الأربعاء, أبريل 23, 2025
18 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ انتخبوا “رجل الإنماء”: من يحكم لبنان

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

في الأيام القريبة المقبلة ستتشوه جدران المدينة بصور رجال خاصة تعرفونهم أم لا، كلهم أسماؤهم “رجل الإنماء” الذي يتطوع لخدمة مدينته التي يحبها حباً جمّاَ، في العاصمة بيروت وسائر المدن الكبرى الأخرى. لو تبقى العملية في إطار حب الظهور يبقى تشويه الحائط مسألة ثانوية، ولكن العملية يراها القريب والنسيب بطيب النوايا، لكن طيب النوايا لا يفعل إلّا نصب أفخاخ ليصير “رجل الإنماء” الأول قريباً قريباً من الصندوق.

من يحكم لبنان؟ سؤال يبدو بسيطاً، لكنه يختصر كل المأساة. لأن الجواب الحقيقي ليس “الدولة”، ولا “الدستور”، ولا حتى “المجلس النيابي”. الحقيقة المُرّة أن لبنان يُدار من خارج المؤسسات، من داخل تحالف جهنّمي ثلاثي: زعماء الطوائف، أصحاب المصارف، وتجار البلد المحتكرين. وما نشهده اليوم ليس سقوطاً، بل إعادة رسكلة للمنظومة نفسها، بعدما سحقت ما تبقّى من مجتمع، وقمعت كل صوت مختلف، وسرقت أموال الناس دون أن ترمش لها عين.

في الظاهر، نحن في جمهورية ديمقراطية تمثيلية. ننتخب نواباً، نشكّل حكومات، نتابع جلسات نيابية على الهواء، ونعيش وهم الدولة والمؤسسات. لكن الحقيقة، في العمق، أن الحكم في لبنان مصادَر بالكامل من قِبل منظومة ثلاثية الرأس: تحالف الزعامات الطائفية، أوليغارشية المال والمصارف، وكارتيلات الاحتكار والتجارة الكبرى. هؤلاء هم من يدير البلاد، من يقرّر مصيرها، من ينهبها، ومن يتقاسم غنائمها بلا حياء.

هذه المنظومة لم ترتبك لحظة أمام الانهيار الاقتصادي. على العكس، وجدت فيه فرصتها الذهبية لترتيب أوراقها من جديد. لم تتردد في سلب الناس أموالهم، وتجويعهم، وتحويل القطاع العام إلى هيكل فارغ هشّ. لم تخجل من إعلان الإفلاس، بل ذهبت نحو سحق ما تبقّى من كرامة اجتماعية، تحت عنوان “الإصلاح”، فيما هو مجرّد تقاسم جديد لمواقع النفوذ.

أُبيدت الطبقة الوسطى بالكامل من خلال أكبر جريمة مالية في تاريخ المنطقة: سطو موصوف على ودائع الناس. ملايين العائلات فقدت مدّخراتها، رأسمالها، أملها. لا أحد يعلم من هم هؤلاء المودعون، لا تظهر صورهم على الشاشات، ولا تُرفع صور أبنائهم في التظاهرات. لكنهم قلب هذا المجتمع النابض، من علّم أبناءه، شغّل مؤسساته، دعَم اقتصاده، وكان عصب البلد. واليوم يُعاملون كمتسوّلين في طوابير الذلّ، يستعيدون 150 دولاراً شهرياً لا يكفي أسبوعاً لطعامهم.

ولو كانت هذه الأموال في متناولهم، لكان بإمكانهم الاستثمار بها، أو فتح مشروع صغير، أو دعم أولادهم في الخارج، أو ببساطة استعادة إحساسهم بالسيطرة على حياتهم. لكن ما يحصل هو عكس ذلك تماماً: مصادرة، إذلال، واستنزاف. وبدل أن يدفع المصرف فائدة على الوديعة، صار يتقاضى من المودع عشرة دولارات شهرياً “رسم خدمة”! يا لها من وقاحة أن يتحول البنك من أداة لحفظ الثروة إلى أداة لمصادرتها، برعاية السلطة، وصمت القضاء، وتواطؤ الخارج.

