الأحد, مارس 23, 2025
11.7 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ المجازر في سوريا: بين سقوط طغيانٍ وصعود استبداد

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

لا يمكن إنكار الفرحة التي عمّت غالبية اللبنانيين بسقوط نظام بشار الأسد، ليس لأن البديل كان واعدًا، ولكن لأن عقودًا من الإذلال والقمع والهيمنة على لبنان بلغت ذروتها تحت حكمه. فقد عاث هذا النظام فسادًا، وأجهز على ما تبقى من دولةٍ لبنانية، مكرّسًا الطائفية والاغتيالات السياسية، وقامعًا كل صوت معارض. لكنّ الفرحة، مهما بدت مشروعة، تبقى ناقصة عندما يكون البديل نسخةً أخرى من الطغيان، مستعيرًا أدوات قمعٍ مختلفة، ومُلبسًا الاستبداد رداءً دينيًا يقتل باسم الشريعة كما قتل الأسد باسم “القومية والمقاومة”.

في ثمانينات القرن الماضي، وفي فرنسا، التقيت صديقًا سوريًا سلّمني ملفًا سميكًا يشبه كتابًا، عنوانه “القتلة يحاكمون القتلة”. كان هذا الملف يوثق المحاكمة الصورية التي أجراها النظام السوري بعد انقلابه على الوحدة مع مصر، حين قدّم أفراد وضباط المخابرات الذين اغتالوا المناضل فرج الله الحلو إلى محاكمة شكلية، انتهت بتبرئتهم جميعًا، وكأن الرجل لم يُقتل، وكأن دماء المعارضين السوريين لم تكن تستحق حتى مسرحيةً قضائية هزلية. حينها، لم يكن أحد يتخيل أن سوريا ستشهد، بعد عقود، استنساخًا لهذه الجرائم على نطاق أوسع، حيث يتكرر المشهد القاتم اليوم، ولكن بأوجه وأسماء مختلفة، تُعيد إنتاج الجريمة ذاتها بذرائع جديدة.

ما يحدث في سوريا اليوم ليس مجرد صراعٍ سياسي، بل هو امتداد لمسلسلٍ طويلٍ من المجازر التي تحوّل فيها المدنيون إلى وقودٍ لحروبٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل. إسقاط الأسد لم يكن خاتمةً للمأساة، بل بوابةً جديدة لجحيمٍ آخر، انتقل فيه الطغيان من نظامٍ بعثيٍ فئويّ إلى نظامٍ دينيٍ متشدّد متعدد الجنسيات، لم يأتِ لبناء دولة، بل لتأسيس إمارة طائفية تحكمها العصبيات والفتاوى الإقصائية التي تُحوّل أي مخالف إلى “مرتدّ” يستحق الذبح. وبينما تتصارع الأطراف المتناحرة على السلطة، تظل القوى الإقليمية والدولية تتلاعب بمصير السوريين، وفقًا لأجنداتها ومصالحها الخاصة، غير آبهةٍ بمصير الملايين الذين يدفعون ثمنًا باهظًا لهذا الصراع الدمويّ.

لم تكن المجازر التي ارتكبها الأسد وحيدًا، ولم تتوقف بسقوطه، بل استمرّت على أيدي الجماعات المتشددة التي نصبت نفسها بديلًا “شرعيًا” لحكم البلاد، متّخذةً من الترهيب والتصفية الطائفية سلاحًا رئيسيًا. فالمذابح لم تعد تُرتكب باسم “حماية الدولة”، بل باسم “حماية العقيدة”، والقتل لم يعد أمنيًا فقط، بل أصبح “تطبيقًا للشرع” وفق فتاوى التكفير والتصفية. العلويون، الأكراد، الدروز، والمسيحيون، وجدوا أنفسهم اليوم في قلب محرقةٍ جديدة، يُستهدفون فقط لأنهم لا يتناسبون مع التصور الإقصائي للهوية الدينية الجديدة التي يُراد فرضها. كيف تحوّلت الثورة التي كانت تنادي بالحرية إلى مشروعٍ طائفيٍّ جديد، يرسّخ الاستبداد بدل أن يقضي عليه؟ أين العدالة التي حلم بها السوريون؟ هل باتت الحرية حكرًا على فئةٍ دون أخرى، والعدالة مجرد أداة انتقام تُستخدم لتصفية الحسابات؟

وما يزيد الطين بلة، أن المجتمع الدولي، الذي لطالما استنكر جرائم النظام البعثي، يلتزم اليوم صمتًا أقرب إلى التواطؤ حيال جرائم الاستبداد الجديد. وكأن أرواح الضحايا فقدت قيمتها، ما دامت لا تتناسب مع موازين المصالح السياسية، وكأن القضية السورية ليست إلا ورقة مساومة بين القوى الكبرى، يتم التلاعب بها وفق ما يخدم أجنداتهم لا وفق ما يحفظ حقوق السوريين.

