الثلاثاء, أبريل 29, 2025
17.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ المحافظون الجدد في لبنان: الوعد الرجعي الذي يقود إلى الحرب

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

“كل من ينادي بالحرية لنفسه دون غيره، لا يبحث عن الحرية، بل عن سلطة جديدة” –  فولتير

الرجعية هي وهم الطهارة؛ تحاول النجاة من فساد الحاضر بالهرب إلى ماضٍ لم يكن بريئًا” – نيتشيه

الوطن ليس عقيدة تُفرض، بل عقد يُبنى بين أحرار مختلفين” – روسو

 

في زمنٍ يبحث فيه اللبنانيون عن الخلاص من أزماتهم المتناسلة، يطل عليهم من بيت مري تجمع جديد، تحت اسم “المحافظون الجدد – لبنان”، بخطاب يُروَّج له على أنه بديل، فيما هو إعادة إنتاج فجّة لماضٍ مشبع بالأوهام والخوف والهويات القاتلة. لا جديد في خطاب هؤلاء، وإن كانوا يدّعون “التجديد”. بل لعلّ ما في البيان التأسيسي الذي قرأوه ليس سوى استدعاءٍ سافر لكل ما قاد البلاد إلى الانفجار، والفشل، والانقسام، والحروب، والدمار.

و اذا كان لافتًا غياب أي رمز حقيقي ذات حضورمن الأطراف المسيحية، وهي بغالبيتها تقيم علاقات ودّ وصداقة مع مواطنيها والجوار المسلم، إلّا أن المضحك المبكي هو في تأييدهم “العميق” لرئيس الجمهورية وخريطة الطريق التي أهدوه إليها، شرط أن ينفّذ أجندتهم المبالغ في تطرفها.

يتحدث المجتمعون عن “الفكر اليميني الحضاري”، في حين أن معظم ما ورد في بيانهم يعكس نَفَسًا فاشيًا، يخلط بين الهوية والمقدسات، وبين الدين والسياسة، وبين الحق الفردي والتملك الطائفي. يريدون دولة لا يسكنها إلا من يشبههم، دولة “مسيحية الهوى”، تشبه الخنادق القديمة التي اعتقد اللبنانيون أنهم غادروها إلى غير رجعة. الفدرالية ليست المشكلة بحد ذاتها، بل استخدامها كقناع للهروب من مواجهة المسؤولية الوطنية، ولإعادة إنتاج التقوقع والخوف من الآخر، وكأن لبنان لا يُبنى إلا على عزلة ديموغرافية وهويات متحاربة.

ما يُعرض هنا ليس مشروع إنقاذ بل إعلان رسمي للإخفاق. العودة إلى منطق أن “الطائف خطر وجودي على المسيحيين” هو قراءة كسولة ومغلوطة للتاريخ. إذا لم يكن الطائف مثاليًا، لكنه لم يكن مؤامرة. أن يتم تحميله ذنوب كل فشل سياسي واقتصادي، دون أي مراجعة لنكوص القوى المسيحية الكبرى، هو نوع من التهرب الجبان من المسؤولية، وإعادة تدوير المظلومية لتبرير التصلب والخوف والانغلاق.

كيف يجتمع “الحياد” الذي يدّعي المجتمعون تبنيه مع دعواتهم إلى “التحالف مع اليمين العالمي”، ورفع “عريضة للمجتمع الدولي”، والالتحاق بالمشروع الأميركي-الإسرائيلي للسلام في المنطقة؟ أي حياد هذا الذي يعيد لبنان إلى مربّع التبعية؟ كيف يكون الحياد دعوة صادقة حين يكون امتدادًا لخطاب حرب باردة جديدة ضد كل من لا يتبنّى “الرؤية اليمينية المسيحية” المعلنة في البيان؟ أليس هذا حيادًا مُصممًا على مقاس واشنطن وتل أبيب وبودابست وروما، لا على مقاس سيادة الدولة اللبنانية الجامعة؟

من يقرأ البيان يُصدم من التركيز المهووس على قضايا مثل الهوية الجندرية، رفض الإجهاض، “احتفاء التاريخ المسيحي”، وضرورة طرد اللاجئين والمهاجرين. هذه ليست رؤية سياسية، بل كتيّب تعليمات عقائدي أشبه ببيانات الأحزاب الشعبوية الأوروبية اليمينية التي تسلّلت إلى الحكم عبر تخويف المجتمعات من الآخر والمختلف والآتي من خارج الحدود.

