطيهم مزيدًا من السلطات. المشكلة ليست فقط في تعطيل الحكومة، بل في عقلية السلبطة التي تعتبر أن الدولة ملكية خاصة، وأن رئيس مجلس النواب هو المرجع الأعلى الذي لا يمكن تجاوزه. لكن هذا الزمن انتهى، وهذه الحكومة هي الفرصة الأخيرة لاستعادة الدولة من أيديهم.
تفلت نزلاء العصفورية
التعطيل لم يكن فقط من نبيه بري، بل هو جزء من حملة منسّقة شاركت فيها كل الأطراف الطائفية التي تخشى أن ينجح نواف سلام في تشكيل حكومة تُعيد توزيع موازين القوى داخل الدولة. فجأة، خرج البعريني ليعلن أنه سيحجب الثقة، وظهر ناطق سني مجهول ليقول إنه ممتعض من الأسماء المقترحة، وتبعه ناطق مسيحي يصرخ بأن السني نواف سلام يسيطر على الحصة المسيحية! حفلة الجنون هذه ليست سوى انعكاس لحالة الذعر التي تعيشها المنظومة، إذ تدرك أن نجاح حكومة سلام يعني بداية النهاية لهذا النظام الطائفي الذي ينهش لبنان منذ عقود.
المؤشرات خطيرة، وما حصل البارحة في عملية تشكيل الحكومة يكشف أن هناك من يريد لبنان على صورته: بلد بلا سيادة، بلا مؤسسات، بلا عدالة. لماذا يرفضون القيام بالتدقيق الجنائي في كل الوزارات، واستقلالية القضاء، وإعادة أموال المودعين؟ لماذا عندما تمس الإصلاحات مصالحهم يصبح كل شيء غير مقبول؟ هل يقبل اللبنانيون بعد اليوم بحرب إسناد وسلاح غير شرعي؟
وداعًا أيها الدستور: الحكم ملكي مجلسي
المعادلة التي يفرضها بري تتجاوز الطائف والدستور وكل مفاهيم الحكم، هو يريد أن يكون الحاكم المطلق، أن يقرر متى تُشكل الحكومة وكيف تسقط، أن يضعها في جيبه كما يفعل بالمجلس النيابي، أن يكون المرجع الأوحد الذي لا قرار يتخذ دونه. هذا ليس مجرد استئثار سياسي، بل هو محاولة لفرض الهيمنة التامة على مفاصل الحكم، بحيث لا تكون هناك سلطة تنفيذية مستقلة قادرة على اتخاذ قرارات خارج إرادته.
كلنا ثقة
نواف سلام لم يأتِ ليستسلم، ولم يدخل اللعبة ليكون مجرد واجهة لحكومة صُنعت في غرف الطوائف المغلقة. المعركة اليوم ليست فقط حول تشكيل الحكومة، بل حول كسر منطق الاستئثار، وإعادة التوازن إلى المعادلة السياسية، بحيث لا تكون الدولة رهينة لمجلس نيابي يتحكم به رجل واحد، ولا تكون السلطة التنفيذية أداة في يد من يرفض الإصلاح ويريد أن يبقى لبنان غارقًا في أزماته.
الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية لن يرضخا، وهذه هي المعركة الأساسية. دولة يكون الجميع فيها تحت سقف القانون، لا تحت سقف السلاح أو النفوذ الطائفي أو الحسابات السياسية.
جوزيف عون ونواف سلام، رغم كل العواصف، هما فرصة اللبنانيين ليكسروا القبضة الحديدية للمنظومة. كما ليسا من رجال التسويات على حساب الشعب، ولا صفقات تُعيد إنتاج الفساد. هو رئيس حكومة جاء لينقذ، لا ليركع أمام زعماء الطوائف. هذه المعركة ليست معركة حكومة فقط، بل هي معركة مصير لبنان. اللبنانيون ينتظرون دولتهم، ولن يسمحوا للمنظومة بأن تسرقها مرة أخرى.
ما يتعدى تشكيل حكومة
ان الأمر لا يقف عند تشكيل الحكومة، بل تعداه إلى محاولة فرض قاعدة جديدة: حين يريد بري إسقاط الحكومة، يجب أن تكون مستعدة للرحيل فورًا، دون مقاومة، ودون مواجهة. وكأن الحكومة لا تملك شرعية شعبية ولا سياسية، بل شرعية تمنحها لها عين التينة، وتنتزعها متى شاءت.
لكن ما لم يدركه بري بعد، أن لبنان لم يعد كما كان، وأن نواف سلام لم يأتِ ليقدم الولاء لأحد، ولا ليكون مجرد رئيس حكومة انتقالي يُدير الأزمة بانتظار تسوية جديدة تعيد إنتاج الفشل. هذا الرجل جاء بمهمة واضحة: إنقاذ البلاد، واستعادة الدولة، وإعادة بناء المؤسسات على أسس صحيحة.
اللبنانيون لم يعودوا أسرى لهذه اللعبة. لم يعودوا يقبلون بأن تكون حياتهم رهينة لمصالح السياسيين. وهذه المرة، المعركة ليست بين رئيس حكومة ورئيس مجلس نواب، بل هي بين شعب يريد الخلاص، ومنظومة تريد إبقاءه في الجحيم. فهل يكون هذا العهد هو نهاية عصر الابتزاز؟ لا شك أن الطغاة خاسرون.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com