الثلاثاء, أبريل 29, 2025
16.4 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ حكومة العهد الأولى: بين مسؤولية الطوارئ ومسؤولية النهوض

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

  • “ليس المهم أن تصل، المهم أن تنجز”
  • “من يهن، يسهل الهوان عليه”

لم تتشكل الحكومة بعد، لكن اللبنانيين لا ينتظرون إعلان التشكيلة للحكم على أدائها، فذلك شأن يخص الطبقة السياسية التي تجيد الصفقات والمساومات. أما الناس، فانتظارهم من نوع آخر؛ هم يستعجلون الحكومة ليس لمراقبة توزيع الحقائب الوزارية، بل لانتشالهم من وحول سلطة دفعتهم إلى الجحيم. المطالب معروفة، والأولويات محددة، والجوع والمرض والانهيار لا يملكون ترف الانتظار. ليس القصد إرهاق الحكومة قبل أن تصل، ولأنها حكومة العهد الأولى، ولأنها حكومة خلاص وطني، لا بدّ أن تعي منذ اللحظة الأولى أن انتظارات اللبنانيين لا تتغير خلال يوم أو أسبوع، بل هي مطالب متجذرة بحجم سنوات من الانهيار. من يدخل هذه الحكومة لا يدخلها بوصفه مجرد وزير، بل كحامل لمشروع خلاص وطني، وعليه أن يعي أن اللبنانيين لن يقبلوا بعد اليوم بالتسويات التي تعيد إنتاج الأزمة أو المسكنات التي تخدرها إلى حين.

هذه الحكومة تقف بين مسؤوليتين مترابطتين لا تقل إحداهما أهمية عن الأخرى: مسؤولية الطوارئ ومسؤولية النهوض. لا يمكن الفصل بين الاستجابة الفورية لحالة الانهيار وبين وضع البلاد على مسار التعافي المستدام. الإنقاذ الفوري بلا رؤية إصلاحية مجرد ترقيع، والإصلاح بلا إجراءات إنقاذ عاجلة ليس سوى خطاب فارغ. الوقت لم يعد يسمح بالمماطلة، ولا بإعادة تدوير الأزمة تحت أي شعار.

لبنان المنهار: الأمن، الخبز، الصحة، السكن، والتعليم

لبنان ليس دولة منهارة فحسب، بل هو ساحة فوضى منظمة، حيث تتحكم قوى الأمر الواقع بالمناطق، ويتلاعب الفاسدون بالاقتصاد، وتستمر الدولة بالتآكل. فلا دولة بلا أمن، والأمن ليس مجرد ضبط الشارع، بل استعادة سلطة القانون، وإنهاء الدويلات، وحصر القرار العسكري والسيادي بيد الدولة اللبنانية وحدها. وهذا يعني تطبيق القرارات الدولية كـ1701، ونشر الجيش في الجنوب، واستعادة السيطرة على كل المناطق التي تحولت إلى جزر مغلقة.

لكن الأمن بلا استقرار معيشي يبقى مهتزاً. فالجائع لن يهتم بأمن الشوارع إذا كان منزله خاوياً، والمريض لن يهتم بالقوانين إذا أوصدت أبواب المستشفيات بوجهه. الحكومة مطالبة بوضع خطة اقتصادية طارئة تبدأ بتصحيح الأجور بما يتناسب مع انهيار العملة، وتأمين الحد الأدنى من القدرة الشرائية، وإعادة هيكلة الدعم عبر نظام حماية اجتماعية شامل يمنع استغلاله لمصلحة شبكات الفساد والتهريب.

أما الطبابة، التي كانت فخر لبنان، فقد أصبحت رفاهية لا يقدر عليها إلا المحظوظون. فاللبنانيون يريدون ضماناً صحياً شاملاً ونظام حماية اجتماعية، لا وعوداً عرقوبية. على المستشفيات الحكومية أن تستعيد دورها، وأن يوضع نظام تأمين صحي يحمي المواطن من ابتزاز الشركات التجارية. كذلك، فإن الشيخوخة ليست لعنة، بل هي كرامة، وما نهب من حقوق المتقاعدين من معاش يجب أن يعاد إليهم. فهو ليس هبة، بل نتيجة لعملهم طوال حياتهم.