وإذا كان البعض في الغرب يتبنى هذا الخطاب تحت وطأة تحولات اقتصادية وديموغرافية معقدة، فماذا عن لبنان؟ ما علاقة لاجئ سوري أو فلسطيني، يعيش بالفقر أو مهدد بالقتل أو القهر، بـ”فقدان الهوية المسيحية”؟ و هم حتمًا سيرحلون. هل الخطر على المسيحيين هو الآخر الفقير، أم المنظومات الفاشلة التي أهملت مناطقهم وصادرت تمثيلهم وأهدرت فرصهم؟

الأخطر في هذا المشروع هو محاولته إعادة تعريف الحرية. لا حرية هنا، بل رقابة ذاتية مفروضة على كل من يفكر خارج القطيع. “الحوار بين الشعوب ذات الهوية الدينية” كما يصفه البيان، هو في حقيقته رفض لكل تعددية حقيقية، لكل فرد حر، لكل امرأة حرة في اختيار مستقبلها، لكل إنسان يريد أن يكون هو نفسه. إنه تمجيد للوصاية الأبوية، للسلطة الأخلاقية، ولخوف جماعي من الحداثة.

هنا، يُحاكم اليسار، وتُخوّن النسوية، ويُخشى من “تمييع العقيدة”. إنها رجعية مموّهة بـ”الهوية” و”الخصوصية” و”القيم”، لكنها لا ترى الإنسان، بل فقط الجماعة. لا تؤمن بالفرد، بل بالأمة الطائفية المتراصة التي لا تقبل الاختلاف.

من السذاجة – أو التواطؤ – أن يروّج هؤلاء لفكرة أن الطريق إلى “حماية المسيحيين” يمرّ عبر الانفصال، الانغلاق، والتحالف مع اليمين المتطرف. هذه وصفة جاهزة لحروب الغد. لا أحد يرفض أن يكون للمسيحيين في لبنان صوت قوي ووازن، لكن أي صوت هذا الذي يريد خنق التنوع، ويستدعي وصايات جديدة بحجة أن القديمة فشلت؟ من قال إن الخلاص يأتي من خارج الحدود، وليس من بناء دولة مدنية جامعة، تحترم الجميع وتضمن حقوق الجميع؟

لبنان، بما فيه من مسلمين ومسيحيين، لا يحتمل مشاريع الإقصاء ولا الانعزال ولا الهيمنة. لا من محور “المقاومة” الذي صادر القرار الوطني، ولا من يمين متطرف يريد أن يصادره بحجة استعادة الهيبة. كل طغيان يولّد طغيانًا مضادًا، وكل إقصاء يولّد عنفًا، وكل استدعاء للهويات الفئوية لا يؤدي إلّا إلى حرب أهلية تنتظر شرارتها الأولى.

أما الحديث عن “تحالف مع اليمين الأميركي”، فهذا بيت القصيد. من هو هذا اليمين؟ إنه نفسه الذي شرّع احتلال العراق، وصمّت آذانه عن المذابح في فلسطين، وقاد مشاريع تفكيك المنطقة. إنه اليمين الذي لا يرى في الشرق سوى ساحة للاحتواء أو للإقصاء، والذي لم يُبدِ يومًا حرصًا على المسيحيين إلا كـ”أداة” لابتزاز العرب والمسلمين.

أهذا هو المشروع “اللبناني المسيحي الحضاري”؟ مشروع يستدعي أنظمة فاشية، ويستلهم خطابات رجعية سلفية، ويزرع ألغامًا في مجتمع لم يلتئم بعد من جراحه؟ إنه مشروع طائفي بثوب حديث، يقدّم نفسه كخلاص، فيما هو بوابة لحرب جديدة، وصيغة متفجرة لا تبني وطنًا بل تنهيه.

لبنان لا يُبنى ببيانات مليئة بالخوف والهلع والانعزال، ولا بالمزايدة على الآخر المختلف، ولا بإحياء خنادق الطائفية عبر مصطلحات الحداثة. لا يُبنى لبنان باتباع خطوات من يعادون الحرية باسم الفضيلة، ويعادون الآخر باسم الهوية، ويعادون العقل باسم الإيمان.

المحافظون الجدد في لبنان هم في الواقع رجعيون قدماء بثوب جديد. لا يقدّمون خلاصًا، بل يشيحون بنظرهم عن الأزمة الحقيقية: أزمة الدولة، أزمة العدالة، أزمة غياب المشروع الوطني الجامع. وكل ما عدا ذلك ليس سوى ذرّ للرماد في العيون، وتهيئة الميدان لصراع آخر، أشد وأعمق، لن ينجو منه أحد. لحسن الحظ هم قلة مشوهة لم يشمل خطابها “سوروس” و”كلنا إرادة”…

“الهويات الخائفة تبني الأسوار، أما الهويات الواثقة فتبني الجسور”.

https://hura7.com/?p=47591

الأكثر قراءة