الأحد, مارس 23, 2025
11.7 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ بعد دعوة أوجلان إلى السلام والمجتمع الديمقراطي: أي تداعيات في تركيا والمحيط؟

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

في خطوة قد تعيد خلط الأوراق وتفتح الباب أمام سيناريوهات جديدة، سواء للصراع أو التفاوض، جاءت دعوة عبد الله أوجلان إلى حل حزب العمال الكردستاني والتخلي عن العمل المسلّح، لتشكل تحولًا غير مسبوق في مسار القضية الكردية. هذه الدعوة تأتي في لحظة إقليمية حساسة، حيث تتسارع التطورات في الشرق الأوسط، من الحرب في غزة، إلى تراجع النفوذ الإيراني، واستمرار التحولات في سوريا، وصولًا إلى التمدد الإسرائيلي في جنوب لبنان وجنوب سوريا.

في ظل هذا المشهد المتغير، يبرز السؤال عن التداعيات المحتملة لهذا الإعلان على مستقبل توازنات المنطقة وعلى القضية الكردية، ومدى تأثيره على مواقف تركيا وسوريا ودول الإقليم التي لطالما تعاملت مع الأكراد باعتبارهم ملفًا أمنيًا أكثر منه كيانًا سياسيًا له حقوقه القومية المشروعة. لطالما تعاملت تركيا مع القضية الكردية من منظور أمني وعسكري، حيث خاضت حروبًا طويلة ضد حزب العمال الكردستاني، معتبرة إياه تهديدًا رئيسيًا لوحدة أراضيها. ومنذ انهيار عملية السلام في عام 2015، تصاعدت الحملات العسكرية ضد الأكراد داخل تركيا وخارجها، مع تعزيز التحالف بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية المتشدد بقيادة دولت بهتشلي.

لكن إعلان أوجلان يضع أردوغان أمام تحدّ. فإذا تجاهل الدعوة واستمر في نهجه العسكري، فإنه يخاطر بفقدان جزء من التأييد الكردي في الانتخابات المقبلة، خاصة أن الأكراد يمثلون كتلة انتخابية لا يُستهان بها. وإذا تجاوب مع الدعوة، فإنه قد يواجه انتقادات لاذعة من حلفائه القوميين، الذين يرون في أي تقارب مع الأكراد تهديدًا لهوية الدولة التركية. وهذا ما يجعل حزب الحركة القومية في موقف معقد؛ فهو من جهة يعارض الاعتراف بالحقوق السياسية للأكراد، لكنه من جهة أخرى كان قد طرح في وقت سابق فكرة السماح لأوجلان بالحديث أمام البرلمان لحل النزاع.

لكن المشكلة لا تتعلق فقط بتفاعل السلطة التركية، بل أيضًا بالمجتمع الكردي نفسه. هل سينظر الأكراد داخل تركيا إلى هذا الإعلان كخطوة في الاتجاه الصحيح؟ أم أنه سيُفسَّر على أنه مناورة سياسية لن تحقق شيئًا في ظل غياب الضمانات الفعلية لحقوقهم؟ ويمكن القول إن أي استجابة تركية إيجابية هي في أن تُترجم إلى إصلاحات حقيقية على مستوى الحقوق السياسية والثقافية للأكراد، وليس مجرد وقفٍ للنشاط المسلح أو في تحقيق المجتمع الديمقراطي فحسب.

أما بالنسبة لأكراد سوريا، فإن حل حزب العمال الكردستاني قد يحمل تداعيات غير متوقعة، خاصة أن أنقرة استخدمت لسنوات طويلة حجة “الإرهاب الكردي” لتبرير عملياتها العسكرية في شمال سوريا. فإذا لم يعد هناك وجود عسكري للـPKK، فلا مبرر ذات مصداقية لتدخل تركيا في المنطقة.

لكن الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك. فرغم أن قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، التي تسيطر على شمال شرق سوريا، تدّعي أنها كيان مستقل عن الـPKK، إلا أن تركيا لا تزال تعتبرها امتدادًا للحزب. ومن هذا المنطلق، فإن إنهاء الـPKK لن يؤدي بالضرورة إلى إنهاء التوتر في شمال سوريا، لكنه قد يخلق سياقًا جديدًا يجبر الأطراف على إعادة ترتيب حساباتها.

إذا تجاوبت تركيا مع المبادرة، فقد نشهد تحولًا في سياستها تجاه أكراد سوريا، وربما بداية حوار غير مباشر بين الإدارة الذاتية الكردية في سوريا وأنقرة، وهو ما قد يفتح الباب أمام إعادة رسم التوازنات السياسية في المنطقة. أما إذا استمرت تركيا في سياستها الرافضة لأي كيان كردي مهما كان نوعه، حتى بعد إنهاء الـPKK، فإن ذلك قد يؤدي إلى مزيد من التعقيد في الملف السوري، وربما يدفع الأكراد إلى التقارب مع أطراف لم تكن صديقة في مرحلة مضت أو البحث عن دعم دولي أكبر. و في هذا السياق لا بد من انتظار رد الفعل الأميركي الحاسم حول مصير قوات سوريا الديمقراطية.

