الأربعاء, مايو 14, 2025
9.6 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ المجتمع المدني في مواجهة الخراب

الحرة بيروت

“المجتمع المدني ليس بديلًا عن الدولة، بل ضميرها الحي.” – أنطونيو غرامشي

“من لا يعرف الحقيقة، فهو مجرد أحمق… أما من يعرفها ويكذب، فهو مجرم.” – برتولت بريشت

هذا النص كان معدّاً ليكون خاصًا موجهًا، الهدف منه صفع بعض الفاجرين من الصحفيين كما يدعون لكن المأساة أنك لا تجد لهم نصاً مكتوبًا أنهم شفهيون تافهون. الأمر الذي يلصق بهم صفة الأبواق. صنف خاص من الكائنات الصحفية لا تكتب بل تزعق.

في هذا البلد الذي تتواطأ فيه المصارف مع القتلة، ويتحول السلاح إلى معيار للوطنية، والإعلام إلى ملهى لتلميع الجلادين، لم يعد المجتمع المدني ترفًا. صار خندقًا أخيرًا للذين لم يبيعوا كرامتهم، ولم يسلّموا عقولهم على أبواب الزعيم. لكن هذا الخندق محاصر، ليس فقط من الخارج، بل من الداخل أيضًا: بأصوات رخوة تروّج لتيسير النهب، وبأبواق ممولة تعيد إنتاج منظومة الخراب تحت عناوين التغيير.

هذا النص ليس مقال رأي. إنه بيان غضب. صرخة ضد تدجين المجتمع، وضد تحويل العمل المدني إلى “ملف مشاريع”، والكرامة إلى “خطة طوارئ”. هنا لا نسأل عن تمويل الجمعيات فقط، بل عن تمويل السلاح، عن تمويل الأكاذيب، عن تمويل الذلّ. وهنا لا نراوغ: من لم يصرّح علنًا أن لا شرعية إلا للدولة، فهو جزء من الاحتلال المقنّع. من لم يواجه المصارف بصوت واضح، فهو شريك في التواطؤ. ومن لم يخرج عن صمته اليوم، لن يكون سوى ظلٍّ في جنازة وطن يُذبح كل صباح.

في زمن سُرقت فيه الحقيقة من أفواه الضحايا ووضعت على لسان من شوهوا التاريخ ونهبوا الحاضر، يتعرض المجتمع المدني في لبنان لحصار ثلاثي: تشويه من المنظومة، تخوين من أبواقها، وابتزاز من مانحيها. لا لأنّه خطر، بل لأنه بات المساحة الوحيدة الباقية بين الناس والدولة، بين الاحتجاج والخراب، بين الكلام والفعل.

ليست القضية إن كان المجتمع المدني قد أخطأ – نعم، أخطأ كثيرًا، وانحرف أحيانًا، وتماهى أحيانًا أخرى. لكن السؤال الحقيقي هو: من بقي غيره؟ في بلد اختنقت فيه الأحزاب بمعادلات الدم والتمويل والسلاح، وانطفأ فيه البرلمان، وتحوّلت الحكومة إلى واجهة عاجزة، لم يبقَ في الساحة سوى المجتمع المدني كأفق تغيير، رغم كل ما يحيط به من تآكل داخلي، وتضييق خارجي.

وحده المجتمع المدني طرح أسئلة الحقيقة: من فجّر بيروت؟ من نهب المصارف؟ من عطّل العدالة؟ من يجرّ لبنان من حرب إلى أخرى دون أن يسأل أحدًا؟ في مقابل هذه الأسئلة، كان الردّ تافهًا ومكرورًا: أنتم ممولون. أنتم نخبويون. أنتم أدوات سفارات.

لكن الحقيقة أعمق. فما يُخيف المنظومة ليس التمويل، بل التنظيم. ليس الشعارات، بل التراكم. ليس المبادرات، بل البناء التدريجي لتحالفات شعبية مستقلة قادرة على إرباك النظام. ولهذا، شُنّت الحرب على المجتمع المدني. مرة بوصفه ديكورًا ناعمًا، ومرة باعتباره طابورًا خامسًا. لكنّ الحرب الحقيقية كانت على كل محاولة للخروج من وحدانية الزعيم هي الخراب.

