الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
“الاستبداد أصل كل فساد، ومتى فُكّ قيده انبعثت الأمة من رقادها” — عبد الرحمن الكواكبي.
“في زمن الخداع، يصبح قول الحقيقة عملاً ثوريًا”— جورج أورويل.
“الظلم مؤذن بخراب العمران” — ابن خلدون.
منذ لحظة الانهيار، بدا جليًا أن ما يحكم لبنان ليس مجرد طبقة سياسية فاسدة، بل منظومة متكاملة، رأسها مالي، وذراعها سياسي، وضلوعها تمتد إلى الإعلام والقضاء والإدارة. كنا نظن أن حزب المصارف هو مجرّد توصيف رمزي، إلى أن ثبت أنه بات حقيقة ملموسة: قوة نافذة، منظمة، تمتلك خطابًا، أبواقًا، أدوات ضغط، قضاة، مؤسسات إعلامية، وجماعات ضغط في الخارج. ولعلّ هندسات رياض سلامة كانت خير دليل على مصارف تملأ فراغ التمويل بفوائد خرافية، مدفوعة من جيوب اللبنانيين وبتواطؤ عابر للطوائف. والأخطر: أنها قادرة على إسقاط أي مشروع إصلاحي يُهدّد نفوذها.
واليوم، بينما تحاول البلاد التقاط أنفاسها، ووسط انكشاف المأساة الأخلاقية والسياسية التي جلبتها المنظومة، برز في المشهد إسم الرئيس نواف سلام، القاضي الأممي الذي حمل على كتفيه إرثًا قانونيًا وطنيًا صلبًا، وجوزاف عون، القائد العسكري الذي حافظ على المؤسسة في ذروة التفكك. رأى الناس فيهما شيئًا من فؤاد شهاب وريمون إدّه. رأوا فيهما احتمالًا، رجاءً، بل خيطًا نادرًا من الثقة وسط الركام.
لكن ما نخشاه، أن يتحوّل هذا الرجاء إلى عبء عليهما. ذلك أن كل ما يُواجهانه اليوم لا يقلّ عن إرهاب منظّم: ضغط خارجي يطالب بتسويات في ظل غياب الدولة، ومجتمع دولي لا يقدّم الدعم إلا بثمن سياسي، ومجتمع داخلي مشتت لا يملك لا التنظيم ولا التعبئة. والأخطر: غياب الحاضنة الشعبية الفعلية. فلا الأحزاب الحاكمة ستدعمهما، ولا الطوائف قادرة على توليد قيادة بديلة، ولا المجتمع المدني موحّد.
كيف يمكنهما، إذن، ممارسة الحكم بسيادة كاملة دون حاضنة داخلية متينة؟
دون كتلة اجتماعية واضحة، تيار وطني جامع، رؤية إصلاحية قادرة على تعبئة الناس وخلق شرعية موازية للشرعيات الطائفية، لن يكون بمقدور أي إصلاحي أن يصمد. إذ ما معنى امتلاك موقع القرار، إذا كان القرار محكومًا بالترهيب المالي والإعلامي والديني والطائفي؟ كيف يمكن رفض تسوية خارجية، إذا كان الداخل فارغًا من أي دعم حقيقي يردع الضغوط؟ من دون قاعدة إصلاحية صلبة، لا إصلاح ممكن.
ففي غياب هذا التيار، تضطر السلطة – حتى ولو كانت نزيهة – إلى تقديم تنازلات غير محسوبة، حفاظًا على توازن هش، أو درءًا لخطر أكبر. وهنا يبدأ الانزلاق. فالتنازل الأول يجلب الثاني، والثاني يفتح الباب للثالث، حتى تتحوّل النية الإصلاحية إلى أداء رمزي، لا يختلف كثيرًا عن من سبق.
ومن البديهي الاعتراف أن المطلوب ليس فقط حُسن النية، بل الشجاعة على تحويل هذه النية إلى مشروع سياسي متكامل. مشروع يتجاوز الشخص إلى التيار، يتجاوز الموقع إلى المعنى، ويُعيد تكوين السلطة انطلاقًا من سؤال بسيط: من يحكم هذا البلد؟ أصحاب المصارف أم رجال الدولة؟ القوى الطائفية أم صوت المصلحة الوطنية؟ أجهزة الخارج أم ضمير الداخل؟
فمن دون تيار إصلاحي، سيكون كل قرار مهدّدًا، وكل مشروع محاصرًا، وكل حاكم رهينةً لموازين القوى. أما مع تيار، فحتى الضعف يتحوّل إلى قوة، وحسابات الخارج تُقابَل برأي عام حيّ، وسلاح الابتزاز السياسي يُكسر أمام وحدة اجتماعية تطالب بدولة لا بعقد ضمان طائفي.
والتيار المقصود هنا ليس حزبًا جديدًا، بل موجة جديدة، تحمل مشروع سيادة وعدالة واقتصاد منتج. تيار يُنظّم وجع المودعين، وغضب الشباب، ويأس العسكر، واحتجاج القضاة، ومطالب النقابيين. تيار لا ينتظر إذنًا من الطوائف، ولا يطلب غطاءً من الخارج، بل يستند إلى حقيقة بسيطة: أن الكرامة لا تُشترى، وأن لبنان يستحق أكثر من وكلاء.
