الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- محمود درويش: “وأنت تعدّ فطورك لا تنسَ قوت الحمام؛ وأنت تخوض حروبك فكّر بغيرك لا تنسَ من يطلبون السلام؛ وأنت تنام وتحصي الكواكب فكّر بغيرك ثمّة من لم يجد حيّزًا للمنام؛ وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات فكّر بغيرك من فقدوا حقّهم في الكلام”.
ينشغل معظم سياسيي لبنان اليوم بالمساومة على المقاعد والكل بانتظار ما ستتمخض عنه ورقة نواف سلام إلى رئيس الجمهورية. قلق يسود أي كرسي لمن؟ منهم من وعد نفسه والمرشحون التكنوقراط من غير النواب وغير الحزبيين يتلمسون طريق المجد عبر تقصّي أخبار التشكيلات المنحولة.
لكن ما غاب كليًا هو اليوم التالي. أي برنامج لأي حكومة؟ في الحقيقة، كل التمنيات الطيبة لنواف سلام الشخصية القديرة التي تجرّب بالملموس أحابيل السياسة اللبنانية. إن تفكيك عقد العلاقات ليس مسألة بسيطة. هي تراكم لعقد منها ما يعود للتأسيس، أي للعام 1920 وما بعده. ومنها ما يعود للحقب الفلسطينية والإسرائيلية والمتعددة الجنسيات، ثم السورية والإيرانية إلى اليوم.
إن انتخاب جوزيف عون رئيسًا للجمهورية وتكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة وضع لبنان أمام مرحلة جديدة؛ مرحلة تأتي في سياق ملؤه التحديات، يواجه فيها الشعب اللبناني إرثًا طويلًا من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بين الوعود التي طالما تكررت والإصلاحات التي لم تتحقق، حيث يقف اللبنانيون اليوم أمام سؤال جوهري: أي وظيفة لهذه الحكومة؟ وأي مستقبل ينتظر البلاد؟ وهل من قام بالتخريب بإمكانه الإصلاح، بل إعادة البناء؟
ومن المؤسف الإشارة إلى أنه، وبدل الاتعاظ من كل التجارب، ثمة من هلّل فرحًا بسقوط الممانعة معلنًا انتصارًا لم يكن له فيه أي دور، مقابل من يعتبر أنه منتصر دومًا، مما أعطى إشارات لتحديات كان الأحرى أن تتغير في النفوس في ظل كل ما جرى ويجري. كم كان أكثر جدوى بكثير مؤازرة العهد ببث روح التعاون والتضامن والمواطنية.
إرث ثقيل من الأزمات
قبل ربع قرن، جاء عهد الرئيس إميل لحود ووُعد اللبنانيون بالإصلاح، لكن ما تحقق كان العكس تمامًا. من تجديد تعيين رياض سلامة حاكمًا لمصرف لبنان وتجديد ولايته مرارًا، إلى وعود الإصلاح المؤلمة التي لم تُترجم إلّا إلى مزيد من الألم، الذي كان ، حيث المسار كان واضحًا: سلطة تتقاسم الحصص وتغرق البلاد في الديون وفي الفساد، والشعب يدفع الثمن.
على مدار العقود، تحوّلت البلاد إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية. الحرب الإسرائيلية، النفوذ السوري، النفوذ الإيراني، والهيمنة الطائفية، كلها عوامل جعلت لبنان رهينة لتوازنات قوى لا تعير المواطن اهتمامًا. ومع اندلاع الحرب في سوريا وتعطيل مشاريع كبرى كالتنقيب عن النفط، أُضيفت أعباء جديدة على كاهل الدولة المنهكة.
انتفاضة تشرين والأمل المُخدّر
جاءت انتفاضة تشرين لتبعث الأمل في نفوس اللبنانيين، لتعبّر عن شعب حي يحمل مطالبه بديمقراطية معبّرًا عن إرادته بوطن ودولة، مع محافطة قواها الأصيلة على حيويتها. لكنها سرعان ما ضمرت بالاستقواء عليها من قوى سياسية عملت لإعادة إنتاج الانقسام الطائفي بعد تعرضها إلى قمع السلطة وقوى الأمر الواقع. وبدا أن الآمال الشعبية قد أُجهضت في مهدها، حيث استمرت الطبقة الحاكمة في استنزاف الدولة وتجاهل مطالب الناس.
تكوّن مع انتخاب جوزيف عون رئيسًا وتسمية نواف سلام لرئاسة الحكومة زخم شعبي، لكنه زخم ملتبس بين فرح الأمل وكراهية الماضي. التهليل لهذا التغيير لم يكن احتفاءً بشخصيات جديدة، بمقدار ما كان تعبيرًا عن السخط على فساد الحكومات السابقة والمحاصصة الطائفية التي مزّقت البلاد. وما يذكر في هذا الصدد لا ينتهي.