وفي ظل كل هذه الفوضى، تبرز إيجابية لا يمكن إنكارها، وهي اعتقال عبد الكريم حويجة، قاتل كمال جنبلاط، الرجل الذي كان رمزًا للاستقلالية ورفض التبعية، ودفع حياته ثمنًا لموقفه الرافض للهيمنة والقمع. اعتقال قاتله، وإن جاء متأخرًا، هو إشارة إلى أن العدالة، مهما تعرّضت للتلاعب والتأخير، لا تموت تمامًا، وأن الحساب قد يأتي ولو بعد حين. لكنّ هذا وحده لا يكفي. فإيقاف دوامة العنف في سوريا لا يكون باعتقال قاتل، بل بإسقاط عقلية الانتقام التي تحكم المشهد، وإرساء نظام عادل يحمي الأبرياء بدل أن يذبحهم، ويعيد لسوريا هويتها بدل أن يحوّلها إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات بين المتطرفين والطغاة.

وما يزيد من خطورة المشهد، هو استغلال إسرائيل لهذا الفراغ، لتعزيز تمددها في الجنوب السوري، دون أن يجد من يتصدى لها. ليس لأن أحدًا لا يرغب بذلك، بل لأن النظام الجديد بات مشغولًا بممارسة القمع الداخلي أكثر من التصدي لأي عدوّ خارجي. فكيف يمكن الحديث عن تحرير سوريا إذا كان أهلها أنفسهم يقتلون بعضهم بعضًا؟ كيف يمكن الادعاء بالمقاومة، عندما يكون الدم السوري مستباحًا بأيادٍ سورية، وبأيدٍ خارجية تُعيد إنتاج الفكر الداعشي بأساليب جديدة؟

أمام هذا الواقع المأساوي، لا يمكن لسوريا أن تخرج من هذه الدوامة دون إنشاء نظام وطني يحمي المواطنين من هذه الجرائم البشعة، ويعيد للسوريين حقهم في العيش بأمان بعيدًا عن الاستبداد السياسي أو الديني. سوريا بحاجة إلى مشروعٍ وطني حقيقي، يضمن أن لا تتكرر هذه المجازر، وألا يتحوّل التغيير السياسي إلى مجرد استبدال قاتلٍ بقاتلٍ آخر، وطاغيةٍ بطاغيةٍ آخر، بينما يظلّ الشعب هو الضحية الدائمة.

إن الطغيان لا دين له، ولا طائفة له، سواء جاء تحت راية البعث أو راية التطرف الديني، فإنه يظلّ وجهًا واحدًا للاستبداد الذي يجب أن ينتهي إلى الأبد. ولا يمكن إسقاط نظامٍ مجرم ليحلّ محله نظامٌ أكثر إجرامًا، ولا يمكن القبول بأن يبقى الأبرياء ضحايا صراعٍ لا نهاية له، صراعٍ يُعيد إنتاج المأساة نفسها، بينما يواصل العالم النظر إليهم كأرقامٍ في تقارير سياسية، لا كأرواحٍ تستحق الحياة.

إن كل إشاعات الانقلاب هي من صناعة النظام الديني. كل المسألة هي في تمرّد الطائفة العلوية بعد تعرّض أبريائها للقتل في حقولهم على أيدي الشيشان والتركمان وبقايا الداعشيين.

يبدو أن السلطة في سوريا دائمًا تتشابه بعد خمسين سنة. القتلة يتفادون القتلة وينتنقمون من الأبرياء.

إن الحيثيات الثقافية لها خصوصياتها ولا يمكن لحكم مركزي لا ديمقراطي أن يدجّن بالقوة الجماعات ذات الخصوصية.

https://hura7.com/?p=46405

الأكثر قراءة