التعليم الرسمي لا يمكن أن ينهار، لأن انهياره يعني كارثة تتجاوز الاقتصاد إلى تفكيك المجتمع بالكامل. المدارس والجامعات الرسمية تحتاج إلى إنقاذ فوري. فالتعليم ليس سلعة تجارية، بل حق لكل مواطن، وهو أساس أي مشروع نهوض حقيقي. فلا معنى للبنان بلا مدارس وجامعات قوية، ولا يمكن لأي خطة إصلاحية أن تتجاهل مراقبة أداء وأقساط وبرامج المؤسسات التعليمية الخاصة الفطرية المنبت والتي تحولت إلى مؤسسات تجارية بامتياز.

أما السكن، فإن العشوائيات التي تفرزها الفوضى العمرانية ليست سوى انعكاس لغياب الدولة. ويجب إعادة تنظيم الأراضي وفق المخطط التوجيهي العام، ووقف تعديات أصحاب النفوذ الذين حولوا لبنان إلى غابة إسمنتية بلا روح، بينما يعاني عشرات الآلاف من التشرد.

 إعادة بناء الاقتصاد المنتج: لا اقتصاد ريعي بعد اليوم

لبنان لن ينهض ما دام اقتصاده يعتمد على الريع والمضاربات والعقارات، ويهمّش القطاعات الإنتاجية. تشجيع العودة إلى الريف، وتطوير الزراعة والحرف والصناعات المحلية، وتحفيز الاستثمار في التكنولوجيا والطاقة المتجددة، هو السبيل الوحيد لإنهاض الاقتصاد بشكل مستدام. لا يمكن لأي دولة أن تعيش على الاستيراد فقط، ولا يمكن لأي حكومة أن تكون جادة في النهوض إذا لم تضع رؤية اقتصادية تحرر لبنان من الارتهان للخارج.

التعاون مع العالم العربي ليس خياراً، بل ضرورة. لبنان يحتاج إلى استعادة موقعه ضمن النسيج العربي اقتصادياً وسياسياً، وإعادة بناء علاقاته العربية والخليجية خاصة بشكل يحترم مصالحه وسيادته. لا يمكن للبنان أن يكون في عزلة عن الدول التي شكلت تاريخياً داعماً لاستقراره، ولا يمكن أن يبقى رهينة لمشاريع إقليمية لا تخدم إلا مصالح قوى خارجية.

الإدارة العامة والهيئات الرقابية: لا دولة ببيروقراطية فاسدة

لا نهوض للدولة بوجود إدارة عامة مثقلة بالمحسوبيات والوظائف الوهمية. الهيئات الرقابية الشهابية كالتفتيش المركزي وديوان المحاسبة والتفتيش المالي ومجلس الخدمة المدنية، يجب أن تستعيد صلاحياتها، وأن يتم إنشاء مجلس مستقل لمكافحة الفساد بسلطات تنفيذية لا تخضع لتدخلات السياسة. كما أن الوزارات بحاجة إلى إعادة هيكلة، بحيث يتم دمج بعضها وإلغاء أخرى وقد أصبحت مجرد عبء على المالية العامة.

لا حكومة ستنجح إن لم تبدأ بعملية ترشيق إداري حقيقية، تنهي عقود التوظيف السياسي، وتعيد الاعتبار للكفاءة والجدارة.

إعادة الإعمار والبنية التحتية: ركيزة النهوض

إعادة الإعمار ليست مجرد ورشة هندسية، بل مشروع وطني يجب أن يبدأ بوضع خطة شاملة لإعادة تأهيل الطرقات والجسور، وإصلاح شبكة المياه المتهالكة، وإعادة بناء منظومة الكهرباء. لم يعد مقبولاً أن يبقى لبنان بلداً غارقاً في الظلام بينما يملك إمكانيات للطاقة الشمسية والمائية والرياح. كما أن قطاع الاتصالات بحاجة إلى إصلاح جذري، لأنه لا يمكن لدولة تتحدث عن النهوض أن تبقى متخلفة في قطاع حيوي كهذا. و من ناحية أولى لا بد من إعادة إعمار القرى التي دمرها العدوان الإسرائيلي الأخير و توفير مقومات العيش في هذه القرى المدمرة كلياً وكذلك التطلع إلى التعويض لمتضرري انفجار المرفأ.

