السبت, فبراير 15, 2025
-1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ تشكيل الحكومة اللبنانية: بين كسر القواعد القديمة وإعادة إنتاج النظام

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

  • جوزيف بوليتزر: “الإعلام في يد الفاسدين سلاح ضد الوعي، وفي يد الشرفاء سلاح للحرية”
  • جون ماينارد كينز: “الدولة التي تعتمد على قروض الخارج، تكون سياستها مرهونة بيد دائنيها”
  • نيلسون مانديلا: “التغيير لا يأتي من أولئك الذين استفادوا من النظام القائم، بل من أولئك الذين يعانون منه”

ما إن تم انتخاب جوزيف عون رئيسًا بشكل لا يرضي الطبقة السياسية وتسمية نواف سلام تشكيل الحكومة حتى أخفى من أوصلهما تحت الضغط الخارجي والنزاعات والأزمات الداخلية هزيمته وإذعانه اللذين أضمرهما واستبدلهما بغبطة ظاهرة مفتعلة. فشنّت الطبقة السياسية بمختلف تضاريسها هجومًا للسيطرة على قرار الرئيس المكلّف، ولركوب موجة الإصلاح الآتية بدفع خارجي وترتضيها غالبية الناس بعد أن أصبح تحالف الفساد الداخلي والخارجي لا يطاق. لقد تهيأوا لإصلاح ما أفسدوه، أم تهيأوا لحماية رؤوسهم الطائفية والفاسدة فتناتشوا الحقائب رامين الكرة لشريكهم اللدود “حزب الله” للتمتع مع توأمه بحقيبة المالية ليكون للباقين حصصًا في ورشة سلام الإصلاحية، التي لمسوا فيها أن المقاعد ستكون محتلة من جيل لا يعرفونه.

يعيش لبنان اليوم مرحلة إعادة تشكيل سياسي واقتصادي، تتجاذبه ضغوط الخارج وحسابات الداخل، فيما تبدو معركة الإصلاح محصورة بين من يريدها وفق رؤية وطنية مستقلة، ومن يسعى لجعلها أداة لاستكمال إخضاع البلاد للنفوذ الدولي. فمع انتخاب جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، وتكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة، انتعشت الآمال بقدرة الدولة على استعادة دورها، ليس فقط كواجهة لقرارات مفروضة من الخارج، بل كفاعل حقيقي في وضع خطة إنقاذ تأخذ في الاعتبار الاحتياجات اللبنانية أولًا، لا مجرّد إملاءات من المؤسسات المالية الدولية.

لا تقتصر معركة تشكيل الحكومة اللبنانية على الصراع التقليدي حول الحصص الوزارية، بل تتجاوز ذلك إلى معركة حقيقية حول شكل الدولة المقبلة وحدود النفوذ الداخلي والخارجي فيها. فمع وصول الرئيس جوزيف عون إلى قصر بعبدا، وتكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة، لم يكن مستغربًا أن تبدأ القوى التقليدية بحشد أدواتها لمواجهة مشروع التغيير قبل أن يبدأ. فالنظام الطائفي القائم لم يكن مجرد صيغة حكم، بل هو شبكة مصالح متشابكة تمتلك نفوذًا ماليًا وإعلاميًا وقانونيًا قادرًا على عرقلة أي محاولة لكسر قواعد اللعبة.

المشكلة ليست في فكرة الإصلاح بحد ذاتها، بل فيمن يضع أسسه، ومن يملك حق تحديد أولوية الملفات الاقتصادية والمالية. فإذا كان صندوق النقد الدولي يقدّم حلولًا تقنية، فإن ذلك لا يعني أن وصفته الجاهزة للتطبيق كما هي، هي البلسم. ولا أن اللبنانيين غير قادرين على بلورة خطة ذات طابع محلي تتضمن بعض الأسس التي يطالب بها الصندوق، ولكن دون أن تتحول إلى عملية تسليم كامل للقرار الاقتصادي. والطرح الذي يحاول البعض فرضه، والقائم على أن الحل الوحيد هو في تطبيق وصفة الصندوق بحذافيرها، ليس سوى استكمال للسياسات التي قادت إلى الأزمة في الأساس، حيث يبقى الاقتصاد اللبناني رهينة التمويل المشروط، بدلًا من أن يكون قادرًا على إعادة إنتاج ذاته وفق رؤية تعتمد على القدرات المحلية.

ويأتي الإنفاق المالي في سياق هذه المواجهة ليكون أساسيًا. بل هو في صلب عملية منع الإصلاح. فمنذ اللحظة الأولى، تحركت المنظومة التقليدية لضرب صورة نواف سلام إعلاميًا، وبدأت الصحف والقنوات التابعة للقوى السياسية، أو تلك التي تخدم مصالح رجال الأعمال المتحالفين مع النظام القائم، بشن حملة تشكيك ممنهجة تهدف إلى نزع الشرعية عن الحكومة قبل أن تُولد. فالاتهامات التي وُجّهت إلى سلام تراوحت بين تصويره كمرشح غربي، إلى الترويج لفكرة أنه مجرد أداة لفرض أجندات لا تتناسب مع المصالح الوطنية، وكأن المطلوب من أي حكومة لبنانية أن تكون مجرد امتداد لتفاهمات القوى التقليدية لا كيانًا مستقلًا يسعى للإصلاح.

إلى جانب الإعلام، جرى تسخير المال السياسي لشراء الولاءات ومنع تشكل أي تكتل صلب داعم لحكومة قادرة على مواجهة منظومة الفساد. فقد تم ضخ أموال في الإعلام التقليدي والرقمي، وتم تحريك شبكات الضغط داخل المؤسسات العامة والخاصة، بهدف تعطيل أي حراك شعبي داعم للإصلاحات، ومنع تكوّن رأي عام قادر على مواجهة تحالفات المصالح. فبدل أن تكون الدولة هي من ينفق الأموال لإعادة الإعمار أو لإنقاذ الاقتصاد المنهار، ظهر مال آخر لحماية امتيازات القوى التقليدية وضمان استمرار سيطرتها على مفاصل الحكم.