العراق وإيران: تأثيرات القرار على المعادلات السياسية

أما في العراق، فإن إقليم كردستان لطالما كان على خلاف مع حزب العمال الكردستاني، حيث اعتبرت حكومة أربيل أن وجود الحزب يشكل عبئًا عليها ويعطي مبررًا للحكومة العراقية وتركيا للتدخل في شؤون الإقليم. وبالتالي، فإن حل الـPKK قد يكون فرصة لأربيل لتعزيز استقلاليتها السياسية والعسكرية، وربما تحسين علاقتها مع أنقرة وبغداد، خاصة فيما يتعلق بمسائل مثل تقاسم عائدات النفط وترسيم الحدود.

لكن التأثير في إيران قد يكون أكثر عمقًا. فطهران تعاملت دائمًا مع الأكراد باعتبارهم تهديدًا أمنيًا، وواجهت احتجاجاتهم بالقمع. وإذا ما أدى حل الـPKK إلى دفع الجماعات الكردية الإيرانية إلى تبنّي فكرة المجتمع الديمقراطي، فقد يجد النظام الإيراني نفسه أمام اختبار جديد. هل سيواصل نهج القمع العسكري، أم أنه سيضطر إلى تقديم بعض التنازلات السياسية تجنبًا لانفجار الأوضاع؟

أما في لبنان، حيث لا اعتراف بالأكراد كجماعة من مكونات الموزاييك الديمغرافي اللبناني رغم وزنهم السياسي الانتخابي خاصة في العاصمة ويتم اعتبارهم من الطائفة السنية، قد يبدو بعض التأثير على شكل اجتماعهم السياسي، لكن التداعيات السياسية الأكبر قد تأتي من التغيرات التي قد تطرأ على المشهد الإقليمي. فإذا ما بدأت تركيا في الاعتراف بحقوق الأكراد داخلها، فإن ذلك قد ينعكس على طريقة تعاطي الأنظمة العربية مع قضايا “الأقليات” عمومًا، مما قد يدفع إلى نقاش أوسع حول الهوية الوطنية وحقوق الأقليات في المنطقة. حيث هذه الأقليات ليست أقليات إلا بسبب تفتيتها.

أزمة داخلية في تركيا أم بداية تحول إقليمي؟

قد يكون الإعلان الذي أطلقه أوجلان بمثابة اختبار لنوايا جميع الأطراف، لكنه أيضًا قد يكون مقدمة لصراع جديد داخل تركيا نفسها. فإذا قررت الحكومة التركية التفاعل مع الدعوة بشكل إيجابي، فقد يؤدي ذلك إلى تفكيك التحالف القومي بين أردوغان وبهتشلي، الذي قام في الأساس على خطاب قومي متشدد. وإذا تجاهلتها، فقد تخسر أنقرة فرصة تاريخية لتجاوز صراع دام لعقود وأثقل كاهل الاقتصاد التركي، واستنزف قدرات الدولة سياسيًا وعسكريًا.

أما على المستوى الإقليمي، فإن استجابة تركيا لهذه المبادرة قد تكون مفتاحًا لتغيير النظرة إلى الأكراد في المنطقة. فإذا قبلت أنقرة بدمج الأكراد سياسيًا، فإن ذلك سيضع أنظمة مثل إيران وسوريا والعراق أمام تحدٍّ حقيقي: هل تستمر في سياسات الإقصاء والقمع، أم تعيد النظر في مواقفها، خاصة مع إدراكها أن مستقبل استقرارها قد يكون مرهونًا بتغيير سياساتها تجاه الأكراد؟

لا يمكن إنكار أن دعوة أوجلان تشكل حدثًا محوريًا في تاريخ القضية الكردية، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام احتمالات متضاربة. فإذا تم التعامل معها بجدية، فقد تكون بداية تحول سياسي يمنح الأكراد مساحة أكبر للعمل السياسي، ويقلل من احتمالات الصراع. أما إذا تم تجاهلها أو استغلالها تكتيكيًا دون حلول جذرية، فإن ذلك قد يؤدي إلى جولة جديدة من التوترات، وربما صراعات أكثر تعقيدًا.

في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل ستُترجم هذه الخطوة إلى تغيير حقيقي في معادلة الشرق الأوسط، أم أنها ستظل مجرد مبادرة أخرى تُضاف إلى سجل المحاولات الفاشلة لحل واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في المنطقة؟

https://hura7.com/?p=45638

الأكثر قراءة