في المشهد اليوم، يشتبك المجتمع المدني مع ثلاث قوى مهيمنة:

أولًا، تحالف المال-السلاح، الذي يتجسّد في المصارف التي نهبت الودائع، وفي الأحزاب التي تحميها، وفي السلاح الخارج عن الشرعية الذي يمنع قيام الدولة. هذه القوى لا تتعايش مع نقد، ولا تحتمل محاسبة. تريد شعبًا مطيعًا، وإعلامًا تابعًا، وذاكرة مشوّهة.

ثانيًا، الإعلام المأجور، الذي لم يكتفِ بتزييف الحقائق، بل تولّى مهمة اغتيال المعاني. حين تصير الحرية مؤامرة، والمحاسبة تطاولًا، والسيادة عمالة، نكون أمام انقلاب ثقافي كامل. هذا الإعلام لم يعد وسيطًا، بل شريكًا في الجريمة.

ثالثًا، طبقة الخبراء والمحللين التافهين الذين لا تجد لهم نصا يىقرأ وقد ملأوا الارض زعيقا و هم الحثالة الذين ارتضوا ان يكونوا ماسحي الجوخ مقابل بعض الدراهم ومعهم بعض الاكاديميين و قد تخلّوا عن دورهم النقدي، وارتضوا أن يكونوا واجهات تبرر الجريمة و تقف في صف من يواجه الشعب و قدرته على الغيش الكريم ، أو أبواقًا ناعمة للمنظومة. هؤلاء لم يخطئوا بالتقدير فقط، بل خانوا رسالتهم.

ورغم هذا الحصار، فإنّ المجتمع المدني لا يزال قادرًا على استعادة زمام المبادرة. لا عبر شعارات التسامح الكاذب، ولا عبر تكرار التجارب الفاشلة، بل عبر بناء جبهة مدنية وطنية، تعيد المعركة إلى حقيقتها: بين دولة القانون لا دولة الميليشيا، بين العدالة واللامحاسبة، بين الذاكرة والتشويه، بين السيادة والتبعية.

هذه الجبهة لا تبنى بخطاب فضفاض، بل بعمل يومي، محلي، تنظيمي، شعبي. تبنى باستعادة النقابات، وتحويل البلديات إلى فضاء سياسي تنموي مستقل، وبالعمل على تفكيك شبكات النفوذ القائمة، لا فقط فضحها.

الخطاب المطلوب اليوم ليس دفاعًا عن المجتمع المدني بوجه الاتهامات، بل اتهام مباشر للمنظومة التي قتلت الأمل. المطلوب ليس تبرير التمويل، بل فضح من استعمل الدولة كدكان تمويل، ومن ادار البلاد كأنه يدير ميليشيا. المطلوب ليس حيادًا، بل مواجهة واضحة مع من خطف الدولة، وأهان القانون، وابتزّ الناس بلقمة عيشهم.

ما نحتاجه ليس تصويبًا فقط، بل خيالًا جديدًا. أن نعيد للسياسة معناها، وللوطن معناه، وللحقيقة قوتها. وأن نكفّ عن الاعتذار لأننا نرفض الإذلال. فالمجتمع المدني، في جوهره، ليس جهة مانحة ولا منظمة غير حكومية. إنه الناس حين يقررون أنهم ليسوا عبيدًا، وأنّهم لن يكونوا صدى لخطابات القتلة.

إما أن يتحوّل المجتمع المدني إلى كتلة وعي وتنظيم وتحرير، أو يبقى تفصيلًا في مشهد الخراب. وإما أن يعلن استقلاله عن السلاح والمصرف والممول، أو يُستخدم لتجميل وجه القبح. اللحظة حاسمة. الخيار واضح. إما مجتمع مقاوم للهيمنة، أو مجتمع مروض بتمويل مشروط.

لا شرعية لمن لا يعترف بالدولة. ولا دولة لمن لا يعترف بشعبها. ولا مقاومة لمن لا يقبل المحاسبة.

لا وطن مع المساومة. ولا كرامة مع التذاكي. ولا تغيير مع الصمت.

لن يُبنى لبنان من فوق ركام الأكاذيب، بل من صدق المواجهة. ومن ينتظر أن يُمنح الإصلاح من الطغاة كمن ينتظر الحرية من سجّانه. السلاح الذي لا يُحاسب، سيتحوّل إلى دين. والمصرف الذي لا يُدان، سيصبح قانونًا. والمجتمع المدني الذي لا يتمرّد، سيُختزل في نشرة علاقات عامة لمنظومة تحترف التجميل قبل الذبح.