فهل يُبادر نواف سلام وجوزاف عون، كلّ من موقعه، إلى حمل هذه الراية؟
هل يُعلنان أن زمن المراوحة انتهى، وأن زمن المبادرة بدأ؟ هل يقودان، أو يُتيحان الولادة السياسية لهذا التيار العابر للطوائف؟ هل يواجهان حزب المصارف، وتفلّت السلاح، وحيتان المال، بظهير شعبي واسع، لا يُقايض السيادة بالدعم، ولا العدالة بالتوازن، ولا المستقبل بالتسويات؟
اللحظة الآن، لا غدًا. والاختبار ليس في التنظير بل في الترجمة. مشروع رفع السرية المصرفية اختبار؛ العدالة في ملف المرفأ اختبار؛ مواجهة الفساد اختبار. فإما أن تُرفع الراية، ويُستعاد المعنى، وإما ينتهي الأمل، ونعود إلى تكرار مأساة من بكوا على ملك لم يحافظوا عليه كالرجال.
إن الناس لا تبحث عن بطلَين، بل عن آخر أمل قبل الغرق التام. و ما كانت لتعبر لثقة بالدولة، بل لأن وجود قياديَين في سدّتها من خارج الطبقة القبيحة فتح ثغرة في جدار العتمة. لكنها ثغرة بدأت تضيق.
لقد تولت القيادة شخصيتان توحِيان بالخلاص، دون دعم فعلي من القوى النافذة. لا أحد من أهل السلطة أتى بهما عن قناعة. إنما نتيجة لحظة اضطرار، لحظة تعب داخلي وخوف خارجي، لا ثمرة تفاهم وطني. ومع ذلك، لقيا ترحيبًا شعبيًا هو الأوسع منذ عقود. الناس لم ترَ فيهما منقذين سحريين، بل احتمالًا صادقًا بأن الدولة يمكن أن تستعيد وجهها.
لكن، وبصراحة موجعة، هذه الاندفاعة بدأت تتآكل. البطء يزداد، والشكوك تتراكم، وقوى الردة تعمل ليل نهار لإفشال قبس الأمل. وأعين الناس باتت تتجه مجددًا إلى الماضي، لأن الحاضر لا يقدّم علامات كافية على التغيير.
المشكلة ليست في الرئيسَين كفردين، بل في أنهما لم يصدرا حتى الآن إعلانًا واضحًا وصريحًا بالانحياز. لا يكفي أن يكون القائد نظيف الكفّ. لا يكفي أن تكون النوايا حسنة. ما لم يعلن الرئيسان الانحياز الحاسم والصريح إلى الناس، لا إلى القوى الطائفية، ولا إلى مصالح فئوية، مصرفية او مناطقية بل إلى ناس القعر، إلى الناس التي تريد وطناً لا فندقًا، فسيبتًلعان كما ابتُلع كثيرون قبلهما.
كفى مداراة، كفى تصرّفًا كرؤساء توافقيين! من اختارالرئيسين فعليًا هو شارع جائع، لا حزب مفلس. وهو ينتظر فعلًا لا أقوالاً، ومواقف لا توازنات ولا تسويات.
نقولها دون مواربة: حزب المصارف يُعيد تنظيم صفوفه، العدو على الأبواب والوحدة الوطنية خيال والقضاء مُرتهن والإعلام مُباع. والمنظومة تستعد للعودة من بوابات عريضة، خاصة إذا اتضح أن الخلاف ليس من الشائعات.
ما المطلوب؟ ليس المستحيل. بل مشروع إنقاذ وطني واضح، يتجاوز البيان الوزاري التقليدي:
- تيار إصلاحي جامع، عابر للطوائف، يعيد تنظيم القوى الحيّة في الشارع، ويمنح القرار السياسي ظهيرًا شعبيًا حقيقيًا.
- إعلان قطيعة كاملة مع منطق المحاصصة، وتسمية الأمور بأسمائها: المصارف سرقت، السياسيون غطّوا، والقضاء صمت.
- البدء فورًا بتنفيذ أولويات حاسمة: فرض كشف كامل لحسابات الخارج، إطلاق ملاحقة الفاسدين دون استثناء، طرح خطة اقتصادية لا تمرّ عبر أبواب الريع بل عبر الإنتاج والعدالة.
- إعادة تعريف مفهوم السيادة: لا سلاح غير شرعي، لا قضاء مرتهن، لا مصرف مستقل بسلطة مطلقة، لا إعلام مأجور.
- إن من يحكم اليوم، إن لم يُبادر إلى تشكيل تيار وطني إصلاحي عابر للطوائف، نابع من الشارع، من الجامعات، من النقابات، من الشتات، سيُفقد آخر فرصة. تيار لا يطلب ولاءً، بل يُعيد تعريف الانتماء الوطني. تيار يقول بوضوح: لا لدولة الريع، لا للمال السياسي، لا للسلاح غير الشرعي، لا للمصارف فوق القانون، لا للتبعية للخارج، لا لتسوية بين من يريد وطناً ومن يريد فندقاً.
- هذه المعركة ليست معركة حزبية. إنها معركة وجود. الخيار اليوم ليس بين السيئ والأسوأ، بل بين الاستسلام والنجاة. بين أن نستعيد القرار الوطني، أو نتركه لمن يعتبر البلد غنيمة.
- لا نريد شعارات. نريد مسارًا. لا نريد زعامات. نريد دولة. لا نريد حكومة صفقات. نريد حراكًا وطنيًا صادقًا يقوده من بقي له ضمير. ومن يملك اليوم موقع المسؤولية، عليه أن ينحاز، أن يتحمّل، أن يفتح الباب.
- فإما أن يُفتح الباب نحو إصلاح حقيقي… أو يُغلق الباب على الوطن، ونُترك جميعًا في ظلام النهب والفوضى والخراب.
اللحظة الآن، لا غدًا. والاختبار ليس في التنظير بل في الترجمة.
“التمرد هو رفض الخنوع، هو ولادة الحرية” — ألبير كامو