أما على صعيد التوزيع الوزاري، فإن الجدل حول وزارة المالية لم يكن إلّا امتدادًا لهذه المعركة. فإصرار الثنائي الشيعي على الاحتفاظ بحقيبة المالية لا ينبع فقط من حسابات داخلية، بل أيضًا من الرغبة في البقاء ضمن دائرة القرار الاقتصادي، وهو ما يتعارض مع توجه المجتمع الدولي لإبعاد الثنائي عن هذا الملف تحديدًا. لكن المفارقة أن القوى الدولية دفعت باتجاه شخصيات محسوبة على منظومة صندوق النقد الدولي، مثل ياسين جابر، الذي لطالما كان جزءًا من الطبقة السياسية التي أيدت التفاهمات المالية الدولية، حتى عندما كانت هذه التفاهمات تُنفذ على حساب اللبنانيين.

رفض ياسين جابر ليس بسبب ارتباطاته بالصندوق فقط، بل لأنه يمثّل استمرارية لنفس العقلية التي حكمت لبنان لعقود، حيث تُستخدم الوزارات السيادية كأدوات لتمرير السياسات الخارجية. واللافت أن القوى التي تعارض تعيينه لم تقدّم بديلاً إصلاحيًا مستقلًا، بل هي تناور لضمان بقاء وزارة المالية في يد الثنائي الشيعي، عن طريق جابر نفسه. ليس لضبط الإنفاق أو إعادة هيكلة الدولة، بل لضمان استمرار  النموذج نفسه  والقدرة على التحكم بمفاصل القرار المالي، بما يخدم التحالفات السياسية التقليدية واستدامتها.

ما يزيد من تعقيد المشهد هو التوافق اللافت بين ممثلي اللجنة الخماسية (الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، قطر، ومصر)، الذين يستخدمون جميعًا مفردات متقاربة عند الحديث عن الأزمة اللبنانية. هذا التوافق لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتيجة مباشرة لما يمكن وصفه بـ”الوصفات الجاهزة” التي يجري تداولها عبر القنوات الدبلوماسية وصندوق النقد الدولي، والتي باتت أشبه بإطار عام يتم فرضه على أي حكومة لبنانية مقبلة، بغض النظر عن مكوناتها. فالمجتمع الدولي يتعامل مع لبنان باعتباره “ملفًا ماليًا وأمنيًا” أكثر من كونه دولة ذات سيادة، ويبدو أن التعهدات الدولية بالمساعدات مشروطة بقبول لبنان بإجراءات اقتصادية صارمة ومؤلمة أي أشد إيلامًا من اليوم، تتضمن بعض الضرورات الحميدة كهيكلة القطاع المصرفي، وحل مشكلة السطو على الودائع وإقرار إصلاحات إدارية شاملة، وهي أمور لن تكون سهلة في ظل شبكة المصالح الراسخة إضافة الى رفع الدعم نهائيًا عن ما تبقى من السلع. دون بنت شفة عن نظم الحماية الاجتماعية والطبابة وضمان الشيخوخة. وللعلم أن سياسة الدعم لم تكن يومًا لصالح الفئات الضعيفة بقدر ما كانت أحد أصناف التنفيعات الزبائنية في حلقة التجار الضيقة.

في المقابل، لم يكن التحرك الإسرائيلي بعيدًا عن هذه الترتيبات. فمنذ اليوم الأول بعد وقف إطلاق النار، خرجت تل أبيب عمليًا من أي التزام بالتهدئة، مستمرة في انتهاكاتها، في محاولة لفرض واقع جديد على الأرض. فإسرائيل تدرك أن تعديل ميزان القوى الداخلي في لبنان، سواء عبر الضغط على تشكيل الحكومة الجديدة أو التعبير عن سخطها في ترتيب توزيع الحقائب، يمنح حزب الله فرصة ذهبية لتعزيز حضوره في المعادلة السياسية. وبالتالي، فإن تل أبيب تعمل على تصعيد متدرج يهدف إلى إبقاء لبنان في حالة استنزاف دائمة، يمنعه من استثمار أي استقرار داخلي لإعادة ترتيب أوراقه.

إلى أين يتجه لبنان؟ المعركة اليوم ليست حول الإصلاح بحد ذاته فقط، بل حول من يحق له أن يقود هذا الإصلاح، وبأي شروط. فهل يكون الحل عبر تسليم القرار الاقتصادي لصندوق النقد بالكامل، أم عبر ترك الأمور في يد الطبقة السياسية نفسها التي نهبت الدولة؟ أم أن الخيار الثالث، وهو الأكثر واقعية، يكمن في تمكين الكفاءات اللبنانية، بغض النظر عن خلفياتهم الأكاديمية أو انتماءاتهم الحزبية، من وضع خطة وطنية تحافظ على السيادة، ولكن دون أن تتحول إلى مواجهة عبثية مع المجتمع الدولي؟

هذه هي الأسئلة التي يجب أن تُطرح، بدلًا من الانشغال بمعارك توزيع الحصص، التي لا تؤدي إلّا إلى تعميق الأزمة، وإبقاء لبنان في حالة من الشلل السياسي والاقتصادي، التي لن يستفيد منها إلا من يريد أن يبقى البلد رهينة للضغوط الخارجية، ومحرومًا من أي فرصة حقيقية للخروج من نفق الانهيار.

للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com

https://hura7.com/?p=43351

الأكثر قراءة