الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- “كل تأخير في مواجهة الحقيقة لا يزيدها إلا خطورة” – وينستون تشرشل
- “من يرفض التغيير يحكم عليه بأن يعيش في الأزمات ذاتها مرارًا وتكرارًا – جورج سانتايانا
- “المياه تكذّب الغطاس”
اللبنانيون ليسوا في انتظار حكومة جديدة بقدر ما هم في انتظار معرفة ما إذا كان ما يجري هو محاولة فعلية لإنقاذ البلد أم مجرد عملية إعادة إنتاج لمعادلة الحكم التي أفرغت الدولة من مضمونها. الأسماء قد تتغير، لكن الجوهر هو ما يهم: هل ستكون هذه الحكومة مجرّد وجه آخر لنظام مترهل يحكم بالمحاصصة والتسويات العقيمة، أم أنها ستشكل نقطة انعطاف حقيقية نحو إعادة بناء ما تهدم؟
لا شيء حُسم بعد، لكن الاتجاه العام لا يوحي بالكثير من التفاؤل. التوازنات السياسية تثقل عملية التشكيل، والمفاوضات الناشطة لا تدور حول برنامج عمل واضح أو رؤية إصلاحية محددة، بل حول كيفية توزيع الحقائب بين الجماعات النيابية. والنتيجة المتوقعة، إذا استمر هذا المسار، ليست إلا حكومة مفرغة من القدرة على اتخاذ القرار، حكومة تدير الأزمة بدل حلّها، حكومة تحاول إرضاء الجميع لكنها في النهاية لا ترضي أحدًا، والأخطر أنها لا تقدم شيئًا للناس الذين يدفعون ثمن هذا الانهيار.
أي حكومة تُبنى على منطق تقاسم السلطة ستكون استمرارًا للأزمة
منذ بدء الحديث عن التشكيل، تبدو القوى السياسية كأنها في سباق لضمان مواقعها لا لضمان مستقبل البلاد. لا أحد يتحدث عن خطة واضحة لوقف الانهيار الاقتصادي أو استعادة الثقة الدولية، بل عن كيفية الحفاظ على النفوذ والمصالح في مرحلة انتقالية حساسة. واللبنانيون ليسوا بحاجة إلى قراءة التحليلات السياسية ليدركوا أن أي حكومة تتشكل بهذه الذهنية لن تكون إلا تكرارًا للسيناريوهات السابقة. فإذا كانت التركيبة الحكومية المقبلة ستعتمد مجددًا على منطق الترضيات، وإذا كانت بعض الأسماء المطروحة ليست إلا امتدادًا لسياسات المحاصصة، فمن أين يمكن أن يأتي الإصلاح؟
ليس هناك شك في أن تشكيل حكومة إصلاحية في بلد مثل لبنان مهمة شبه مستحيلة، لكن من الخطأ أيضًا الاعتقاد بأن كل ما هو ممكن هو تقديم تسوية جديدة بوجوه مختلفة. التغيير لا يحتاج إلى إقصاء الجميع، لكنه يحتاج إلى إطار جديد يفرض معادلات مختلفة. لا يمكن الحديث عن أي مشروع إصلاحي فيما لا يزال صانعو الأزمة هم من يتحكمون بإدارة الحلول. حكومة تولد بهذه الشروط لن تكون قادرة على اتخاذ قرارات شجاعة، لأنها ستكون محكومة منذ لحظة ولادتها بحسابات القوى التي شكلتها.
اللبنانيون ليسوا مجرد متفرجين، بل ضحايا لقرارات تُتخذ فوق رؤوسهم
المشهد السياسي لا يتحرك بناءً على مطالب الناس، بل وفق لعبة مصالح لا تأخذ في الاعتبار أن الانهيار المستمر يمس كل بيت، وأن الفوضى المالية ليست مجرد أزمة تقنية بل كارثة إنسانية حقيقية. اللبنانيون يرون بأم أعينهم كيف تتحول نقاشات التشكيل إلى صفقات بدل أن تكون خطوات نحو الإنقاذ، وكيف تُدار البلاد كأنها شركة تتفاوض على توزيع الأرباح بينما الخسائر تتراكم على الجميع. والنتيجة هي أن الثقة في أي حكومة جديدة ليست رهنًا فقط بوعودها، بل بشكلها ومنطلقاتها وآلية تشكيلها.
إذا جاءت هذه الحكومة وفق القواعد التقليدية، ستكون رسالتها واضحة: لا تغيير في الأفق، ولا أمل في المستقبل القريب. وإذا كان المطلوب هو الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي، فما فائدة التفاوض على حصص القوى السياسية؟ أي تناقض هذا بين الادعاء بأن الوضع يتطلب قرارات جريئة، وبين الإصرار على أن تكون الحكومة وليدة المحاصصة؟ هذه ليست حكومة تُبنى لإنقاذ بلد، بل حكومة تُصنع لتكون وسيطًا بين الداخل والخارج، بلا هوية، بلا خطة، وبلا مشروع.
