الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
في الساعات الأولى من صباح أمس، عاد الجنوب اللبناني ليعيش مشهدًا مألوفًا ومفزعًا. صواريخ أُطلقت نحو مستعمرة المطلة داخل الأراضي المحتلة، والجيش الإسرائيلي سارع إلى الرد، لا على مطلقي النار فقط، بل على كلّ ما يظنه هدفًا متوعدًا: “المطلة مقابل بيروت”. قالها وزير الدفاع الإسرائيلي بوضوح غير مسبوق، واضعًا العاصمة في قلب معادلة الردع.
ولم يتأخر الرد المدفعي والجوي الإسرائيلي، فطال البلدات المدمّرة في الجنوب وحتى إقليم التفاح. وفيما كان الطيران يحلّق، كانت صفارات الإنذار تدوي، ليس في إسرائيل فحسب، بل في قلوب اللبنانيين الذين يدفعون، مجددًا، ثمنًا لا يعرفون سببه ولا من قرره.
صواريخ بلا توقيع… لكن الرسالة وصلت
اللافت في هذا التصعيد، أن لا جهة أعلنت مسؤوليتها عن إطلاق الصواريخ. لكن الصمت أبلغ من البيان، والسياق أوضح من التبنّي. فالصواريخ أتت بعد ساعات فقط من تصريحات لرئيس الحكومة نواف سلام، أعلن فيها أن “شعار الجيش والشعب والمقاومة صار من الماضي”، مشددًا على أن قرار الحرب والسلم لا يمكن أن يُدار إلا من الدولة.
الرد لم يأتِ في مؤتمر صحافي، بل في إطلاق نار صواريخ تحاكي الموقف السياسي، لا الميداني. صواريخ تحاسب رئيس حكومة على موقف بات بديهيًا: لا سلاح خارج الدولة، لا قرار خارج المؤسسات.
تصريحات سلام أثارت حفيظة المحور. الرد أتى سريعًا من المفتي قبلان، بوضوح قال: “شطب المقاومة يعني شطب لبنان”، وأن إدارة الدولة بهذه الطريقة “تضعنا في قلب كارثة داخلية”.
بعض الظن إثم. فهل تُرجم الردّ ميدانيًا بإطلاق صواريخ من مناطق نفوذ الحزب، في سلوك بات متكررًا: من يحاول إعادة السلاح إلى مكانه الطبيعي، أي كأداة للدولة، يُقابَل بالتهديد.
المفارقة الكبرى أن إسرائيل، و هي تواصل خرق القرار 1701 بغاراتها واحتلالها لنقاط لبنانية استراتيجية، وتجد في الانقسام اللبناني فرصة لتبرير كل تصعيد. فالجيش الإسرائيلي لا يهاجم فقط المنصات، بل يرسل رسالة واضحة إلى بيروت، بأن “السلطة المركزية مسؤولة”، وأن الرد لن يبقى في الأطراف. و حزب الله دفع بالمسؤولية الى الجهة نفسها دون أن تطاع من أي طرف حمّلها هذه المسؤوليات. حتى وسطاء اللجنة الخماسية، لا يتوانون عن الضغط كلما سنحت فرصة.
وزارة الدفاع الإسرائيلية، الناطق باسم الجيش، وحتى وسائل الإعلام العبرية، كررت تحميل “دولة لبنان” مسؤولية ما يحصل، مهددة بتوسيع دائرة الرد، فيما أعلنت الأمم المتحدة أن الوضع “هشّ للغاية”، مشيرة إلى بقاء أكثر من 92 ألف نازح لبناني دون أفق واضح للعودة.
رئيس الجمهورية العماد عون دعا إلى “عدم استدراج لبنان إلى دوامة العنف”، محذرًا من أن ما يحصل “ضرب لمشروع الإنقاذ”. وطلب من الجيش “اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين”، داعيًا “لجنة مراقبة اتفاق تشرين الثاني” إلى التحرك.
قائد الجيش توعّد بأن “الجيش سيبقى على قدر التحديات”، و”يعمل على بسط سلطة الدولة ومواصلة تطبيق القرار 1701″، مؤكدًا الجهوزية القصوى.