استرداد الأموال المنهوبة: لا تسويات، لا مماطلة

لا يمكن لحكومة نواف سلام أن تتحدث عن أي خطة اقتصادية أو تعافٍ مالي دون مواجهة مباشرة لأكبر عملية سرقة في تاريخ لبنان: نهب ودائع اللبنانيين. لا إصلاح دون استعادة هذه الأموال، ولا دولة تستحق الاحترام إن لم تبدأ بمحاسبة من هرّب الأموال وحمى مصالحه على حساب شعب بأكمله. اللبنانيون لم يعودوا يقبلون بعناوين فضفاضة حول “المحاسبة”، بل يريدون إجراءات ملموسة، تتضمن خريطة واضحة لاسترجاع الأموال المهربة، وفتح الملفات دون استثناءات، وتفعيل القضاء المستقل بعيداً عن تدخلات السياسيين.

البيئة: أساس الاستدامة ومستقبل لبنان الأخضر

لبنان الذي عرف بجباله الخضراء وسواحله الجميلة، تحوّل إلى مكب نفايات ضخم بفعل عقود من الإهمال والفساد. البيئة ليست ترفاً، بل هي أساس الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية، والحكومة الجديدة لا يمكنها أن تتجاهل هذا الملف المصيري. إعادة تدوير النفايات، تنظيم المقالع والكسارات، وقف تلويث الأنهر، وتأمين حلول مستدامة لمياه الشرب والطاقة النظيفة، كلها إجراءات لا تحتمل المماطلة.

لا يمكن للبنان أن ينهض إذا كانت مدنه تختنق بالتلوث، وإذا كانت جباله تقتلع لصالح مافيات المقالع. الإصلاح البيئي ليس مجرد ملف جانبي، بل هو ضرورة وطنية تتقاطع مع الصحة العامة، السياحة، والزراعة، وهو ملف سيادي بامتياز، لأن الموارد الطبيعية للبنان لا يمكن أن تبقى رهينة حفنة من المتنفذين.

لبنان بلد الحريات: الحصن الأخير لبناء وطنية لبنانية متجددة

لبنان لم يكن يوماً مجرد مساحة جغرافية، بل كان منارة للحريات والتعددية في الشرق، لكن هذه الحريات، التي جعلت منه منبراً للفكر والإبداع، قاومت القمع السياسي والقيود المفروضة على الإعلام والمجتمع المدني. فحرية التعبير ليست ترفاً، بل هي جوهر لبنان، ولا يمكن لأي حكومة أن تنجح دون أن تضمن حرية الإعلام، استقلالية القضاء، وحماية الحقوق المدنية.

إعادة الروح للنقابات: استعادة صوت العمال والمهن الحرة

عُرف لبنان بحركة نقابية قوية كانت في طليعة الدفاع عن حقوق العمال والموظفين والمهن الحرة، لكنها اليوم شبه مشلولة، إما بسبب اختراقها من الأحزاب والطوائف، أو نتيجة التهميش الممنهج لدورها. لا يمكن للحكومة أن تنجز إصلاحاً اقتصادياً واجتماعياً حقيقياً دون إعادة تفعيل الحركة النقابية لتكون ممثلة حقيقية للعاملين، بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة.

إعادة الروح للنقابات تعني إعادة التوازن إلى العلاقة بين الدولة، القطاع الخاص، والعمال. لا يمكن أن تستمر الأجور في الانخفاض بينما ترتفع الأرباح في بعض القطاعات. لا يمكن أن يبقى العامل اللبناني بلا حماية، بينما تتراجع الضمانات الاجتماعية والصحية.

يجب أن تعود النقابات إلى دورها الطبيعي في الدفاع عن مصالح الفئات الأكثر ضعفاً، وليس أن تتحول إلى مجرد أذرع لأحزاب السلطة. كما يجب إعادة النظر في القوانين التي تحكم العمل النقابي، بما يضمن استقلاليته وحمايته من التسييس والفساد الداخلي.

اللبنانيون لا ينتظرون معجزات، لكنهم أيضاً لن يقبلوا بخيبات جديدة. حكومة نواف سلام ليست حكومة عادية، بل حكومة اختبار أخير للبنان الدولة. أمامها طريق واضح، وأمامها مجتمع ينتظر. فإما أن تبدأ الحكومة بتنفيذ الإصلاحات فوراً، أو أن تتحول إلى محطة أخرى في مسلسل الانهيار. الخيار ليس للحكومة وحدها، بل لكل من يؤمن أن لبنان ما زال يستحق فرصة أخيرة للنهوض.

للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com

https://hura7.com/?p=43889

الأكثر قراءة