ومع ذلك، لا أحد من الناهبين يُحاسب. لا مصرفي واحد أُوقف. لا سياسي خضع لمحاكمة. لا رجل أعمال أعاد ما نهب. بل على العكس، تُشنّ الحملات على من يجرؤون على الكلام. من يرفع الصوت يُتَّهم بالعمالة، ومن يُنظّم يُتَّهم بأنه امتداد لسفارة، ومن يفضح يُطعن في شرفه وتمويله. هكذا رأينا ماكينة إعلامية كاملة تُجنَّد، من “ميغافون” و”درج” إلى صفحات الناشطين، يتم استهدافها المرة تلو الأخرى، فقط لأنها قررت ألّا تصمت.

والأسوأ، أن التهم المعلّبة نفسها تُردَّد على ألسنة بعض المأجورين أو من “يُنفخ رأسهم” بما يُسمّى “الـ NGOs المجرمة”. كلمات تُردد كالببغاوات، من دون فهم، ومن دون وعي، وكأن المجتمع المدني هو من سرق ودائعهم، أو من أوقف المصانع، أو من أطلق سراح المصرفيين. والمصيبة الأكبر أن بعض العقول، من ربات الحجال وغيرهن، يصدّقن هذا الخطاب، ويُدافعن عن من دمّرن حياتهن وأحلام أولادهن.

أما الإعلام، فما عاد ناقلاً للخبر أو وسيطاً للنقاش. بل صار في كثير من الأحيان مجرّد فرع من فروع المصرف أو المكتب السياسي. من مسرحية “صار وقتها” إلى المقابلات الفخمة مع المليارديرات، يتم تلميع المنظومة، وإعادة تسويقها كـ”بديل إصلاحي”، فيما تُسحب الأصوات المعارضة من الأثير، وتُمنَع من الوصول إلى الناس.

في هذا الجوّ المسموم، تأتي الانتخابات البلدية. لا كفرصة ديمقراطية حقيقية، بل كمسرحية مدروسة لتجديد الزعامات، تحت عنوان “التوافق”. لوائح تُطبَخ في الغرف المغلقة، إعلام يُجنَّد لتشويه المعترضين، وأجهزة دولة تتعامل مع الانتخابات كملف أمني لا استحقاق شعبي.

ومع ذلك، لا يجب أن نستسلم. المعركة اليوم ليست فقط على عدد مقاعد بلدية، بل على كسر منطق الهيمنة. على إثبات أن هناك بديلاً. على بناء نموذج إدارة محلية جديد، يكون فيه الناس هم أصحاب القرار، لا الزعيم، لا المصرفي، ولا موظف البلدية الفاسد.

نريد بلديات تُدار بشفافية، تُنفق لمصلحة الناس، وتُفعّل الرقابة، وتتحول إلى مراكز حماية مجتمعية في زمن غابت فيه الدولة. نريد أن نُعيد ربط الشباب، والمتقاعدين، والأساتذة، والطلاب بالشأن العام، عبر آليات مشاركة فعلية، لا واجهات فارغة.

نريد أن نوقف المجازر العقارية، والمشاريع العشوائية، والتهجير الناعم، وأن نُعيد الاعتبار للحدائق، للبيئة، للمجال العام.

نريد أن نُحصّن استقلال البلديات، عبر صندوق مركزي شفاف، وآليات تمويل عادلة، ومشاريع إنتاج محلي حقيقي، لا صفقات بالتراضي.

الانتخابات البلدية ليست نهاية، بل بداية. بداية لاستعادة لبنان، قطعة قطعة، من البلديات إلى النقابات، من الإعلام إلى البرلمان. كل حجر نضعه في مكانه هو خطوة نحو إسقاط هذا النظام الفاشل. نظام انتهى وقته، وحان وقت الناس.

لن نساير. لن نصمت. لن نلعب لعبة “التوافق” على أنقاض وطن.
من سرقونا، يشوّهوننا. من أفلسونا، يطالبوننا بالصمت. من هجّروا أولادنا، يريدون أن نبارك لوائحهم “الإنمائية”!

لكننا هنا لنقول: انتهى زمن الطاعة. انتهى زمن الخوف.
هذه الانتخابات، هذه المعركة، ليست لحجز مقاعد… بل لاستعادة بلد!
وإن كنتم تظنّون أن الناس نسيت، أو تعبت، أو تراجعت، فاستعدّوا للمفاجأة.
لأن زمنكم انتهى… وزمن الناس بدأ.

https://hura7.com/?p=48826

الأكثر قراءة