الثلاثاء, أبريل 29, 2025
17.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للبنان

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

يواجه حزب الله اليوم إشكالية بنيوية تتعلق بقدرته على الاندماج الكامل في الدولة اللبنانية، وهي مسألة تُطرح بقوة في ظل التحولات الداخلية والإقليمية المتسارعة. كيف يمكن لتنظيم عقائدي أممي مسلح، يمتلك نفوذًا عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، أن يتحول إلى حزب لبناني محض دون أن يفقد جوهره الأيديولوجي والعسكري؟ هذه الإشكالية تفتح الباب أمام مجموعة من التعقيدات والتناقضات التي تجعل أي محاولة لـ”لبننة” الحزب صعبة ومليئة بالعوائق البنيوية والسياسية.

لم يكن حزب الله منذ تأسيسه كيانًا محليًا بحتًا، بل تشكل كجزء من مشروع عقائدي إقليمي يرتبط بمحور المقاومة الذي يمتد من طهران إلى بغداد ودمشق وصولًا إلى بيروت. هذا الارتباط ليس مجرد تحالف سياسي بل هوية أيديولوجية تقوم على مبدأ “الولاية”، ما يجعل فصله عن إيران أو تحويله إلى كيان لبناني صرف أمرًا شبه مستحيل. فبنية الحزب التنظيمية والعقائدية تعتمد على علاقته العضوية بمحور طهران، ما يعني أن أي تحول في طبيعته يجب أن يبدأ من هناك، وليس فقط داخل الساحة اللبنانية.

إن اللبننة تتطلب إعادة تعريف الحزب لنفسه خارج هذه المنظومة الإقليمية، وهو ما يتعارض مع فلسفته التأسيسية القائمة على كونه جزءًا من معركة أوسع تتجاوز حدود لبنان. فهل يمكن للحزب التحول إلى كيان لبناني مستقل دون أن يخسر هويته الجوهرية؟

لا يمكن الحديث عن اندماج حزب الله في الدولة اللبنانية دون التطرق إلى مسألة سلاحه، الذي بات جزءًا من معادلة القوة في المنطقة وليس فقط في لبنان. فالحزب يحتفظ بترسانة عسكرية ضخمة.

المعضلة تكمن في أن أي محاولة لنزع سلاح الحزب أو دمجه في الجيش اللبناني تعني بالضرورة تغيير عقيدته القتالية والسياسية، وهو ما يرفضه الحزب، حيث يرى أن السلاح ليس مجرد أداة عسكرية بل ركيزة أيديولوجية تمنحه التفوق في صراعاته الإقليمية.

كما أن وجود سلاحه خارج سلطة الدولة يطرح إشكالية مزدوجة من جهة، يسمح له بتحديد قرار الحرب والسلم بمعزل عن المؤسسات الرسمية، ما يجعل الدولة اللبنانية عاجزة عن امتلاك سيادتها الكاملة. ومن جهة أخرى، يجعل أي محاولة للبننة الحزب تصطدم بواقعه ككيان مستقل عسكريًا وأمنيًا، يمتلك آليات حكم موازية من خلال أجهزته الخاصة.

على المستوى الداخلي، يمثل حزب الله أكثر من مجرد حزب سياسي أو تنظيم عسكري، فهو نظام اجتماعي واقتصادي متكامل داخل بيئته، حيث يمتلك مؤسسات صحية وتعليمية وخدماتية تنافس مؤسسات الدولة نفسها. هذه الشبكة القوية تمنحه قاعدة شعبية صلبة، لكنها في الوقت نفسه تجعل عملية دمجه في الدولة أكثر تعقيدًا.

إن أي محاولة لتقليص نفوذه داخل الدولة اللبنانية قد تؤدي إلى استنفار قاعدته الشعبية، التي تعتبره درعها الحامي في مواجهة التهديدات الخارجية والمواقع التي حصلها في الداخل. وبالتالي، فإن أي طرح لتعديل دوره يجب أن يكون مدروسًا بعناية، بحيث لا يُشعر مناصريه بأنه يتحول إلى حزب تقليدي ضمن نظام سياسي فاشل ومهترئ.

في المقابل تتعرض الدولة اللبنانية إلى ضغوط إقليمية ودولية متزايدة تدعو إلى احتواء حالة الحزب ضمن المؤسسات الرسمية أو تحجيم دوره السياسي وإلغاء دوره العسكري. إلا أن هذه الضغوط تواجه تحديين رئيسيين:

  • داخليًا، ضمن نظام طائفي مذهبي ثمة قوى سياسية ترى وجوده منزوع السلاح ضرورة ويمكن الاعتماد عليه كحليف استراتيجي ضمن النظام.
  • خارجيًا، هناك واقع جديد في الإقليم حيث لم يعد حزب الله يمتلك نفس الغطاء الإقليمي الذي كان متاحًا له في السابق.

لقد كان الانقلاب السوري لحظة حاسمة في إعادة تشكيل موقع الحزب، فبينما كان يعتمد على دمشق كعمق استراتيجي، بات اليوم أكثر عزلة بعد التحولات التي شهدها النظام السوري، ولم يعد هذا النظام يشكل حليفًا مطلقًا للحزب كما كان في الماضي. ومع تقارب بعض الدول الإقليمية مع إيران، باتت حسابات طهران أكثر براغماتية، ما يفرض على الحزب خيارات أكثر حذرًا.