أي برنامج للحكومة الجديدة؟
الحكومة المقبلة تواجه مهمة قريبة من الاستحالة. الملفات التي تنتظرها ليست تحديات تقنية وحسب، بل أزمات بنيوية تتطلب قرارات شجاعة ومقاربات جذرية:
- الثقة المفقودة: تواجه الطبقة السياسية أزمة ثقة عميقة تتطلب إجراءات ملموسة لاستعادة ثقة الشعب والمجتمع الدولي.
- الفساد والمحسوبيات: مكافحة الفساد الذي أنهك مؤسسات الدولة ضرورة لتحقيق استقرار حقيقي.
- التحديات الإقليمية: لبنان بحاجة إلى سياسة متوازنة تنأى به عن محاور الصراع، مع التمسك بمبدأ الحياد الإيجابي.
- ملف الودائع وأموال الشعب المنهوبة: على الحكومة أن تُظهر جدية في محاسبة المتورطين في إفقار الشعب اللبناني. قضية رياض سلامة ليست سوى البداية، ويجب أن تمتد المحاسبة لتطال كل من ساهم في سرقة أموال الناس.
- إعادة بناء الثقة: الثقة بين الدولة والمواطن هي الشرط الأساسي لأي نجاح. هذه الثقة لا تُبنى بالكلام، بل بإجراءات واضحة تعيد للمواطن شعوره بالأمان الاجتماعي والاقتصادي.
- ملف انفجار مرفأ بيروت: لا يمكن للحكومة أن تتجاهل كارثة بحجم انفجار مرفأ بيروت. محاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة، مهما كانت مناصبهم، هو اختبار حقيقي لجدية الإصلاح.
- السيادة الاقتصادية: لبنان بحاجة إلى كسر التبعية الاقتصادية للخارج، سواء كان ذلك عبر صندوق النقد الدولي أو القوى الإقليمية. تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي هو مفتاح الاستقلال الوطني.
- معالجة الفقر والتشرد: مع وجود عشرات آلاف الأسر بلا مأوى ومئات الآلاف دون غذاء، على الحكومة وضع سياسات عاجلة للتخفيف من معاناة الفئات الأكثر هشاشة.
التحديات الخارجية والمصالح الأجنبية
لا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه القوى الدولية في صياغة الواقع اللبناني. من اللجنة الخماسية ومراقبة الحدود ودواعي موانع استخراج النفط، إلى استغلال الأزمة الاقتصادية لإدخال لبنان في دوامة الجدال المصرفي الحكومي مع شروط صندوق النقد، تبدو المصالح الأجنبية عاملًا فاعلًا في كل الترتيبات. لا شك أن القيادة الجديدة مدركة لما يجري وربما وضعت العربة وراء الحصان.
الرئيس جوزيف عون والرئيس المكلف نواف سلام ليسا أمام مهمة عادية، بل أمام اختبار تاريخي. فالشعب اللبناني المنهك لن يقبل بالمزيد من الوعود. يطلب منهما أن يكونا صريحين مع الناس، وأن يُظهرا شجاعة في مواجهة القوى الداخلية والخارجية التي تعيق إعادة بناء الدولة، وأن يباشرا بتحقيق برنامجهما وفي الأعمال الطارئة دون إعاقة البدء بالتشذيب المفيد. مثال:
- العدالة لا تحتمل التأجيل: ملفات الودائع والمرفأ ليست مجرد قضايا عادية، بل هي مفتاح إعادة بناء الدولة.
- الأولوية للناس: الحكومة الجديدة يجب أن تضع حاجات الناس قبل أي حسابات سياسية أو طائفية.
- السيادة فوق كل اعتبار: تحرير القرار اللبناني من أي وصاية، داخلية أو خارجية، هو الخطوة الأولى نحو بناء وطن حقيقي.
على لبنان الاستفادة مما هو متاح له اليوم للبدء من جديد. ولكن النجاح يتطلب إرادة سياسية حقيقية ورؤية واضحة. وشعبه لن يرتضي مزيدًا من الفشل، ولن يقبل إلا بقيادة تعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة وبناء وطنية لبنانية متجددة، ويتقبل حبل نجاة الدعم العربي والدولي اللذين يشكلان أساسًا لتحقيق الاستقرار والإصلاح. ولكن النجاح يتطلب التزامًا حقيقيًا بتطبيق الطائف، ومواصلة العمل على بناء دولة قوية تحتكم للقانون وتواكب تطورات العصر. هذا الطريق، رغم صعوبته، يمكن أن يعيد لبنان إلى خارطة الاستقرار والازدهار.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com