آن أوان القطيعة: مع الخطاب الذي لا يقيم وزنا للجوعي، مع سلاح الإلهام الغيبي، مع المهرجانات الممولة، مع الزعامات البديلة التي تعيد إنتاج الأبويّة بثياب عصرية.

من لا يملك الشجاعة ليقول: لا، لا يستحق أن ينطق باسم الناس. ومن لا يجرؤ أن يسمي القاتل باسمه، لا يملك حق الحداد على الضحية.

فلنقلها الآن، قبل أن نُجبر على قولها في تباشير حربٍ جديدة: لا دولة بوجهَين. ولا مجتمع برأسين. ولا مقاومة بلا حساب.

المجتمع المدني بين انتظارات التغيير وحدود البنية

لم يعد من المجدي تجاهل حقيقة أن المجتمع المدني في وُضع في الواجهة حين تهاوت الحياة الحزبية وقُمعت أو تآكلت الأحزاب المعارضة بفعل الترويض أو العزل أو التهميش. اليوم، صار يُنتظر من جمعيات أهلية ذات موارد محدودة، وهياكل ضعيفة، وخطاب مشتّت، أن تقوم بدور المعارضة، والتنظيم، وتقديم البديل، والدفاع عن الحريات، وحتى خوض الانتخابات، في غياب شبه تام لأحزاب وطنية منظّمة تحمل مشروعًا تغييريًا طويل النفس.

في حين يُتوقع من المجتمع المدني أن يكون المخلّص، تتوالى الأسئلة التي تدور حول مدى قدرته على إحداث التغيير المنشود: هل يمكن له أن يكون فعلاً منبرًا حقيقيًا للعدالة الاجتماعية، أم أن كل ما يقدمه لا يعدو كونه محاكاة لعمل السلطة القائمة؟

الواقع المعقد للمجتمع المدني

لا يخلو واقع المجتمع المدني في لبنان من تعقيدات بنيوية يستحيل تجاهلها في أي مراجعة نقدية صادقة. إن التحديات الكبرى التي يواجهها المجتمع المدني تبدأ من ارتباط عدد كبير من جمعياته بالممولين الخارجيين. هذا الارتباط الذي قد لا يكون شاملاً، إلا أنه يحمل تبعية واضحة تسلب المجتمع المدني استقلالية قراره. كثيرًا ما نرى أجندات تلك الجمعيات تتبنى توجهات ليبرالية مفرطة لا تعبّر بالضرورة عن أولويات الناس في بيئاتها، بل تُعيد إنتاج منطق السوق بلبوس حقوقي. هذه التبعية التمويلية لم تقتصر فقط على ضعف القرار المستقل للمجتمع المدني، بل أفرغت مفهوم العمل المجتمعي من مضمونه التحرّري، وجعلته جزءًا من منظومة تمويلية تهدف إلى استمرارية المشروعات لا تحقيق التغيير.

الخلل في البنية التنظيمية

من ناحية أخرى، يعاني المجتمع المدني اللبناني من ضعف كبير في بنيته التنظيمية الداخلية. حيث أن العديد من المنظمات تفقد الشفافية الكافية في عمليات اتخاذ القرار. فلا جمعيات عمومية فاعلة، ولا تداول ديمقراطي داخل الهيئات، ولا آليات محاسبة واضحة. بل تتحول العديد من المنظمات إلى ملكية شخصية يُمسك فيها “قائد مزمن” أو “وجه رمزي” بخيوط التمويل والإعلام، ويصعب تغييره حتى في ظل الفشل أو تراجع الأداء.

المجتمع المدني في مواجهة الاستقطاب السياسي

وإذا كانت تلك القيود البنيوية قد أفقدت المجتمع المدني جزءًا كبيرًا من فاعليته، فإنه يجد نفسه أيضًا في مواجهة الاستقطاب السياسي الحاد. ففي لبنان، حيث تختلط السياسة بالدين والطائفة، يجد المجتمع المدني نفسه محاصرًا بين مطرقة التمويل وسندان التسييس. تتّهمه القوى التقليدية بعدم الجذرية والفعالية، وتحمّله قوى الشارع مسؤولية التردد في اتخاذ الموقف الحاسم من قضايا مصيرية مثل جرائم الاحتلال، أو تغوّل المصارف، أو اختلالات بنيوية في الدولة.