الواضح أن العهد والحكومة مستَهدفان لأنهما أعادا النقاش إلى النص الدستوري.
في خضم هذا التصعيد، سُجّل إطلاق صواريخ وعمليات قصف في شمال البقاع، وفي مناطق خارج السيطرة المباشرة للجيش، أعادت إلى الأذهان كابوس الجبهات المفتوحة دون غطاء شرعي.
الشارع اللبناني، الذي يعيش نيران الغارات والخوف من حرب شاملة، لا يجد نفسه ممثلاً في هذه اللعبة المزدوجة. الناس تريد العودة إلى قراها بأمان، لا أن تُستعمل كدروع لردود عسكرية أو رسائل إقليمية.
كائنًا من كان من قصف من الجنوب واستدعى الرد الإسرائيلي كلاهما يوجهان رسالة إلى رئيس الحكومة الذي تحدث عن السلاح الشرعي. وما معنى أن يُتهم من يدعو لحصر السلاح بيد الجيش بأنه “يشطب لبنان”؟ فمن يشطب من؟ الدولة أم من يرفض الاعتراف بوجودها؟
أن يستمر حزب الله في نكران تبعيته ، وأن يدّعي أنه خارج حسابات الحرب الكبرى، فذلك خداع لم يعد يقنع أحدًا. وأن يصرّ على أن السلاح خط أحمر، وعلى أن لا أحد يملك قرار السلم والحرب غيره، فهذا يعني شيئًا واحدًا: الدولة لا تتمتع بنظر الحزب بشرعية مكتملة.
والأسوأ أن الإنكار السياسي يُقابل بإنكار شعبي. فبينما تتحدث الحكومة عن “عودة تدريجية للسيادة”، يمارس الحزب سياسة إنكار هناك، استثمار في الرماد، والناس تُهجَّر وتُذلّ باسم “المواجهة”.
صواريخ لبنان لم تُطلق وحدها. تزامن إطلاق نار من غزة، ومن اليمن، في ما بدا رسالة إيرانية واضحة: “أذرعها ما زالت تعمل وقادرة على الرد على إسرائيل و الحكومة اللبنانية”.
وما علاقة بيروت بمشروع حرب إقليمية لا طاقة لها بها؟ من فوّض حزب الله أن يقاتل نيابة عن محور؟ ومن سمح له أن يجرّ وطنًا كاملًا إلى هذا الخراب؟
في دوائر القرار الدولية، بخيار نزع سلاح الميليشيات بالقوة، عبر مجلس الأمن، وربما تحت الفصل السابع. هذا السيناريو قد يفتح الباب على فرض اتفاقات على لبنان، أو اقتطاع أراضٍ جنوبية، أو حتى فرض مسار تطبيع قسري. وربما تصريح ترامب بأن إسرائيل صغيرة ويجب توسيعها هو إشارة كافية لحفظ الرأس عند تغيير الدول.
قليل من المسؤولية تدعو الحرصاء على اتخاذ موقف: إما الدولة، أو خريطة جديدة لا مكان فيها لجنوب ولا لعاصمة ذات سيادة.
لبنان لا يحتاج اليوم إلى شعارات. يحتاج إلى اعتراف واضح بالواقع الجديد: لا يمكن أن تستمر المقاومة خارج مؤسسات الدولة. لا يمكن أن يُقصف الجنوب ردًا على تصريحات سياسية. لا يمكن أن نواصل التقية، والإنكار، ونستنزف البلد من أجل إثبات ما لا يمكن إثباته. وبديهيات الموقف اليوم لإنقاذ البلاد هي التالية:
لا لتجاوز الجيش المنتشر في الجنوب.
لا لفتح جبهات في شمال البقاع.
لا للقصف من شمال الليطاني.
لا لمعادلة تهدد بيروت.
لا للاستسلام أمام منطق السلاح.
نعم لعودة الناس إلى قراهم.
نعم لمفاوضات متكافئة، لا تقوم على السلاح بل على السيادة.
نعم للجيش، وللدستور، وللحقيقة التي لم يعد بالإمكان طمسها.
نعم للدولة… لأن كل ما عداها حرب.