التحدي الحقيقي: هل سيتم كسر الحلقة المفرغة؟
اللبنانيون يدركون أن الحكومة ليست الحل النهائي، لكنهم يعرفون أيضًا أن حكومة أخرى تقوم على المنطق نفسه لن تكون إلا إطالة للأزمة. التغيير لا يعني انقلابًا على الواقع، لكنه يعني على الأقل تقديم مقاربة جديدة، تقوم على إعطاء الأولوية لكفاءة الوزراء بدل حساباتهم السياسية، وعلى تشكيل فريق قادر على اتخاذ قرارات حقيقية بدل أن يكون مجرد واجهة لحكم لا يزال يحكم بالعقلية نفسها التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع.
إذا كان لا بد من تمثيل القوى السياسية، فلماذا لا يكون ذلك وفق شروط جديدة تضمن أن يكون كل وزير مسؤولًا أمام الناس وليس فقط أمام مرجعيته السياسية؟ وإذا كان لا مفر من التوازنات، فلماذا لا يكون هناك التزام واضح بأجندة إنقاذية، بدل أن يكون كل قرار رهنًا بتفاهمات تعقد خلف الأبواب المغلقة؟ اللبنانيون لا ينتظرون المعجزات، لكنهم يرفضون أن يكونوا شركاء في مسرحية جديدة تنتهي إلى النتيجة نفسها: وعود كبيرة، نتائج معدومة، وخيبة أخرى تُضاف إلى سجل الخيبات الطويل.
مافيا المصارف، الصحافة الصفراء، والدولة العميقة: ثلاثية خنق أي إصلاح
ليس الفساد مجرد سوء إدارة، بل هو منظومة متكاملة تحمي نفسها عبر أدوات متشابكة. الطبقة السياسية ليست وحدها من يدافع عن بقاء النظام كما هو، فهناك مصارف مارست أكبر عملية سطو في تاريخ لبنان، وصحافة صفراء تعمل على تضليل الرأي العام وتشويه أي محاولة للتغيير، ودولة عميقة تدير الملفات الحساسة من خلف الستار، وتقاوم كل محاولة لضبط الفوضى القائمة.
مافيا المصارف ليست مجرد مجموعة من المصرفيين الجشعين، بل تحالف مالي – سياسي استطاع أن يجعل النظام المصرفي فوق المحاسبة، وأن يحوّل الودائع إلى رهائن بيد السلطة. أما الصحافة الصفراء، فهي ليست مجرد أدوات إعلامية، بل مؤسسات تعمل على صناعة رأي عام مشوش، تقلب الحقائق، وتعيد إنتاج الخطاب السياسي ذاته الذي يبرر استمرار الانهيار على أنه أمر واقع لا يمكن تغييره. والدولة العميقة، بما تضم من شبكات مصالح خفية داخل المؤسسات الأمنية والقضائية والإدارية، هي التي تضمن أن يبقى النظام محكم الإغلاق، بحيث لا يسمح حتى بكسر طفيف في الحلقة المفرغة.
الرغبة في التغيير موجودة، لكن هل تتحقق؟
رغم هذا المشهد القاتم، هناك حقيقة واضحة: اللبنانيون لم يستسلموا بعد. الرغبة في التغيير ليست مجرد فكرة عابرة، بل حالة شعبية تتنامى، وتتطلع إلى لحظة يمكن فيها كسر هذا الجمود، حتى لو كان مجرد كسر بسيط في جدار الأزمة. لا أحد يطلب المستحيل، لكن الجميع يدرك أن بقاء الأمور على ما هي عليه لم يعد خيارًا.
الحكومة لم تُعلن بعد، لكن إشاراتها مقلقة. إذا جاءت الحكومة وفق المقاييس نفسها، فستكون حكومة ضعيفة، تعيش تحت سقف التوازنات لا تحت سقف المصلحة الوطنية. وإذا جاء التشكيل ليؤكد أن التغيير لم يبدأ بعد، فسيكون ذلك رسالة غير مباشرة بأن هذه الفرصة أُهدرت كما أُهدرت فرص كثيرة من قبل.
اللبنانيون لا يطلبون المستحيل، لكنهم يعرفون أن كل تأخير، كل مناورة، كل تسوية لا تُبنى على أسس واضحة، تعني فقط أن الأزمة مستمرة، وأن الحل ليس قريبًا، وأن الأمل الذي كان قائمًا بدأ يتلاشى. في النهاية، الحكومة ليست مجرد سلطة تنفيذية، بل مؤشر على مسار بلد، فإما أن يكون الاتجاه إلى الإنقاذ، أو أن يكون العنوان الجديد للمرحلة: الفرصة الأخيرة ضاعت مرة أخرى.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com