المجتمع المدني بين الانتظارات والواقع

إن هذا التناقض الكبير بين ما يُنتظر من المجتمع المدني وما هو واقع فعليًا يضعه في موقف حرج. فبينما يُتوقع منه أن يكون الفاعل الأساسي في التغيير، تُوَجَّه إليه اتهامات متعددة بالضعف، والتبعية، والافتقار إلى القدرة على بناء مشروع وطني تغييري حقيقي. لكن المجتمع المدني ليس كتلة واحدة، فكما يحتوي على الطليعة، يحتوي أيضًا على الانتهازيين الذين يتاجرون بالقضايا، ويستفيدون من التمويل الخارجي لأغراض شخصية أو سياسية ضيقة.

نحو تحالف مدني تغييري

من هنا، فإن المجتمع المدني الناضج يجب أن يقطع مع وهم التمثيل التلقائي ومع تلك الطفولية التي ترى أن وصول فرد من “البيئة المدنية” إلى موقع القرار كافٍ لتغيير البلد. فالعمل الجاد لا يقوم على المبادرات الفردية أو الشعارات ، بل على تحالفات اجتماعية حقيقية، تحارب الفساد وتفضح التلاعب بالثروات العامة، وتدافع عن حقوق الناس بما يتناسب مع حاجاتهم الفعلية في الحياة اليومية. إن تحالفًا مدنيًا تغييريًا هو ما نحتاجه اليوم، تحالفًا قادرًا على بناء شبكات ديمقراطية داخلية حقيقية، ينفتح على القوى السياسية المعارضة الجادة، من دون خوف من الاختلاف أو التراجع أمام التسويات السياسية.

مواصلة القتال: أهمية التغيير البنيوي

وما لم يحصل هذا التحول الجذري في هيكلة المجتمع المدني، فستظل مشاركته السياسية شكلية، وستتحول طاقاته إلى ديكور تزينه السلطة، لتأخذ منه ما تشاء وتتركه ضعيفًا بلا أثر. لا يمكن أن يكون المجتمع المدني فاعلاً في هذا السياق إذا ظل يتأرجح بين التمويل الخارجي والمساومة على حساب مصالح المواطنين. ولا يمكن أن ننتظر منه أن يكون بديلًا حقيقيًا، ما لم يتخلَّ عن ثقافة “الاعتراض الهش”، ويضع نصب عينيه أهدافًا واضحة ومعايير قابلة للتحقيق على أرض الواقع.

المجتمع المدني يرمم ذاته هو البديل الوحيد المتوفر

لقد حان الوقت للمجتمع المدني أن يعيد تحديد دوره، وأن يتبنى استراتيجية حقيقية لعمله بعيدًا عن التسويات السياسية. المجتمع المدني يجب أن يكون أكثر من مجرد رد فعل على فشل السلطة، بل يجب أن يكون القوة السياسية التي تؤسس لمستقبل لبنان بعيدًا عن الميليشيات والطوائف. ونحن اليوم أمام فرصة حقيقية لتحويل المجتمع المدني إلى محرك للتغيير البنيوي، ليصبح أداة قادرة على تحفيز الناس على الانخراط في السياسة، والضغط على النظام لتغيير قواعد اللعبة.

إلا أن هذا لا يحدث إلا إذا أخذ المجتمع المدني على عاتقه دورًا حقيقيًا في محاربة الفساد، وفي تعزيز العدالة الاجتماعية، وفي الدفاع عن السيادة الوطنية ضد الهيمنة الخارجية، ومن ثم يبني نفسه ليكون كتلة من الوعي والمشاركة والمحاسبة.

نعم، يحتاج لبنان إلى دولة لا تهددها الانقسامات، ولا تُهدّدها الميليشيات. الدولة التي تكون هي الحاكم المطلق، وليست تحت تهديد الخارج أو السلاح غير الشرعي. ومجتمع مدني يستطيع أن يشكل أداة فعالة لإعادة بناء هذه الدولة، بعيدًا عن الانقسامات الطائفية، ومن خلال العمل الجاد والتنظيم المستدام.

لن يكون التغيير سهلًا، لكنه الآن أكثر ضرورة من أي وقت مضى.

