السبت, مارس 15, 2025
3 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ الفساد اللبناني: فيروس متحوّر يحتاج إلى علاج جذري

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

  • الفساد يُخفي وجهه لكنه لا يتوقف عن العبث بمقدرات الأمم.”
  • إذا غاب العدل، انتشر الفساد، وإذا حُيّد القانون، ساد الانهيار.”
  • لا يُهزم الفساد بالخطابات، بل بإرادة سياسية صلبة ومجتمع يقظ.”

لا يُعرف تاريخ للفساد، ولكن المعروف أنه رافق كل العصور في الدولة-المدينة. فما من حاكم أتى إلا وجعل مكافحة الفساد من أولوياته، مُجنّدًا الجند والمفتشين، ومُشعلًا القناديل في الأزقة للبحث عن هذا السرطان الذي يستنزف الدولة. غير أن الفساد، بصفته ظاهرة اجتماعية، سابق على الأفراد ويمتلك قوة قاهرة لا يمكن القضاء عليها بقرار إداري، إذ ينمو متلازمًا مع الدولة ويتغذى من مواردها حتى ينهكها. وأولى خطوات المواجهة تبدأ بقرار سياسي حاسم، يليه بناء دولة مؤسسات منيعة قادرة على حماية نفسها.

لبنان بلد الربح السريع، بلد الحمايات السياسية المتعددة، بلد السجون المكتظة والسلطة القضائية المتهالكة. هنا، تغلب الأنانية، حيث يُهتم بنظافة المنزل الخاص أكثر من نظافة الشارع العام. إنه بلد تحكمه الزعامات الطائفية بدلًا من القوانين، ويُنظر فيه إلى محاسبة بعض الأفراد على أنها مكافحة للفساد، فيما يظل الجذر الأساسي للمشكلة بمنأى عن الإصلاح. الفساد هنا ليس مجرد فعل، بل منظومة تُعيد إنتاج نفسها عبر حلقة مفرغة تخلط بين السارق والموظف غير الكفوء، لتُشرعن الرشوة باعتبارها قاعدة لا استثناء.

على مدى سبعين عامًا، أصدرت الدولة اللبنانية قوانين وأنشأت مؤسسات لمكافحة الفساد، لكنها باءت جميعها بالفشل. فالفساد هنا يشبه فيروسًا متحورًا، يتكيف مع المحاولات الخجولة للقضاء عليه، ويتخذ أشكالًا متعددة، بدءًا من السطو على المال العام وصولًا إلى التوظيفات العشوائية والتعيينات التي تُقدّم الولاء السياسي على الكفاءة المهنية.

إن مكافحة الفساد لا تكتمل دون تفعيل دور الإعلام في نشر الوعي المجتمعي حول خطورة هذه الظاهرة وتأثيرها على مستقبل البلاد. فالإعلام ليس مجرد ناقل للأخبار، بل هو شريك أساسي في تعزيز ثقافة النزاهة والمساءلة. عبر البرامج التوعوية والتقارير الاستقصائية، يمكن للإعلام كشف مواطن الخلل وملاحقة الفاسدين وتعريف المواطنين بحقوقهم وواجباتهم. ولا بد من إدخال هذا الوعي في المناهج التربوية منذ المراحل الدراسية الأولى، لترسيخ قيم المواطنة والشفافية.

كما أن معاقبة الفاسدين علنًا تُعدّ خطوة جوهرية في ردع الآخرين عن السير في هذا النهج. فالإفلات من العقاب يعزز ثقافة الفساد، في حين أن المحاسبة العلنية تُعيد ثقة الناس بالدولة وتؤكد أن القانون فوق الجميع. وعليه، يصبح الإعلام شريكًا في هذه العملية، ليس من خلال التحريض أو التهويل، بل عبر تسليط الضوء على الآليات الإصلاحية وتشجيع المشاركة الشعبية في عملية البناء الوطني.

غير أن التعامل مع الفساد لا يمكن أن يقتصر على المعالجات الظاهرية، بل يتطلب تفكيك هذه المنظومة المتغلغلة في بنية الدولة. فتفكيك الفساد عملية معقدة تقوم على استهداف الركائز التي يستند إليها، عبر خطوات متداخلة.