تشكل مسألة قرار الحرب والسلم في لبنان نقطة ارتكاز أساسية في الجدل حول حزب الله. فمن المفترض أن يكون هذا القرار بيد الدولة ومؤسساتها الدستورية، لكن الحزب احتفظ تاريخيًا بحق التصرف وفق رؤيته الاستراتيجية الخاصة، سواء فيما يتعلق بمواجهة إسرائيل أو بالانخراط في الصراعات الإقليمية.

هذا الواقع يضعف الدولة اللبنانية ويجعلها عاجزة عن فرض سلطتها الكاملة، كما أنه يُبقي لبنان في حالة صدام دائم مع المجتمع الدولي، مما يؤثر على استقراره الاقتصادي والسياسي.

إن أي محاولة جادة للبننة الحزب تتطلب إعادة النظر في موقعه داخل الدولة، دون أن تُفسر بأنها خطوة تهدف إلى نزع قوته بالكامل. غير أن السؤال الأهم يبقى: هل يمكن لحزب الله أن يتخلى عن هذا الامتياز دون أن يفقد هويته الأساسية؟ هل يتكيف الحزب مع الواقع الجديد؟

أظهرت بعض الخطابات الأخيرة للحزب إشارات إلى إمكانية تبني خطاب أكثر انفتاحًا تجاه الدولة، لكنه لا يزال بعيدًا عن إحداث تغيير جوهري في بنيته.

وموضوعيًا، إن الضغوط الاقتصادية والسياسية المتزايدة قد تدفع الحزب إلى مراجعة بعض خياراته، لكن دون التخلي عن ثوابته الأساسية. أي أن التحول قد يكون تكتيكيًا وليس استراتيجيًا، بمعنى أنه قد يتجه نحو مزيد من الانخراط في المؤسسات اللبنانية، ولكن دون التخلي عن جوهره العقائدي والعسكري.

إن أي تحول حقيقي لن يكون سريعًا أو بسيطًا، بل سيظل مشروطًا بالتحولات الإقليمية والدولية التي قد تعيد رسم خريطة النفوذ في المنطقة.

وبينما يواجه لبنان تحديات مصيرية، يبقى السؤال مطروحًا: هل يستطيع حزب الله إعادة إنتاج نفسه ضمن بيئة لبنانية خالصة، أم أنه سيبقى أسيرًا لارتباطاته الأيديولوجية والإقليمية، مما يعمّق أزمته بدلًا من حلها؟

المسألة ليست مجرد حسابات سياسية أو عسكرية، بل باتت مرتبطة بمصير مشروع الحزب بأكمله، وبقدرته على الصمود وسط تحولات إقليمية قلبت الطاولة على قواعد اللعبة القديمة. لم يكن تشييع الأمينين العامين للحزب مجرد مناسبة جنائزية، بل كان اختبارًا عمليًا لمدى قدرة الحزب على الاستمرار بنفس النهج، رغم الضغوط المتزايدة، التي لم تعد تقتصر على إسرائيل وأميركا فحسب، بل باتت تأتي من الداخل اللبناني، ومن بعض القوى الإقليمية التي لم تعد مستعدة لتحمل تبعات المغامرات غير المحسوبة. خاصة ان الحزب في معركته المستميتة ضد إسرائيل حافظ على دوره المرتبطً أكثر فأكثر بحماية منظومة سياسية مكروهة، بدل أن يكون جزءًا من مشروع وطني مواز لجهاده التحريري.

خطاب نعيم قاسم خلال التشييع عكس هذا التوتر بين الاستمرار في النهج التقليدي وبين محاولة إيجاد مخارج تحفظ توازن الحزب. فهو أكد على ثوابت المقاومة، لكنه في الوقت نفسه أشار إلى ضرورة إشراك الدولة اللبنانية في القرارات العسكرية. هذا التحول، وإن بدا بسيطًا، يعكس محاولة الحزب التخفيف من وطأة العزلة المتزايدة التي يعاني منها، عبر تحميل الدولة جزءًا من المسؤولية، بما يسمح له بتبرير أي تراجع تكتيكي قد يضطر إليه في المستقبل.

في المقابل، موقف الرئيس جوزيف عون الذي عبر فيه أمام الوفد الايراني بأن “لبنان تعب من حروب الآخرين على أرضه” ليس مجرد توصيف للوضع، بل هو إشارة واضحة إلى أن استمرار الحزب في نهجه الحالي لم يعد مقبولًا، وأنه لا بد من إعادة ضبط العلاقة بينه وبين مؤسسات الدولة.

بعد التشييع، تدخل البلاد مرحلة جديدة، حيث سيُختبر الحزب في مدى قدرته على إدارة هذا التحول. فهل يختار نهج التكيف التدريجي، عبر تقديم تنازلات مدروسة تضمن له البقاء ضمن المعادلة السياسية، أم يصر على نهج المواجهة، مما قد يضعه في مواجهة ضغوط لا يستطيع تحملها على المدى الطويل؟ هل يدرك الحزب أن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأن ما كان صالحًا بالأمس قد لا يكون مناسبًا اليوم، أم أنه سيواصل الرهان على معادلات تجاوزها الزمن؟

إذا كان الحزب قد استطاع فرض معادلاته في العقود الماضية، فإن الواقع اليوم مختلف تمامًا، حيث لم يعد النفوذ العسكري وحده كافيًا لضمان الاستمرارية. الأشهر المقبلة ستكون حاسمة، فإما أن يسير الحزب نحو تحول استراتيجي مدروس، يضمن له موقعًا ضمن الدولة اللبنانية، أو أن يجد نفسه في مواجهة معادلات لم تعد تصب في مصلحته.

https://hura7.com/?p=45348

الأكثر قراءة