في لحظةٍ تاريخية دقيقة يعيشها لبنان، يبدو أن النزاع الحقيقي لا يمرّ فقط بين شعب وسلطة، ولا بين شارع ومنظومة، بل بين نموذجين متضادين: الدولة كأداة تسلّط موروثة من أمراء الحرب، والمجتمع كأفق بديل، يتخذ شكل المجتمع المدني حينًا، وكتل شعبية مشتتة حينًا آخر. وفي قلب هذا التناقض، يتعرض المجتمع المدني اليوم لنقد مضاعف، من أطراف متقابلة، كلٌّ له مآربه: فهو عند السلطة امتدادٌ لمشاريع الخارج، وعند بعض الحراكيين مجرّد ديكور هشّ عاجز عن المواجهة.

فهل يمكن للمجتمع المدني أن يتحول إلى قوّة سياسية قادرة؟ أم أنه تحوّل إلى مطيّة مرنة لنظام نيوليبرالي عالمي نجح في تبهيت معالم الفعل التغييري، واختزل المواجهة في مشاريع خدماتية وتعويضية على هامش الدولة؟

بين طفولة النقد ورجولة المواجهة

من الأخطاء المتكررة في مقاربة دور المجتمع المدني، تلك الثنائية التي تحصره إما في موقع البديل الخالص، أو في موقع الوكيل المشبوه. ففي الخطاب التغييري، نُقلّب المفاهيم بمنطق الحدّية: إما أن يكون المجتمع المدني ثوريًا جذريًا راديكاليًا يعصف بكل شيء، أو لا يكون. وإذا لم يُسقِط النظام، يُسقِط عليه اللوم. وإذا لم يُنتج زعيمًا ملهمًا، يُسحب منه التمثيل. وإذا لم يتخذ موقفًا مطابقًا لغضب الشارع، وُصم بالجبن والتواطؤ.

لكنّ هذا المنطق الطفولي، القائم على فورة الأخلاق والرفض المجرد، سرعان ما اصطدم بالواقع. فقد تبيّن أنّ السلطة الحقيقية ليست فقط في قصر بعبدا أو في عين التينة، بل في المصرف المركزي، وفي القوانين المعلّقة، وفي السلاح غير الخاضع للدولة، وفي التمثيل النيابي المختطف عبر قانون انتخاب مفصّل على قياس الأحزاب الطائفية.

في هذا السياق، من السذاجة أن يُطلب من المجتمع المدني ما لم يُطلب من حزب الله، ولا من حركة أمل، ولا من التيار الوطني الحر، ولا من تيار المستقبل. فهؤلاء لم يُسألوا يومًا عن “مشروع بديل” لأنهم اختطفوا مفهوم السلطة، واحتكروا أدواتها.

لا أحزاب ولا دولة… من يقاوم الانهيار إذًا؟

لبنان لم يعد مجرد بلد منهار سياسيًا. نحن في لحظة عطل تاريخي شامل.

في هذه الظروف، لم يبقَ على الساحة من يعارض هذه المنظومة فعليًا سوى مكوّن وحيد: المجتمع المدني بوجوهه المتعددة، من نقابات وجمعيات وحراكات ومجموعات سياسية مستقلة.

ومع ذلك، فإن هذا المكوّن ليس طوباوياً. فهو ينوء تحت ثلاث ضربات متزامنة:

تهمة التبعية للخارج والمموّل، تُلصَق به من كل من يريد إسقاط صدقيته، مع أن هؤلاء أنفسهم يتقاضون تمويلًا من نفس السفارات.

ضغط الانهيار الاجتماعي والاقتصادي الذي جعل منظمات المجتمع المدني تقوم مقام الدولة، لكنها تُحاسَب كأنها سلطة تنفيذية.

نقد شعبي مشروع، لكنه أحيانًا يتجاوز الواقع إلى الإنكار، فيُحمّل المجتمع المدني عبء الثورة ونتائجها وكأنّه حزب سياسي منظّم، أو مؤسسة دستورية مسؤولة.

خطاب السلطة في ثوب المقاومة

من اللافت أن الخطاب التخويني للمجتمع المدني لم يعد حكرًا على أبواق المنظومة، بل بات متورطًا في استعمال مفردات السيادة نفسها التي لطالما تمحورت حول حماية السلاح، ورفض الهيمنة الخارجية. وهكذا، صار من يطالب بالشفافية يُتَّهم بأنه عميل لجهات دولية، ومن يطالب بمحاسبة الفاسدين يُوصم بأنه يشوّه صورة لبنان. أما من يطالب بتحقيق في انفجار المرفأ، فهو يخرق “التوازن الوطني”.