إن أولى هذه الخطوات تتمثل في ضرب المنظومة المالية التي تغذي الفساد، من خلال فرض شفافية كاملة على التحويلات المالية للمسؤولين، وإخضاع مصادر ثرواتهم للمراجعة الدورية، وإلغاء السرية المصرفية عن السياسيين والقضاة لضمان عدم استغلال النفوذ في خدمة مصالح خاصة. فالأموال غير المشروعة التي تتدفق في الشرايين المالية للدولة هي بمثابة وقود يُحرّك ماكينة الفساد، وإذا ما جُفّفت هذه المنابع، ستُحرم المنظومة الفاسدة من أحد أهم أدواتها.

أما الخطوة الثانية فتتمثل في ضمان استقلالية القضاء، ليس كفكرة نظرية، بل كواقع ملموس. فلا يمكن للعدالة أن تتحقق ما دام القاضي يخضع لمزاج السياسي أو مصالحه. هنا تكمن أهمية إنشاء محكمة عليا للنزاهة تكون مسؤولة عن ملاحقة الفاسدين من أصحاب السلطة والنفوذ، بعيدًا عن التوازنات الطائفية والمصالح الضيقة. والقضاء المستقل ليس مجرد شعار يُرفع في الخطابات، بل هو حجر الأساس في أي عملية إصلاحية جادة، إذ يشكل السد الأخير أمام تغوّل القوى السياسية على مقدرات الدولة.

أما الخطوة الثالثة، فهي إعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة. لقد اعتاد اللبناني أن ينظر إلى الدولة باعتبارها خصمًا أو ممثلًا لمصالح فئة ضد فئة أخرى، لا بوصفها راعيًا محايدًا للمصلحة العامة. ومن هنا، فإن رقمنة الخدمات الحكومية وتقليل الاحتكاك المباشر بين المواطن والموظف، يُعدان من أنجع الطرق للحد من فرص الرشوة والمحسوبيات. إضافة إلى ذلك، فإن تعزيز الشفافية في التعاقدات العامة، والسماح للمجتمع المدني بالمشاركة الفعلية في مراقبة تنفيذ المشاريع، يرسخ قناعة عامة بأن الدولة لا تزال قادرة على إحداث التغيير.

ولا يمكن إغفال الدور المجتمعي في هذه العملية. إذ يجب أن يتحول الفساد إلى قضية مجتمعية عامة، وليس مجرد مادة للجدل السياسي الموسمي. إن إطلاق حملات توعية مستمرة تحث المواطنين على رفض الرشوة والإبلاغ عنها، وتطوير آليات حماية قانونية تضمن أمن المبلّغين وتشجعهم على أداء دورهم في التصدي للفساد، تُعدّ ضرورية للغاية. فالفساد لا يُمارس في فراغ، بل يستفيد من استقالة الناس من مسؤولياتهم، ويستمد قوته من صمتهم اللامبالي.

ولعل من أكثر الخطوات حساسية وأهمية، هي قطع الارتباطات الخارجية التي توفر غطاءً سياسيًا لبعض الفاسدين. فلطالما استخدم بعض المسؤولين اللبنانيين علاقاتهم الخارجية لحماية أنفسهم من المحاسبة، إما عبر إخفاء أموالهم في مصارف أجنبية، أو من خلال التذرع بالحصانة السياسية. من هنا، يجب تعزيز التعاون مع المجتمع الدولي لتجميد الأصول العائدة للمسؤولين الذين يُشتبه بتورطهم في قضايا فساد، والضغط الدبلوماسي لاستعادة الأموال المنهوبة.

إن تفكيك الفساد في لبنان ليس مهمة مستحيلة، لكنه يتطلب إرادة سياسية حقيقية واستراتيجية واضحة تتجاوز المعالجات السطحية. فلا يمكن القضاء على هذه الظاهرة بمجرد تبديل بعض الأسماء أو إقرار قوانين جديدة تبقى حبرًا على ورق. وحده العمل المتكامل، الذي يربط بين القرار السياسي، والرقابة الشعبية، والالتزام الإعلامي، كفيل بكسر هذه الحلقة الجهنمية ووضع لبنان على مسار الدولة الحديثة القائمة على النزاهة والعدالة وسيادة القانون.

للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com

https://hura7.com/?p=44761

الأكثر قراءة