اللافت أكثر، أن من يُبشّر اليوم بالاقتصاد المنتج، والكرامة الوطنية، ومحاربة الفساد، هو نفسه من يحمي مافيات المصارف، ومنع التحقيق الجنائي، وهدد القضاة، ويشيطن الكلمة، ويحتكر السلاح.

المجتمع المدني بين التمويل والشرعية

اما احزاب السيادة، هل صاغت برامج فعلية؟
هل احترمت الحياة الديمقراطية داخل صفوفها؟

المجتمع المدني ليس معصومًا، لكنه لم يسرق أموال الناس، ولم يهرب أموالهم إلى الخارج، ولم يختطف القرار الوطني، ولم يعطّل القضاء، ولم يمنع قانون الانتخاب العادل.

الداخل والخارج… من يحكم من؟

في لحظة انكشاف الكيان اللبناني، برزت هيمنة العامل الخارجي بشكل غير مسبوق. كل الاستحقاقات الدستورية، من انتخاب رئيس الجمهورية إلى تشكيل الحكومة، باتت مشروطة بموقف سفارة ما، أو بيان قمة إقليمية ما، أو تسوية غير مُعلَنة بين دول المحورين.

لكن هنا أيضًا، يُسقط المجتمع المدني من الحساب، لأنّه لا يملك قوة السلاح، ولا قرار الحرب والسلم، ولا سلطة التمثيل الرسمي. كل ما يملكه هو صوته، شبكاته، قدرته على التنظيم، وشبكة مصالح مع المجتمع لا مع الخارج.

فهل المطلوب منه مواجهة حزب مسلّح، ومصرف محصّن، ودولة خائفة، وناس منهكة… في آن؟

المجتمع المدني كعامل تحويلي لا إنقاذي

الرهان الواقعي اليوم ليس على المثالية. المجتمع المدني ليس مخلّصًا. لكنه أداة تراكم سياسي واجتماعي ومعرفي وتنظيمي قادرة على إعادة صياغة موازين القوى.

في لحظة تغييب الأحزاب، أو تواطؤها، أو خضوعها، يبرز المجتمع المدني، لا كبديل، بل كقناة انتقالية باتجاه إنتاج كتلة تاريخية جديدة، قادرة على تمثيل التحوّل لا على اختصاره بشخص أو حملة إعلامية.

من هنا، يجب أن يتحوّل المجتمع المدني من موزاييك منظمات إلى ائتلاف متماسك ذي رؤية، يتبنى خطابًا نقديًا جذريًا غير شعبوي، يميّز بين الأعداء البنيويين والخصوم المرحليين، وينتج أدوات تعبئة فعلية لا مجرد بيانات.

ما العمل؟

بناء تحالف اجتماعي تغييري واسع لا يكتفي بالتمثيل، بل يعيد صياغة معنى التمثيل.

فك الارتباط مع النخب النيوليبرالية والمانحين المشروطين، دون الوقوع في فخ العداء المجاني للمجتمع الدولي.

صياغة خطاب جديد يحفر في الوعي لا في الاستعراض الإعلامي، ويعيد الناس إلى الشارع لا عبر الشعار بل عبر التنظيم.

الانخراط في المعركة الانتخابية المقبلة كتحوّل استراتيجي لا كمعركة رمزية، مع قراءة نقدية لتجربة 2022.

استعادة الصراع الطبقي والاجتماعي إلى صلب أجندة التغيير، دون اختزاله في شعارات هوية أو مواقف سيادية.

من الشبهة إلى الضرورة

المجتمع المدني ليس ظاهرة حديثة في لبنان. منذ الاستقلال وحتى الحرب، ومن بعدها حتى اليوم، كان هذا المجتمع – بكل تحولاته – شريكًا في المسار العام، أحيانًا كمعارض، أحيانًا كقوة ضغط، وأحيانًا كصوت خافت على الهامش.

اليوم، هو وحده ما تبقى من فضاء عام حيّ، في ظل موت السياسة الرسمية، وانهيار شرعية الدولة، وتهرّؤ الأحزاب.

قد يكون متناقضًا، متنوعًا، هشًا في بعض مفاصله. لكنه لا يزال الأمل الوحيد القادر على إعادة طرح السؤال الأساسي: من يحكم لبنان، ولماذا؟

*الدكتور بشير عصمت – باحث وأستاذ جامعي في التاريخ الاجتماعي والسياسات العامة

https://hura7.com/?p=50416

الأكثر قراءة